“…إلى أين تذهب؟”
“من تقصد؟”
“إلويز لافينتينا.”
أشار راندولف بذقنه نحو النافذة. كان شعرها الكستنائي الداكن يتمايل بانسياب مع خطواتها الحذرة وهي تبتعد.
تعرّف كاستن على قوامها النحيل فأومأ برأسه.
“ألم أخبرك؟ لديها موعد هذا المساء.”
“لكن ذلك في السادسة.”
لم تكن الساعة قد تجاوزت الرابعة للتو.
نظر راندولف إلى ساعته، ففعل كاستن مثله، وهو يتأمل بدهشة ظلّ إلويز لافينتينا يتضاءل شيئًا فشيئًا.
كان راندولف محقًا.
“صدقت، خرجت مبكرًا جدًا.”
“اذهب واعرف ما الأمر.”
امتثل كاستن للأمر دون تردد وغادر الغرفة.
لم يكن عليه أن يبتعد كثيرًا، فهو يقيم منذ خمسة أيام في الطابق الثاني من البيت المستأجر، أي مباشرة أسفل شقة إلويز.
ظلّ راندولف يتابعها من خلال منظاره العسكري ذي التكبير العالي، وكأنها هدف مراقبة خطير، حتى اختفت تمامًا عن مجال الرؤية.
عندها فقط أدار رأسه بتبرّم.
وبما أن الهدف لم يعد ظاهرًا، التفت إلى كومة من الملفات الموضوعة على حافة النافذة، وبدأ ببطء يراجع التقارير التي تحتاج توقيعه.
حينها عاد كاستن.
“لقد خرجت… فقط.”
“…….”
كان هذا كل ما لديه من “معلومة”.
بل لا يمكن حتى اعتبارها معلومة، لذلك تساءل راندولف بصمت، بعينيه فقط، هل هذا فعلًا كل شيء؟
“لا السيد كولنز، ولا الخادمة في المطبخ يعرفان شيئًا. بالكاد تناولت إفطارها، لم تشرب حتى الشاي، لم تقل كلمة، فقط خرجت.”
أضاف شرحًا، لكن النتيجة لم تتغير: “فقط خرجت.”
“أنت تعرف، سيدي، أن الخدم هنا لا يتدخلون في خصوصيات المستأجرين. دورهم يقتصر على تيسير حياتهم.”
“ومع ذلك، كانوا يعرفون أن لديها موعدًا هذا المساء.”
“هذا لأنها هي نفسها أخبرتهم. لا يمكن للخادمة أن تحضّر عشاءً تعلم أنه سيرمى، لذا نبهتهم مسبقًا.”
“أعرف.”
‘إذًا لماذا تجادل؟’ تمتم كاستن في داخله.
“فماذا نفعل الآن؟”
“…نفعل ماذا؟”
أجاب راندولف بعد لحظة صمت، وعيناه لا تزالان معلقتين على النافذة وكأنه يبحث عن أثر المرأة الذي اختفى مع ضوء شمس العصر.
كان ردّه متأخرًا على غير عادته.
أشار كاستن إلى الطاولة بجانب النافذة.
كانت هناك ملفات متراكمة تتضمن تقارير عن إلويز لافينتينا.
“حان وقت التحرك بجدية. هذه المرأة لن تتعاون، ولن تفتح فمها، إلا إذا أجبرناها بوسائل مختلفة.”
لقد رأيتم بأنفسكم مع من تعمل.
في شيفيلد، وبين زملاء الجامعة أيضًا، سمعتها مشهورة. حتى أنّ…
لم يكمل، لأن راندولف زفر تنهيدة ضجر طويلة جعلته يسكت فجأة.
خبرته الطويلة مع قائده علمته متى يتكلم ومتى يتوقف، فآثر الصمت.
أما راندولف فمال برأسه إلى الخلف وكأنه يتمطى، فيما انسكب ضوء الربيع الدافئ عليه مثل مصباح مسلط.
كان زيه العسكري مشدودًا بدقة لا تسمح بخطأ واحد، لكن جلسته المسترخية عند النافذة، ساقاه الطويلتان متشابكتان، أضفت على هيئته مظهرًا متراخيًا لا يليق بجندي.
“لقد تركتُ لها مذكرة أقول فيها ألا تخرج مؤقتًا… فلماذا خرجت؟”
لم يجد كاستن جوابًا مناسبًا، فحكّ أنفه.
إن لم تخنه ذاكرته، فقد كتب لها قائده مذكرة تقول: “دواء للحمى، ثلاث مرات يوميًا بعد الأكل. يُمنع الخروج مؤقتًا.”
