6
خرجت تشاي هيون من المبنى، تدور حوله من الجهة الخلفية، ثم أسندت ظهرها إلى الجدار الخشن وأطلقت نفسًا عميقًا.
رفعت رأسها للحظة نحو الطابق الثاني حيث كان راندولف، ثم أسرعت بالحركة من جديد.
كانت تشعر ببعض الندم لأنها تركت المسدس خلفها، لكنها لم تكن تملك خيارًا آخر؛ فإلويز لم يكن لديها ترخيص بحمل السلاح، ولم تكن تريد التورط في مشكلة قانونية جديدة بلا داعٍ.
أما عن تلك الثقة التي أظهرتها قبل قليل، حين ركّبت المخزن وعبأت السلاح أمام راندولف بكل جرأة، فلم تكن إلا تظاهرًا.
في الحقيقة، لم يتجاوز ما تعرفه عن استخدام المسدسات بضع مرات من التدريب في ميدان الرماية خلال أيام العطل.
وكان ذلك منطقيًا تمامًا.
ففي كوريا الجنوبية، اقتناء السلاح أمر غير قانوني أساسًا، وحتى رجال الشرطة لا يُزوّدون بمسدسات أوتوماتيكية، بل بمسدسات ريفولفر¹ ذات خمس طلقات، ولا يُسمح باستخدامها إلا في حالات نادرة جدًا واستثنائية.
ومع ذلك، كانت تشاي هيون بارعة في الرماية.
كثيرًا ما سمعت من زملائها تعليقات ساخرة تقول أنها لو طُردت من الشرطة، فالأفضل أن تصبح قناصة في القوات الخاصة أو لاعبة رماية محترفة.
كان ذلك شيئًا تتفاخر به سرًا.
لكن ذلك كله أصبح من الماضي الآن.
فهي تعيش داخل جسد إلويز، وإلويز لم تجرّب إطلاق النار حتى في أوقات الفراغ.
لهذا السبب، كانت تعتقد أن تركيب المخزن وشحن السلاح هو أقصى ما يمكن أن تفعله بيديها الآن.
طردت تلك الأفكار من رأسها وبدأت تفكر مجددًا في الرجل المسمّى راندولف راينهارت، وفي الجهة التي ينتمي إليها.
“قيادة التحقيقات في الجرائم العسكرية – وحدة جرائم القتل غير المحلولة.”
حتى لو لم تكن تعرف الكثير عن شؤون الجيش، كانت تشاي هيون تدرك على الأقل أن تلك الوحدة تتولى القضايا التي يكون فيها المجرم أو الضحية من أفراد الجيش، أو التي تقع داخل قاعدة عسكرية.
ذلك طبيعي، فاختصاص القضايا من الأمور الحساسة في عمل التحقيق.
على المحقق أن يعرف جيدًا حدوده، ومتى يجب أن يتدخل ومتى يمتنع، وإلا فتح على نفسه نزاعًا مع أجهزة أخرى.
كان ذلك جزءًا من قواعد الاحترام المتبادل بين الفرق الأمنية، بل ومن أساسيات البقاء في المهنة.
لم تكن تعرف كيف تُدار الأمور بدقة في وكالة التحقيقات العسكرية الخاصة بـوينشستر، لكن من المؤكد أن طريقة عملها لا تختلف كثيرًا عن الطريقة الكورية التي تعرفها: مؤسسة منضبطة، صارمة الحدود، تميل إلى الانغلاق.
قال راندولف سابقًا:
“من الأفضل أن تتركي هذه المسألة لي.”
لكنها تعمّدت أن تسأله إن كان من الأفضل الاتصال بالشرطة فقط لترى كيف سيردّ.
‘اتركيها لي؟ لماذا؟’
سؤالها المعتاد عاد إلى ذهنها مجددًا.
