1
1. الأحلامُ المُتكرِّرةُ
كانت بداية الحلم دائمًا متشابهةً.
رجلٌ بشعرٍ أسود وعينَين زرقاوَين يركع على ركبةٍ واحدة أمام رينا، ناظرًا إليها من الأسفل.
كانت وضعيّته تُشبه قَسَم فارسٍ لسيّدته.
لكن إذا كان هناك اختلافٌ عن قَسَم الفارس، فهو أنّ عينَي الرجل كانتا حمراوَين وكأنّه سيبكي في أيّ لحظة.
لم تكن هناك أيّ قداسةٍ للقَسَم في أيّ مكان. ما استقرّ على وجه الرجل كان حزنًا قويًّا بشكلٍ مُفرِطٍ ويأسًا مُروِّعًا.
بعد وفاة والدها الكونت دايك قبل شهرَين، كان هذا الحلم يتكرّر للمرّة الخامسة بالفعل.
كان محتوى الحلم متطابقًا دائمًا، كأنّ أداة تسجيلٍ سحريّة للصور تعمل.
ـ لا يمكنني أن أتركَكِ هكذا بعد الآن.
في هذا الحلم أيضًا، توسّل إليها الرجل.
بالتأكيد لم تكن رينا تعرفه، لكنّه عاملها كأنّه يعرفها جيّدًا، أو ربّما كأنّهما في علاقةٍ أكثر حميميّةً من ذلك.
أرادت رينا أن تسأل، مَن أنت؟ مَن أنت حتّى تنظر إليّ بهذا الحزن؟ لماذا تتوسّل إليّ هكذا؟
لكن لم يخرج صوتٌ.
حاولت تحريك فمها للتكلّم، لكن كالعادة كانت شفتاها تتحرّكان فقط، ولم تهتزّ أوتارها الصوتيّة كأنّها أميرة حوريّة البحر التي فقدت صوتها.
لماذا؟ لماذا، رغم أنّه حلمٌ، لا يسير وفقًا لإرادتي؟
بينما كانت تُحاول إخراج صوتٍ لن يخرج مع هذا السؤال، فتح الرجل فمه مُجدّدًا.
ـ هل ستقولين “لا” هذه المرّة أيضًا؟
كان صوته، الذي يُخرج كلّ حرفٍ بصعوبةٍ، مُؤلِمًا للغاية.
رغم أنّه سؤالٌ بسيطٌ، بدا أنّ قوله صعبٌ جدًّا عليه.
الرجل الذي كان أطول من رينا برأسٍ كاملٍ، وبنيته الجسديّة ضِعف حجمها على الأقلّ، لم يكن يتنفّس بشكلٍ صحيحٍ. ربّما لأنّه كان مسحوقًا باليأس.
لم تكن رينا تعرف هويّة الرجل، لكنّها، بغرابةٍ، كانت تستطيع الشعور بعُمقٍ بما يشعر به الآن.
يأسٌ وإحباطٌ، ندمٌ وحزنٌ، ثمّ ألمٌ.
كلّ المشاعر السلبيّة كانت داخل قلب الرجل.
شعرت بقلبها يرتجف معه، وكأنّها ستبكي.
ـ إذا أردتِ ذلك، فأنا مُستعدٌّ دائمًا للتخلّي عن كلّ شيءٍ لديّ.
بالتأكيد كان رجلًا لا تعرفه. ومع ذلك، أرادت رينا دائمًا أن تُجيبه هكذا على هذه الكلمات.
لا حاجة لأن تفعل ذلك من أجلي.
انسَ شخصًا تافهًا مثلي وامضِ في حياتك.
لكن هذه المرّة أيضًا، لم تخرج مشاعرها من فمها، ولم تتمكّن من إخباره بهذه الكلمات في النهاية.
استمرّ الرجل في كلامه كأنّه سمع أفكارها الداخليّة.
ـ حياتي بدونكِ لا معنى لها. حتّى لو تخلّيتُ عن كلّ شيءٍ، إذا استطعتُ الحصول عليكِ وحدكِ، فسأكون راضيًا بذلك.
لا، لا تفعل ذلك. لا يجب أن ترمي كلّ ثروتك ومجدك بسبب شخصٍ تافهٍ مثلي. بل على العكس، أنتَ أكثر ممّا أستحقّ.
دون أن تعرف أيّ شيءٍ عن الرجل، تمتمت رينا بذلك في داخلها.
ـ لذا أرجوكِ، يا سيّدة رينا.
أمسك الرجل يد رينا وضغط بشفتَيه على ظهرها.
ذراعها الذي ظهرت عندما ارتفع الكُمّ كانت مليئةً بالكدمات والجروح.