ولو كانت تلك تُسمى لطفًا، فمعنى ذلك أنّ العالم كله يخلو من أي قسوة!
“طالما أنها لم تتعافَ بعد، ولا تملك أي قضية عاجلة، وخروجها رغم ذلك… فلا بد أنّه موعد مهم. ربما… موعد غرامي.”
“…ماذا؟”
“عفوًا؟”
“محامية… وموعد غرامي؟ مع من؟”
سؤاله بدا وكأنه لم يصدق أذنيه، وكاستن بدوره كاد يكرر نفس الملامح، وكأنه لم يصدق عينيه.
‘مع من غيره؟’
عادة كلمة “موعد” لا تستخدم مع الأهل أو الأصدقاء أو الزملاء.
وبالتأكيد ليس مع رئيسه العسكري.
لو افترض أن يأخذه المقدم راينهارت إلى مطعم فاخر ليأكلا لحما مشويا، فلن يكون ذلك إلا مهمة عمل تستحق بدلًا إضافيًا، لكنه لن يسميها موعدًا غراميًا.
ولا يجوز له أن يفعل.
“مع من غيره؟ مع حبيبها، طبعًا. وليس هناك أي دليل على أن للآنسة لافينتينا أكثر من واحد. حياتها الخاصة نظيفة تمامًا، وتكره الشائعات.”
تكلم كاستن وكأنه يعرفها جيدًا، مدافعًا عنها رغم أنه لم يرها وجهًا لوجه قط.
“إنريكي ماكدانييل، تقصد؟”
“إلا إذا كنت تقصد شخصًا آخر؟”
“شنايدر. ألا تعرف من هو؟”
“وكيف لا أعرف؟ لكن مهما يكن، يبقى حبيبًا. سواء كان علنيًا أم من طرف واحد فقط.”
فالأمر واضح وضوح الشمس: لا يمكن إنكارها.
“وربما لا يكون موعدًا عاطفيًا، بل اجتماعًا مهنيًا مع موكّل.”
قال ذلك باستخفاف.
عندها طرح راندولف الملفات أرضًا بعصبية، وغادر الصالون متجهًا مباشرة إلى الطابق الثالث.
تبعه كاستن بعد أن تأكد من أن الدرج، والممر، وقاعة المدخل في الطابق الأول خالية تمامًا من أي شخص.
“سيدي المقدم، ماذا تفعل؟”
“قيل إن محاميًا أرسل برقية قبل يومين. يجب أن أتأكد منها.”
بما أن يوم جمع القمامة غدًا، فحتى لو أُلقيت البرقية، فلا بد أنها لا تزال بالداخل.
جلس راندولف على ركبة واحدة أمام باب في الطابق الثالث.
“هل تنوي دخول غرفة الآنسة لافينتينا؟ وهي غير موجودة؟”
“بالطبع، لأنها غير موجودة.”
لكن… ليست تلك هي المشكلة بالضبط…
“سيدي المقدم، الآنسة لافينتينا محامية.”
كاستن لم يكن يرغب أبدًا بالتورط قانونيًا مع أي محامٍ.
خاصة لو كان الأمر مثل: المُدّعية إلويز لافينتينا، المُدّعى عليه راندولف راينهارت، والمتورط كاستن شنايدر.
التهمة: اقتحام منزل وانتهاك الخصوصية.
علاقة قانونية لا مفر من أن تتدخل فيها سلطة التحقيق…
حتى الآن ما زال بإمكانه أن يتظاهر بعدم رؤيته ويعود أدراجه إلى الطابق الثاني.
وبينما كان يفكر جديًا في ذلك، كان راندولف قد أخرج بالفعل من كمّه دبوسين معدنيين طويلين وأدار القفل بفرقعة خفيفة وفتح الباب.
ثم دخل أولًا وأمسك الباب الموارب بانتظار أن يدخل كاستن.
حقًا، لا يظهر حسّه باللباقة إلا في مثل هذه المواقف.
دخل راندولف الغرفة الخالية دون أي تردد، وألقى نظرة شاملة على صالة الاستقبال ذات التصميم المشابه للطابق الثاني.
كان ضوء الشمس المتدفق من خلال النوافذ البيضاء يضيء الغرفة بصفاء.
كما لو كانت انعكاسًا لشخصية صاحبة المكان، فقد احتوت الغرفة على أقل قدر ممكن من الأثاث الضروري، فبدت مرتبة وهادئة.
كان راندولف يتحرك بحذر لتقليل أي أثر، حتى عثر على البرقية موضوعة بلا مبالاة فوق الطاولة الصغيرة أمام الأريكة.
