كانت الأفكار مجرد أفكار فقط.
فالطلقة التي انطلقت فجأة استقرت بجانب رأس كونستا، فتطايرت شظايا الطوب المحطم وجرحت وجهه بخدوش سطحية.
قالت وهي تميل رأسها قليلًا:
“هل لديكم دليل على أنني من أطلقت النار؟”
فالمسدس والرصاص كلاهما يعودان للمقدم.
لوّحت تشاي هيون بيدها المغطاة بقفاز دانتيل رقيق، في إشارة إلى أن البصمات على فوهة المسدس ليست بصماتها أصلًا.
قال كونستا، محاولًا التماسك:
“لـ، لقد رأيناكِ بأعيننا!”
ابتسمت بخفة:
“جنديان قويان وضابط، في مواجهة امرأة واحدة لا تملك حتى رخصة سلاح؟ الناس لن يصدقوا أنني أنا من أطلقت النار.”
تجمد كونستا في مكانه، عاجزًا عن الرد أو التفكير بكلمة واحدة.
ثم تمتم، وكأنه اكتشف الحقيقة متأخرًا:
“سيدي العقيد، أعتقد أننا أخطأنا تمامًا في تقييمنا. تلك المرأة، أهي حقًا محامية؟ ربما هي عضوة في عصابة، أو تتبع إحدى المنظمات السوداء!”
كان مقتنعًا بأنها لم تكن سوى مجرمة دربتها منظمة إجرامية، وإلا فكيف يمكن لامرأة أن تطلق النار وتهدد الآخرين دون أن يرف لها جفن؟
أما راندولف، فلم يُبدِ أي تأييد أو اعتراض، واكتفى بالصمت والتفكير.
قال كونستا وهو يشير بحذر:
“انظر إلى وقفتها، واضح أنها أطلقت النار من قبل أكثر من مرة.”
رد العقيد بهدوء:
“أنا أرى ذلك بعيني.”
لكن كونستا تمتم بشكّ:
“إذن ما معنى ذلك الوجه المندهش وكأنها تفاجأت من مهارتها؟”
وجهها بدا كمن لم يكن يدرك أنه يجيد التصويب حتى اللحظة، كمن كان يصيب الأهداف بدرجة واحدة طوال عمره، ثم فجأة أصاب المركز تمامًا لأول مرة… وكأنه فخور بنفسه على نحو غريب.
لقد كان مشهدًا غريبًا.
فهي تمتلك وقفة دقيقة وثابتة لا تصدر إلا عن محترف إطلاق نار، ومع ذلك تبدو مسرورة بدهشة من إصابتها.
ثم خطر له احتمال مرعب:
ماذا لو لم تكن تلك المهارة حقيقية؟
ماذا لو كان ما حدث محض صدفة؟ وأن إصابة الجدار بجانب رأسه كانت ضربة حظ لا أكثر؟
تسلل البرد إلى أطرافه من شدة الرعب، وكأن شبح الموت ذاته وقف خلف إيلويز لافينتينا، حاملاً منجلًا ضخمًا.
ألقى كونستا نظرة متوسلة نحو قائده، لكن راندولف لم يبدِ سوى رفع حاجبٍ واحد وهو يراقبها بهدوء.
فلو لاحظ عليها أي تردد أو خوف من استخدام السلاح، أو لو خشي أنها قد تقتل أحدهم بطريق الخطأ، لكان حاول تهدئتها أو السيطرة عليها.
لكن المرأة لم تُبدِ أي تردد.
كل حركاتها كانت هادئة، محسوبة، وكأنها معتادة على هذا النوع من المواقف.
كانت وقفتها ثابتة، نظراتها حادة، وابتسامتها باردة كالثلج.
كانت كاملة.
حاول راندولف أن يجد ثغرة في وضعها، لكنه لم يستطع.
الزقاق كان خاليًا من الناس، والظل الطويل الممتد خلفها بدا كامتداد لهيمنتها، حتى اتجاه الرياح بدا كأنه يعمل لصالحها.
في تلك اللحظة، حين كان الصمت ثقيلًا، قرر كونستا أن يجرب حظه مرة أخرى بابتسامة متكلفة:
“المحامية لافينتينا، بصفتي ضابطًا في جيش وينشستر، فإنني أسعى دائمًا للسلام والاستقرار كغاية سامية…”
قاطعته بنبرة باردة:
“إن كنت ترغب في الموت بسرعة، وبسلام، دون أن تشعر بالألم، فواصل كلامك. أعدك أن أجعل كلماتك الأخيرة تخرج براحة.”
أغلق فمه على الفور.
حتى الجريء لا يتحدى الموت وجهًا لوجه.