منذ أن عرفت انتماءه، لم تكفّ عن التساؤل: ما الذي يدفع وحدة القضايا العسكرية غير المحلولة إلى الاهتمام بمحاولة قتل لم تقع بعد؟
الجرائم غير المحلولة هي القضايا التي لا يُعرف فيها الفاعل، أو التي تفتقر إلى أدلة كافية لإثبات التهمة، وتظل معلقة لسنوات طويلة.
ورغم أن تعريفها يختلف من بلد إلى آخر، فإنه لا توجد دولة في العالم تصنّف حادثًا مضى عليه أسبوع واحد فقط كـجريمة غير محلولة.
ثم إن ما حدث لم يكن جريمة قتل أصلًا، بل محاولة قتل فاشلة.
كلما أعادت التفكير، ازدادت رؤيتها وضوحًا، كما لو أن سطح الماء العكر بدأ يستعيد صفاءه شيئًا فشيئًا.
كانت القطع المبعثرة من اللغز تتجمع ببطء لتشكل صورةً يمكن فهمها.
مهما كانت التفاصيل، بدا واضحًا أن بنجامين هاستينغز مرتبط بقضية راندولف الأصلية — إما كمتهم رئيسي أو كشاهد مهم للغاية.
ومع ذلك، لم يُظهر راندولف أي نية لاعتقاله أو استجوابه حالًا، لكنه في الوقت نفسه لم يكن يريد السماح له بقتل إلويز.
وهذا لا يعني إلا شيئًا واحدًا:
راندولف راينهارت بحاجة إلى الاثنين معًا — هاستينغز، وإلويز.
تمتمت تشاي هيون :
“هناك شيء آخر أيضًا…”
كان لديها حدس قوي، لكنه لم يرقَ بعد إلى مستوى اليقين.
شبكت ذراعيها وأخذت تفرك ذقنها بأطراف أصابعها، تفكر.
‘“أبقِ أصدقاءك قريبين، وأعداءك أقرب.”’
كان هذا أحد المبادئ التي طالما تمسكت بها.
رغم أن التمسك به أكثر مما ينبغي هو ما جعلها تموت في النهاية، مطعونة حتى أحشائها…
لكن على أي حال، لم ترغب الآن في الاقتراب من راندولف أكثر مما يلزم.
هي مدينة له بإنقاذ إلويز والعناية بها، لكن هذا كل شيء.
فالامتنان الذي تشعر به اتجاهه بسبب نجاتها يعود إلى إلويز، لا إلى يون تشاي هيون التي تسكن جسدها الآن.
إذن، ما الذي تبقّى؟ لا شيء.
في نظر تشاي هيون، كما في نظر كل محقق حقيقي، التحقيق ليس سوى حرب معلومات.
من التقى الضحية، من خالطها، هل كانت مديونة؟ هل طاردها حبيب سابق؟
اتجاه الطعن — من الأعلى إلى الأسفل أم بالعكس؟
هل قُطعت الأصابع قبل الوفاة أم بعدها؟
أما في قضايا المخدرات، فالمعلومات أهم من الرصاص:
من يوزعها؟ من يصنعها؟ من يغسل الأموال؟ ما النوادي التي يرتادها أفراد العصابة؟ ومن يمكن تحويله إلى مخبر مفيد؟
كل ذلك معلومات.
بوصلة ترشد التحقيق إلى وجهته.
‘الأدلة الخام، التي لم تُصقل بعد — لكنها قادرة على كشف الحقيقة كاملة.’
كانت أهمية المعلومات أمرًا لا يمكن ايفاده حقه مهما تكلمنا عنه.
ولذلك، ما دامت تشاي هيون لا تملك ما يمكن أن تستخلصه من راندولف، أو وسيلةً فوريةً للحصول على شيء منه، فلا داعي لأن تراه مجددًا.
يبدو أن للرجل شؤونًا لم تنتهِ بعد مع إلويز، لكن ذلك لم يكن من شأنها.
ورغم ذلك، راودها إحساس مزعج بأنها ستلتقي به مجددًا في وقتٍ قريب، غير أنها قررت أن تؤجل التفكير في ذلك حتى يحدث فعلاً.
“لافنتينا!”
“…ها؟ مـ… ما الأمر؟”
كانت تحاول في ذهنها وضع سيناريوهات مختلفة لكيفية القبض على هاستينغز وتسليمه للشرطة لترى بعينيها لحظة دخوله السجن، حين ناداها أحدهم من خلفها.
صوتٌ مألوف على نحوٍ مرعب، رغم قصر المدة التي عرفته فيها.
تجمد جسدها للحظة، وقد أحست بتلك الحدس السيئ يتحقق أمامها بسرعةٍ مزعجة.
“مستحيل… بهذه السرعة؟”
‘ألَم أختبئ جيدًا؟’
تراجعت بجسدها قليلًا إلى الخلف وهي تحدق براندولف بدهشة، لكن الرجل كان قد اقترب منها بخطواتٍ سريعة ووجهٍ خالٍ من التعبير.
“هل جننتِ؟”
قطبت تشاي هيون حاجبيها بعنف.
‘جننت؟!’
أي جرأة هذه؟! من يقول لامرأة “هل جننتِ؟” هكذا من غير مقدمات؟ كان ذلك قمة الوقاحة في نظرها.
أحست أن صبرها الرقيق الذي حافظ على حياتها حتى الآن بدأ ينفد شيئًا فشيئًا.
“من المجنون هنا؟! احمد ربك أني لم أفرغ رصاصة في مؤخرة رأسك. أنت المجنون، لا أنا.”
لم تكن راغبة بعد الآن في التظاهر بالاتزان أو التحلي بلباقة السيدات أمام رجلٍ يرفض الإفصاح عمّا يريد بوضوح.
بدت لهجتها فظة حادة، بعيدة كل البعد عن أناقة إلويز المعتادة. ارتسمت على شفتي راندولف ابتسامة صغيرة، نصفها استهزاء ونصفها دهشة.
“هل انتهيتِ من الكلام؟”
أجابته ساخرة:
“لا، لم أنتهِ بعد. أنت بنفسك قلت لي إن حاول أحدهم التلاعب بي فعليّ أن أطلق النار دون تردد، أليس كذلك؟
أنت دخلت بيتي خلسة وتفقدت البرقيات، ومع ذلك لم أطلق النار عليك.
أليس من المفترض أن تعتبر نفسك محظوظًا لأنك ما زلت حيًا؟
فكيف تجرؤ بعد ذلك على أن تسألني إن كنت قد انتهيت من الكلام؟!”
ابتسم راندولف بسخرية خفيفة وقال ببرود:
“كنت أعلم أنك لاحظتِ ذلك، لا بد أن التظاهر بالجهل كان متعبًا لك. لكن بما أنك فككتِ الأمان، لماذا لم تطلقي النار؟”
“إذا كنت تنتظر أن أقول ‘لأنني خفت من إطلاق النار’ ، فانسَ الأمر.
تظاهرتُ بالجهل لأنني أردتُ أن أستخلص منك بعض المعلومات، لا أكثر.
هل هذا جواب كافٍ لك؟”
تصلبت ملامح وجه الرجل، وكأن فكرة أن إلويز استغلته عمدًا أزعجته أكثر من اكتشافها خداعه.
بدأ الهواء في الزقاق الخلفي يزداد برودة، والجو يشحن بتوترٍ ثقيل.
“سيدي الضابط! هناك الآنسة لافنتينا… آه، وجدتها.”
قبل أن يتصاعد التوتر أكثر، خرج رجلٌ آخر من زاوية المبنى.
كان يرتدي الزي نفسه الذي يرتديه راندولف — زيّ نادل المقهى.