حاولت رينا غريزيًّا إنزال الكُمّ لإخفاء الجروح، لكنّ الرجل كان أسرع منها بخطوةٍ.
مسّد بإبهامه بحذرٍ حول الجرح الذي بدأ يلتئم للتوّ.
قطرةً، قطرةً.
سقطت دموع الرجل، التي لم يستطع كبتها، بحزنٍ على الجرح قطرةً بقطرة.
كان أمرًا غريبًا. رغم أنّه حلمٌ بالتأكيد، شعرت بكلّ تلك الأحاسيس بوضوحٍ تامّ.
الأنفاس الساخنة والمُضطربة التي تلمس ظهر يدها، وملمس الدموع الباردة التي تسقط على الجرح.
كأنّ هذا ليس حلمًا بل حقيقةً.
ـ كلّ ما تحتاجين قوله هو جملةٌ واحدةٌ هي سأرحلُ معك.
لا أستطيع فعل ذلك. سأُدمّر حياتك.
ـ إذا قلتِ “لا” هذه المرّة أيضًا، سأختطفكِ وآخذكِ معي حتّى لو اضطُررتُ لذلك.
لا تفعل، أرجوك.
تلاشت الكلمات التي لم تكتمل كفقّاعات.
يجب أن أقولها لك بالتأكيد. لا يمكنني أن أكون معك، لكن أرجوك لا تبكِ من أجلي.
لو قلتُ لكَ ذلك، أيّ تعبيرٍ ستُظهر؟
لكن معرفة تلك الإجابة كانت بعيدة المنال.
بمجرّد أن خطر لها هذا التفكير، أظلمت رؤيتها.
انتهى الحلم كالعادة، تاركًا وراءه الأسئلة فقط.
❖ ❖ ❖
بمجرّد أن فتحت عينَيها، سالت دموعٌ ساخنة على صدغَيها.
أدركت رينا أنّها حلمت مرّةً أخرى، فنظرت إلى السقف المألوف وأخذت نفسًا عميقًا.
لكن حتّى مع أخذ نفسٍ عميقٍ وعضّ شفتَيها، لم تهدأ مشاعرها المُتأجّجة بتاتًا.
بسبب رجلٍ رأته في حلمٍ فقط. ذلك الرجل الذي لا تعرف اسمه، ولا مكانته، بل لا تعرف حتّى إن كان موجودًا.
لكن رغم معرفتها أنّ هذا ردّ فعلٍ غير عقلانيّ، كانت رينا تبكي كلّما حلمت بالرجل، كشخصٍ فقد شيئًا ثمينًا.
شعورٌ بالخسارة كبيرٌ كالذي شعرت به عندما فقدت والدها الكونت دايك قبل شهرَين غمرها تمامًا.
شعرت كأنّها ودّعت شخصًا كان بجانبها.
لم تعرف السبب. فقط، كلّما استيقظت من الحلم الذي تكرّر خمس مرّاتٍ منذ وفاة والدها، كان الأمر كذلك.
كان من الأفضل لو عرفت السبب على الأقلّ، لماذا كان لدى الرجل ذلك التعبير الحزين؟
لا، كان من الأفضل لو كان الرجل شخصًا حقيقيًّا. لماذا يعيش في الأحلام فقط؟
إذا كان شخصًا لا يمكن مقابلته، فلماذا ينظر بتلك النظرة الحارقة؟ لماذا يتوسّل بصوتٍ مُلحٍّ كهذا؟
اليوم أيضًا، غطّت رينا نفسها بالبطّانية وبكت بصمتٍ.
لم تكن رينا نفسها تعرف من أين نبعت هذه المشاعر. فقط، حقيقة أنّها لا تستطيع مقابلة الرجل جعلتها حزينةً.
❖ ❖ ❖
“الآنسة دايك مُطيعةٌ جدًّا، وهذا أمرٌ رائعٌ. زوجتي السابقة كانت عنيدةً جدًّا لدرجة أنّني لم أشعر بأيّ عاطفةٍ تجاهها.”
لعق الرجل ذو الشعر البنّيّ، الفيكونت روتمان، شفتَيه وهو يتفحّص رينا من الأعلى إلى الأسفل.
يبدو أنّه لم يُدرك مُطلقًا أنّها تصمت لأنّها لا تريد التعامل معه.
حتّى قبل وفاة والدها، كانت رينا تركب الخيل وتجري في الحقول بجنونٍ، وكانت مُشاكسةً و متمردةً بحسب كلام أختها غير الشقيقة بيانكا.
لذا لقب المُطيعة لم يناسبها أصلًا.
ومع ذلك، السبب في أنّها تتحمّل كلّ هذا الإهانة هو لكي لا تُشوّه سُمعة والدها الكونت دايك.