قالت بعد لحظة من الصمت:
“كنت أستمع لهيستينغز وهو يهذي، وفجأة بدأت الكثير من الأفكار تتضح في رأسي…”
صحيح أن نوبة جنونه أزعجتها، لكنها أيضًا ساعدتها على حل بعض الألغاز التي لم تكن مفهومة، وفي الوقت نفسه أثارت أسئلة جديدة.
كانت تظن في البداية أن ما يريده راندولف منها هو مجرد ملفات القضية التي كانت تتولاها.
لكن لافينتينا لم يكن لديها والدان على قيد الحياة، ولم تكن متزوجة، ولم يكن لديها أقارب أو أصدقاء مقربون.
بمعنى آخر، إذا اختفت فجأة، فلن يثير ذلك شك أحد سوى حارس المنزل، لوغان كولينز.
وبالتالي، لو كان هدف راندولف هو فقط ملفات القضية، لكان من الأسهل بكثير أن يجعلها تختفي نهائيًا.
وبعبارة أخرى، تلك الملفات وحدها لا يمكن أن تكون سببًا كافيًا ليُبقيها على قيد الحياة.
فالمحامية الميتة لا يُطالب أحد بسرها، وحتى واجب السرية المهنية لا يُطبّق بعد الوفاة.
لذا لم يتبقَّ سوى سبب واحد فقط:
‘أن تبقى على قيد الحياة، بكامل وعيها وقدرتها العقلية، لتدلي بشهادتها واختيارها الحر أمام المحكمة — شهادة حقيقية تحمل قوة قانونية كاملة.’
إضافةً إلى ذلك، فـمشاركة المعلومات المستمرة لا يمكن أن تتحقق إلا طالما كانت على قيد الحياة.
بهذه الطريقة فقط تصبح القصة مترابطة ومتسقة.
قالت وهي تنظر إليهم بثبات:
“بمعنى آخر… ما تريدونه مني هو هذا، أليس كذلك؟”
ساد الصمت.
“أعني — شهادة قانونية صالحة في المحكمة، وأن أكون مصدر معلوماتٍ للعقيد. عادةً يُسمّى هذا النوع من الأمور تعاونًا… أليس كذلك؟”
ظلّ الصمت مسيطرًا.
“لماذا لا يجيب أحد؟ هل أصابكم الخرس فجأة؟”
فهي تعلم أن التحقيق في الجريمة والقبض على المجرم ليس نهاية القصة، بل مجرد الخطوة الأولى في رحلة طويلة تنتهي بالمحاكمة والعقوبة المناسبة.
وكل محاكمة تدور في جوهرها حول الأدلة، خصوصًا في القضايا الجنائية، حيث يُشترط أن تكون الأدلة قد جُمعت بوسائل قانونية.
أما الاعترافات التي تُنتزع بالقوة، فحتى إن كانت صادقة، فهي لا تُعتَبر صالحة كأدلة أمام المحكمة.
قررت تشاي هيون أن تترك جانبًا ما قاله هاستينغز عن ماكدانييل وغيرهم، وتركز على الجوهر.
“كنت محقة، أليس كذلك؟ أنتم تريدون تعاوني.”
قال راندولف أخيرًا:
“…صحيح.”
ابتسمت، لكنها بدت غير راضية تمامًا، وعقدت ذراعيها بعد أن خفضت السلاح.
فقال راندولف، وهو يحاول فهم موقفها:
“هل لديكِ شروط معينة؟”
صرخ كونستا:
“سيدي العقيد!”
فأجابه ببرود:
“اصمت يا شنايدر.”
قالت:
“شروط خاصة؟ لا. لكن…”
كانت في الحقيقة تريد فقط المعلومات والخيوط التي تساعدها على فهم موقف إلويز وحل ما يحيط بها من غموض، لكنها مدّت الكلام عمدًا لتثير توترهم.
لم تكن تعلم بالضبط ما نوع الشهادة أو المعلومات التي يريدها راندولف منها، ولا إن كانت بحوزة إلويز ملفات لقضية غير محلولة.
لكنها كانت واثقة من شيء واحد:
إن كان الأمر متعلقًا بالمصلحة العامة، فهي مستعدة للتعاون.
لكنها لم تفهم بعد، لماذا لم يطلب راندولف تعاونها بوضوح منذ البداية؟
لماذا سمح للأمور أن تتفاقم إلى درجة دفعتها لرفع السلاح في وجههم؟
هل لأنه ظن أن إلويز سترفض التعاون بسبب واجب السرية المهنية كمحامية؟
ربما. لكنها فكّرت، لو كان ذلك صحيحًا، أليس عليه أن يحاول إقناعها بلطفٍ وتهذيب؟
أما ما فعله حتى الآن فلا يمتّ للّطف بصلة: اقتحام منزلها، انتهاك خصوصيتها، مراقبتها، والتحدث معها ببرود واستعلاء، بل وحتى بتلك العدائية الغامضة التي صارت تثير أعصابها أكثر فأكثر.