وبمجرد أن رأت تشاي هيون شعره الأشقر البلاتيني، أدركت أنه هو نفسه النادل الذي كانت قد رأته يحمل عصير البرتقال.
ابتسمت بسخرية وهمست:
“هاه، انظر إلى هذا…”
كان واضحًا من طريقته في مناداة راندولف بلقب سيدي أنه من وحدته ذاتها — “وحدة التحقيق في جرائم القتل غير المحلولة.”
اقترب الرجل، الذي يدعى كونستا، ببطء من راندولف بينما عيناه تتنقلان بين الاثنين، متفحصًا الموقف المشحون.
“الجو يبدو متوترًا هنا… ما الذي يحدث بالضبط؟”
أجاب راندولف بجفاف:
“ما كنتَ تخشاه تمامًا.”
“آه…”
تنهد كونستا بخفة، وكأنه توقع الأمر منذ البداية، ثم اقترب أكثر وهمس بشيءٍ قصير في أذن راندولف قبل أن يتقدم بخطواتٍ مهذبة نحو تشاي هيون، ينحني قليلًا ويقدم يده مصافحًا.
“تشرفت بلقائك، أنا الملازم كونستا شنايدر من قيادة التحقيقات العسكرية.
أعتذر بالنيابة عن الرائد راينهارت إن كان قد تصرف بوقاحة تجاهك، سيدتي المحامية.”
نظرت إليه تشاي هيون نظرةً سريعة، أولاً إلى يده الممدودة، ثم إلى وجهه الجاد المهذب، قبل أن ترفع حاجبًا ببرود:
“تبدأ بالاعتذار أولًا؟ يبدو إذًا أنك دخلت بيتي معه أيضًا، أليس كذلك؟”
“……”
لم يكن هذا الرد الذي توقعه، فتجمدت ملامحه للحظة في حرجٍ واضح.
أمالت تشاي هيون رأسها قليلًا، وعيناها تضيقان بمكر:
“يبدو أننا على وشك أن نتبادل الإهانات فقط… هاه؟ انتظر، هل هو يهرب؟”
“من؟” سأل راندولف باستهزاء خفيف.
“ذاك هناك! هاستينغز!”
صاحت وهي تشير بإصبعها إلى خلف الرجلين.
التفت كونستا على الفور، أما راندولف فقد ظل يحدق فيها غير مصدق، وكأنه يشك في أنها تحاول خداعه.
“سيدي! سيدي، انظر!”
هتف كونستا وهو يربّت على ذراع راندولف ليلفت انتباهه.
عندها فقط التفت الأخير ليرى ما يراه زميله — ‘بنجامين هاستينغز نفسه’، يحدق بهم من بعيد وقد بدأ يتراجع خطوة خطوة إلى الوراء، ثم استدار فجأة وبدأ يركض بكل ما أوتي من سرعة.
“ها هو! إنه يهرب! يا رائد، ماذا تنتظر؟ امسك به!”
أجابها ببرود كعادته:
“لا تصدري لي الأوامر.”
“رجاءً، أيها الرائد راينهارت! أوقف هاستينغز قبل أن يفلت!”
“……”
تنهد راندولف أخيرًا، أمال رأسه قليلًا وكأنه يقول في نفسه يا للصداع!، ثم انطلق هو الآخر يعدو خلف الرجل الهارب.
♤♧♤♧♤♧♤

¹ مسدس الريفولفر (Revolver Pistol) هو نوع من المسدسات النارية (Handgun) يتميز بـ أسطوانة دوارة (Cylinder) تحتوي على عدة غرف للذخيرة (عادة 5-6 طلقات)، تدور تلقائيًا أو يدويًا مع كل ضغط على الزناد لإطلاق الرصاصة التالية.
اخترعه صموئيل كولت في عام 1836، وأحدث ثورة في عالم الأسلحة النارية بسبب سرعته وموثوقيته مقارنة بالمسدسات أحادية الطلقة في ذلك الوقت.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 6"