والدها، الذي كان فارسًا يُقدّر النوايا الحسنة، علّم رينا دائمًا ألّا تتحمّل الظلم، لكن ألّا تُؤذي الآخرين بتهوُّرٍ.
رغم أنّ الفيكونت روتمان لم يُعجبها ورغم أقواله الوقحة، كان ضيفًا جاء إلى عائلة دايك.
كان من غير اللائق كعضوٍ في العائلة أن تغضب من الضيف.
لكن الفيكونت روتمان بدأ يتجاوز الحدود أكثر فأكثر عندما صمتت رينا.
“لكن كان من الأفضل لو غيّرتِ ذلك الفستان قبل المجيء.”
تلذّذ بالنظر إلى ملابس رينا.
الملابس التي ترتديها حاليًّا كانت فستانًا أسود يُغطّي كلّ شيءٍ من الرقبة إلى المعصمَين والكاحلَين، ولا يمكن العثور على أيّ جزءٍ مكشوفٍ. كان ثوب حدادٍ لتكريم والدها.
نظرت رينا إلى ملابسها بسرعةٍ، ثمّ قالت بهدوءٍ:
“لم يمرّ وقتٌ طويلٌ على وفاة والدي. يجب أن أقوم بواجبي كابنةٍ صالحةٍ.”
كانت نبرتها كأنّها تذكر حقيقةً واضحةً مثل أنّ الشمس تُشرق من الشرق.
لكن بالنظر إلى أنّ الكونتيسة دايك الجالسة في الجانب المقابل، وابنتها بيانكا، وآرون أخ رينا غير الشقيق، كانوا جميعًا يرتدون ملابس فاخرةً، كانت كلماتها متناقضةً حقًّا.
لذا، كانت هذه الكلمات توبيخًا للفيكونت روتمان، لكنّها في الوقت نفسه كانت انتقادًا لبقيّة أفراد العائلة.
ربّما اعتقد أنّه يتعرّض للتجاهل، فاحمرّ وجه الفيكونت روتمان وازرقّ.
بفضل النمش الكثيف على أنفه، بدا وجهه تمامًا كفراولةٍ ذابلةٍ.
“أنا أيضًا آسفٌ لما حدث للكونت دايك. لكن ألم يمرّ شهران بالفعل على الجنازة؟ لقد خلع الآخرون ثياب الحداد بالفعل، ألن يُصبح جوّ القصر أكثر كآبةً إذا بقيتِ وحدكِ ترتدين ثياب الحداد هكذا؟”
عادةً، فترة ارتداء ثياب الحداد في الإمبراطوريّة كانت حوالي شهرٍ.
لم يكن ذلك محدّدًا بالقانون، لكنّه كان العُرف الاجتماعيّ.
بقيّة أفراد عائلة دايك بدأوا يرتدون ملابس فاخرةً بمجرّد انقضاء ذلك الشهر، كأنّهم كانوا ينتظرون ذلك.
على عكس رينا التي ما زالت غارقةً في الحزن، لم يبدُ أنّهم آسفون على وفاة الكونت.
على أيّ حال، لمجرّد أنّ العُرف الاجتماعيّ كذلك، فإنّ ارتداء ثياب الحداد لأكثر من شهرٍ ليس عيبًا على الإطلاق.
بل على العكس، نظرًا لأنّ الفكرة السائدة في الإمبراطوريّة كانت أنّه كلّما أحببتَ عائلتك أكثر، كلّما ارتديتَ ثياب الحداد لفترةٍ أطول، كان يجب أن تُمدَح رينا على أنّها ابنةٌ بارّةٌ.
في الواقع، يُقال إنّ الإمبراطور السابق ارتدى ثياب الحداد لمدّة سنةٍ كاملةٍ عندما رحلت الإمبراطورة التي كان يُحبّها من أعماق قلبه. إذا فكّرنا في ذلك، فإنّ شهرَين قصيرٌ.
ومع ذلك، قال ذلك بنبرةٍ تعليميّة؟ سخرت في داخلها وفتحت فمها مُجدّدًا.
“حسنًا. يبدو أنّ أمي لم تكن تملكُ عاطفةً عميقةً لوالدي.”
هذه المرّة احمرّ وجه الكونتيسة دايك.
هزّت رينا كتفَيها لها كأنّها تقول “ما الخطأ في ذلك؟” وأخذت ملعقةً من شربات الليمون المُقدّم كحلوى.
بالتأكيد كانت الشربات حامضةً لدرجة أنّ العينَين تُغلقان تلقائيًّا، لكن ربّما بسبب الطعم المُرّ في فمها، لم تشعر بأيّ طعمٍ على الإطلاق.
التعليقات لهذا الفصل " 1"