وفجأة، خطر ببالها سؤال غريب:
إلى أيّ حدّ يمكن أن يذهب هذا الرجل فقط ليجعلها “تتعاون”؟
قال راندولف بهدوء:
“ما الذي تريدين أن أفعل إذن؟”
فأجابت بابتسامة ماكرة:
“استدر للخلف، واكتب اسمك بشفرة مورس*… لكن باستعمال مؤخرتك.”
*كالعادة الشرح لنهاية الفصل ان شاء الله *
ساد صمت غريب كأن الزمن توقف.
“…ماذا؟”
قالها راندولف ببطء، غير مصدق لما سمع.
“ما الذي تنتظره؟ أنت جندي، لا بد أنك تعرف شفرة مورس. استدر واكتب اسمك بها، باستخدام مؤخرتك. عندها سأتعاون معك — في التحقيق أو تبادل المعلومات أو ما شئت.”
حدّقت فيه بثقة وهي تضيف:
“راندولف رينيه راينهارت. اسم طويل بعض الشيء، لكنك ستتدبر الأمر.”
تكوّنت شرخات صغيرة من الغضب على وجه العقيد، بينما ظل كونستا صامتًا تمامًا، لا يدري أهو خائف أم مصدوم أم كلاهما.
واحدٌ بجانبه، وآخر أمامه — وجهان جامدان لا يمكن قراءة ما يفكران به.
لم يدرِ أيّهما أخطر: المرأة التي تتحدث ببرودٍ قاتل، أم قائده الذي لا يرد عليها.
لكن ما زاده توترًا أن العقيد لم يعترض، ولم يقل “هذا سخيف”.
فخشي كونستا من شيء واحد:
هل يُعقل أن… يفعلها فعلًا؟
أن يستدير، ويبدأ بتحريك عضلاته الخلفية ليرسل شفرة مورس؟
يا إلهي.
مجرد تخيّل المشهد كان كافيًا ليشحب وجهه.
بذلك الجسد الضخم، وذلك الوجه الجاد، وذلك الزي العسكري الأنيق… وهو يحرّك مؤخرته بشكل دقيق؟ لا. لا يمكن.
كانت الفكرة بحد ذاتها كابوسًا.
لو رأى ذلك بعينيه، فلن يتمكن من استخدام شفرة مورس مجددًا في حياته.
في كل مرة سيحاول فيها، سيتذكّر هذه اللحظة بالذات.
لكنه لم يستطع أن يفعل شيئًا.
فقائده لم يكن من النوع الذي يستمع إلى نصائح مرؤوسيه، أما المرأة التي تهددهم بالسلاح، فكانت أسوأ منه.
فكّر للحظة أن يستغل “كلماته الأخيرة” ويقول:
‘ “أرجوكم، لا تجعلوا سيدي العقيد يكتب بشفرة مورس بمؤخرته…” ‘
لكنه سرعان ما رفض الفكرة باشمئزاز.
يا له من وصية بشعة.
وفي النهاية، لم يستطع إلا أن يغلق عينيه بشدة ويكتم صرخته الداخلية بينما توتره يبلغ ذروته.
أما راندولف، فلم يتأثر.
وضع يديه خلف رأسه، وأدار جسده ببطء.
كان قد قرر فيما يبدو أن يتخلى عن التفكير والمشاعر معًا.
وجهه صار خاليًا من أي تعبير.
قالت إلويز بدهشة صادقة:
“يا إلهي… لم أظن أنك ستفعلها فعلاً.”
ثم أضافت بسخرية لطيفة:
“كنت أمزح. عد لوضعك الطبيعي. رجلٌ ناضج مثلك يجب أن يعرف ثقل مؤخرته.”
لم يرد.
“على الأقل، بعد ما رأيت مدى تفانيك المؤثر، أظن أنه يجدر بي أن أتعاون معك فعلًا.”
همس كونستا بين أسنانه المطبقة بشدة:
“هل جنّت؟”
وتصبب العرق البارد من ظهره، فقط لأنه وقف بجانب قائده عندما حدث ذلك.
♤♧♤♧♤♧♤

إشارة مورس (Morse Code) هي نظام اتصال تم تطويره في ثلاثينيات القرن التاسع عشر بواسطة صموئيل مورس وألفريد فايل، يُستخدم لنقل الرسائل عبر نقاط (Dots) وشرطات (Dashes) تمثل الحروف والأرقام.
كانت تُستخدم بشكل واسع في التلغراف، خاصة في القرنين التاسع عشر والعشرين، في الاتصالات البحرية، العسكرية، والطيران، ولا تزال تُستخدم أحيانًا في حالات الطوارئ أو من قِبل الهواة.
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 8"