وكان المغلف الممزق ملقى على الأرض وكأن صاحبة البيت فتحته بيدها مباشرة دون سكين ورق.
وبما أنها تعيش وحدها، فالأرجح أن لا أحد غيرها اطلع عليه.
بدا الأمر وكأنها لا تكترث لمثل هذه البرقيات أصلًا.
ابتسم راندولف ابتسامة ساخرة وهو يتفحص البرقية.
“كنت أظنها أذكى من هذا.”
“من تقصد؟ الآنسة لافينتينا؟”
سأل كاستن، لكن راندولف أعاد البرقية إلى مكانها دون أن يجيب.
وكان كاستن، وهو يخطو حذرًا ليدوس آثار خطوات راندولف ويمحوها، قد تذكر فجأة وتكلم:
“لكن يا سيدي المقدم، ألم يخبرنا اللواء متى سيعود إلى مونتروز تحديدًا…؟”
“تجاهله.”
“وماذا عن البرقية القادمة من جهة المهرّجين…؟”
“تجاهلها.”
كان راندولف يقطع حديثه بحدة كأن الأمر لا يستحق حتى الإصغاء.
فكّر كاستن في نفسه بامتعاض: بما أنه يتجاهل كل شيء، فليتجاهلني أنا أيضًا. ثم هز رأسه.
لم يكن يفهم من أين يأتي رجل بلا أي سند أو علاقة بهذه الثقة الجامحة.
هل يظن أن رتبة “مقدم” تكفي لكل شيء؟
“لقد تناولت الترياق كما ينبغي.”
قال راندولف وهو يتأكد من أن زجاجة الدواء قد نقصت كميتها، وبدا راضيًا.
وضع الزجاجة بعناية مرتديًا قفازيه لئلا يترك أثرًا، ثم رمق المذكرة بجانبها.
كانت هي المذكرة التي تركها هو بنفسه.
“…ما هذا؟”
بجانب عبارة “ممنوع الخروج مؤقتًا” كان هناك رمز غريب، يشبه صليبًا مكسورًا من الأسفل.
حتى راندولف، الذي خبر معظم الرموز والشفرات، لم يتعرف إليه.
أشار بيده لكاستن كي يقترب وأراه المذكرة.
“شنايدر، رأيت مثل هذا من قبل؟”
“…لا. هذه أول مرة أرى شيئًا كهذا.”
تساءلا إن كان رمزًا جديدًا أو شفرة غامضة.
فكّرا قليلًا معًا، لكن من الطبيعي أنهما لم يتعرفا على الرمز “凸” (الذي يعني “بارز” في الصينية)، ولا يفهمانه كإهانة موجهة لشعب وينشستر.
بالنسبة لهما لم يكن سوى صليب مكسور.
اجتهد كاستن في تفسيره، فقال بجدية:
“قد تقصد أن ضربة قوية على مؤخرة الرأس ستكسر الصليب وترسل الهدف إلى السماء.”
*بليز لا عاد تفكر و تحلل، متت هههههههههههههههه*
“من؟ أنا؟ إلى السماء؟”
“أو ربما إلى الجحيم…”
“……”
ثم أعاد التفكير: راندولف ليس شخصًا يليق به “السماء”.
أما الجحيم؟ ليس بالضرورة.
لكن على أي حال، السماء مستبعدة تمامًا.
قلبا الرمز في اتجاهات مختلفة، وحاولا استنتاج أي معنى، لكن لم يكن هناك جدوى.
وأخيرًا خلص راندولف إلى استنتاج بسيط: خط لافينتينا سيئ. ووضع المذكرة جانبًا.
“لم تبتعد كثيرًا. استعد فورًا لنتبعها. وأرسل الرجلين المكلّفين بالمراقبة إلى مكتب البرق.”
لم يكن هناك خوف من ضياع أثرها، فقد كان رجاله يتعقبون إلويز لافينتينا منذ خرجت من المنزل.
أجاب كاستن بإيجاز وغادر مسرعًا غرفة نومها.
أما راندولف فلم يتبعه، بل أنزل عينيه نحو السرير المرتب بعناية.
كان يظن أنها ستظل طريحة الفراش حتى اليوم، مرهقة وضعيفة، فلا تعنيه كثيرًا مسألة البرقية.
لكنه فوجئ بأن الأمور لم تسر كما توقع.
عقد حاجبيه بضيق، وكأن غياب المرأة عن السرير أزعجه أكثر من اللازم.
لكنه ما لبث أن محا كل تعابير وجهه.
سنعيدها فحسب.
ولن يكون الأمر صعبًا.
♤♧♤♧♤♧♤
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات