ارتفع حاجبا المرأة في المرآة بانتظام، مائلين إلى أعلى.
شعرها الأحمر المائل إلى البني، متموّج بغزارة كأوراق الخريف المتألقة في أواخره، وعيناها المميزتان بلون رمادي مذهب.
بشرتها باهتة، شفاهها منطبقة بوقار، عنقها مستقيم ممتد.
كتفاها منتصبان، يرتفعان وينخفضان بهدوء مع أنفاسها.
كان الأمر غريبًا.
مثيرًا للريبة.
كأنّ المرأة في المرآة ليست انعكاسًا لها، بل غريبة تحرّك جسدها مثل دمية خيطية تقلّد حركاتها بدقة.
شعرت وكأنها تُسخر منها.
ابتلعت تشاي هيون ريقها الجاف وألقت بالمرآة جانبًا وكأنها تحرق يدها.
تناسخ الأرواح؟ مستحيل!
من ذا الذي قد يصدق لو باحت بهذا؟
حتى مَن وقع عليه الأمر، مثلها، لم يستوعبه بعد.
لكن ها هي اليوم، بعد يومين من استيقاظها في جسد إلويز، تقاوم الجنون الزاحف على عقلها.
ورغم أن رأسها يكاد ينفجر، إلا أنها حتى الآن لم تُحدث كارثة كبرى.
كارثة مثل أن تسأل الخادمة التي تحمل الطعام: “من أنا؟”، أو تصرخ: “أين أنا؟”، أو تفرّ هاربة بجسدٍ واهنٍ لا يتحمل.
أو أن تكشف جهلها التام بأبسط القواعد والعادات هنا… أشياء صغيرة، لكن لو أفلتت منها لاكتُشفت على الفور.
مكان مجهول، وجوه غريبة، جسد ليس جسدها.
كل شيء جديد عليها، لكنها بطريقة ما كانت تعرف، تتصرّف وتتنفس وكأنها إلويز لافينتينا حقًا.
كان ذلك بفضل الذكريات التي اقتحمت عقلها بعنف.
أو لعلها السبب في عذابها.
التجوال في ذاكرة امرأة لا تعرفها، ورؤية العالم بعينيها، جعلها تشعر وكأنها دخلت إلى رواية من روايات الرومانسية الخيالية.
المشكلة أن آخر مرة قرأت فيها رواية كهذه مضى عليها زمن بعيد.
فالكتب التي قرأتها مؤخرًا لم تتعدَّ المراجع القانونية المرتبطة بعملها كضابطة شرطة.
كتب كانت تنتزع لها الوقت من بين ضغط القضايا وشُحّ النوم.
لذلك فمن الطبيعي أن عناوين الروايات القليلة التي قرأتها قبل تخرجها من أكاديمية الشرطة صارت ضبابية في ذاكرتها، أحداثها بعيدة، بل وحتى أبطالها بالكاد تذكرهم.
عقل تشاي هيون كان غارقًا دومًا بين المحاضر الرسمية، الدماء والجثث، مسارح الجرائم الملوثة بالمخدرات، الأدلة التي تُدين المتهمين، والقضايا المتلاحقة يومًا بعد يوم.
لم يكن هناك متسع في عقلها لقصة نمو بطلة براقة أو حب دامع يستحق البقاء.
ربما لو قرأت تلك الرواية مجددًا ستقول: “آه، أجل! هذه أعرفها.” لكن في وضعها الحالي، لم يكن لديها أدنى فكرة إن كانت تعيش قبل بدء الرواية، أو في منتصفها، أو بعد نهايتها.
كل ما افترضته أن النهاية كانت سعيدة، بطلة تنعم بحب رجل مخلص لا يرى سواها، ويعيشان في سكينة.
أما إن كانت النهاية حزينة، فهي لم تكن لتقرأها أصلًا أو لتدفع مالًا لشرائها.
فالنهايات غير السعيدة عرفتها بما فيه الكفاية في الواقع: أحكام محاكم عليا، قضايا مؤلمة عالجتها، ومآسٍ رآها قلبها وعيناها.
كان الواقع في كثير من الأحيان أشد قسوة، أكثر بشاعة، وأفظع من أي رواية.
حاولت أن تتذكر إن كانت قرأت يومًا رواية في مثل هذا العالم، ثم هزت رأسها ساخطَة: ما الفائدة الآن؟
جسد واحد، روح واحدة، لكن عقل مثقل بذكريات جسدين.
اثنان وثلاثون عامًا ليون تشاي هيون، وستة وعشرون عامًا لإلويز، لتصبح حصيلة العمر في ذهنها ثمانية وخمسين عامًا متشابكة.
كأن عقول الاثنتين اندمجت في دماغ واحد.
لم يكتمل “تسليم المهام”، والعقل ما زال كآلة مثقلة بالبيانات، تعمل ببطء شديد، تثقلها الحمى والدوار.
لهذا السبب، رغم أن وعيها عاد كليًا، ظلت حبيسة الفراش.
الحرارة التي لم تغادر جسدها كانت تزيد الأمر سوءًا.
رفعت يدها إلى جبينها الساخن، ثم التفتت برأسها.
على الطاولة الصغيرة بجوار السرير وُضِعت زجاجة زجاجية تحتوي أقراصًا بيضاء، وقنينة ماء، وورقة صغيرة.
كانت مذكرة تركها الرجل الذي سهر على تمريض إلويز قبل يومين.
التقطت تشاي هيون الورقة بيدها.
[خافض حرارة. ثلاث مرات يوميًا بعد الأكل. ممنوع الخروج في الوقت الراهن.]
عبارات قصيرة جافة، لولا أنها مكتوبة بخط اليد لظننتها برقية.
الخط المائل الحاد جعلها تستحضر عينين ذهبيتين تشعان في الظلام.
العينان اللتان أمسكتا بها من حافة الموت وأعادتاها إلى الحياة.
ظلت تحدّق في المذكرة طوال يومين كاملين، كعادة أو إصرار طفولي، وكأن التكرار قد ينعش ملامح وجه الرجل الغامض في ذاكرتها.
لكن لم يكن لديها القدرة السحرية على استرجاع ما لم تره بوضوح.
حتى أنها لم تعد متأكدة إن كان رجلًا أصلًا.
لكنها تذكرت يدين كبيرتين سندتا رأسها وكتفيها، صدرًا عريضًا احتواها حين وهن جسدها، صوتًا عميقًا ناداها باسم إلويز، وأصابع خشنة بالغة الحزم تلتقط نبضها من عنقها ومعصمها… استنتاجاتها وحدها كانت تقول أنه رجل.
تمتمت ساخرًة:
“حسنًا. ممنوع الخروج؟ ومن قال ذلك؟”
ضحكت بازدراء من رجل لا تعرف حتى ملامحه، ثم ابتلعت حبة دواء بخفة.
ورغم أن الماء ساعدها على ابتلاعها بسهولة، إلا أن المرارة انتشرت في فمها، فزمّت حاجبيها.
وفي تلك اللحظة، طرق أحدهم على الباب المعدني خارج غرفة النوم.
نظرت إلى الساعة المعلقة على الجدار، ثم نهضت ببطء، ارتدت فوق قميصها الرقيق رداءً خفيفًا، واتجهت إلى غرفة الاستقبال الملحقة بغرفتها.
“من هناك؟”
“الآنسة لافينتينا؟ أنا كولنز.”
لم تكن ساعة غداء، فتساءلت من قد يكون، ليتضح أنه لوغان كولنز، القيّم على منزل إلويز.
فتحت القفل وأخرجت رأسها قليلًا من الفتحة.
كان رجلًا في منتصف العمر، يحافظ على مسافة لائقة حتى لا يربك سيدة شابة، وهو يبتسم ابتسامة رسمية ويناولها ظرفًا ورقيًا صغيرًا مسطّحًا.
“هذه برقية موجهة الآنسة لافينتينا.”
“…شكرًا لك.”
إلويز، بصفتها محامية، كان من الطبيعي أن تستقبل وتُرسل برقيات بحكم عملها، أما تشاي هيون فكانت هذه أول برقية تستلمها في حياتها، لذلك بدت لها غريبة وجديدة.
لم ترفع عينيها عن الظرف الذي كانت تمسكه بكلتا يديها، واكتفت بانحناءة صغيرة وهي تشكر الرجل، ثم همّت بإغلاق الباب لكنها توقفت فجأة.
“السيد كولنز، إن لم يكن في ذلك إزعاج، فهل يمكنني أن أسألك شيئًا واحدًا فقط؟”
“بالطبع، تفضلي.”
ابتسم كولنز ابتسامة رأسمالية لامعة، فهو أمامه مستأجرة نظيفة لم تسبب أي مشكلة قط.
“هل تعرف من الذي أعادني إلى هنا قبل يومين؟ كنت في حالة سُكر شديدة على ما يبدو ولا أذكر شيئًا.”
“لقد كان المقدم راينهارت برفقة الآنسة لافينتينا.”
“…؟”
تجمدت ملامح تشاي هيون، وأصبحت أكثر غرابة من لحظة استلامها البرقية نفسها، وهي تنبش في ذاكرة إلويز.
راينهارت لم يكن اسمًا مألوفًا في وِينشستر.
المقدم راينهارت… كأنها تكاد تتذكر.
“راندولف راينهارت؟ حرب كيشهير؟”
“نعم، صحيح.”
كانت قد نطقت فقط ببعض الكلمات المتناثرة التي قفزت إلى ذهنها، لكن كولنز، بصفته مديرًا متمرّسًا ورجلًا فطنًا، فهم قصدها فورًا وأومأ برأسه.
زاد إقراره دهشتها وحيرتها، فارتعشت رموشها وهي تحدق بذهول أكبر.
أسئلة كثيرة كانت تطفو في ذهنها، لكنها اختفت قبل أن تجد الجرأة على النطق بها.
“آه… حسنًا، شكرًا.”
قالت ذلك بارتباك واضح، ثم أغلقت الباب.
لكنها ظلت واقفة في مكانها حتى تلاشى تمامًا صوت خطوات كولنز.
راندولف راينهارت وإلويز لافينتينا.
“…ما هذا؟”
لم تستطع أن تفهم شيئًا.
كما نجحت تشاي هيون عبر ذاكرة إلويز في تذكّر بالكاد راندولف راينهارت، العسكري من وِينشستر الذي تميّز في حرب كيشهير، فمن الطبيعي أن يعرفها هو على الأكثر بصفتها مجرد محامية في العاصمة شيفيلد.
ومع ذلك، اليد الخشنة التي لم تفارق جبين إلويز وهي نصف غائبة عن الوعي، وتلك العيون الذهبية التي كانت تلاقيها بصعوبة كلما فتحت جفنها للحظة… لم تكن حلمًا.
إذن… هل ذلك الرجل كان فعلًا راندولف راينهارت؟
لماذا؟ وكيف؟
لم تستطع إلويز أن تتذكر وجه راندولف راينهارت، الذي كثيرًا ما ظهر في الصحف اليومية قبل بضع سنوات.
وكان ذلك طبيعيًا، فهي لم تكن تهتم بوجوده أصلًا.
أما إذا كانا قد تقابلا وجهًا لوجه، فلا.
كل ما رأته هو صور صغيرة له منشورة في الجريدة، وهذا لا يُعدّ لقاءً حقيقيًا.
فكرت طويلًا حتى شعرت بصداعها الذي بالكاد هدأ يوشك أن يعود من جديد.
زفرت تنهيدة قصيرة، وتخلّت عن البحث في شيء لن تجني منه فائدة الآن، ثم فتحت الظرف الذي كانت تمسكه بيدها.
[الهاتف في مكتبك لم يُجب. الخميس القادم الساعة السادسة مساءً، أود أن نتعشى سويًا في راميلتون. هل تقبلين؟]
كانت البرقية طويلة نسبيًا.
والمفارقة أنها أعادت إلى ذهنها المذكرة القصيرة الموضوعة بجانب السرير.
إذا كان هناك من ينفق مالًا على برقية طويلة كهذه، فما بالك بذلك الرجل الذي اكتفى بكتابة ورقة صغيرة جافة وخالية من أي دفء.
“…”.
ومع ذلك، لم تكف هي عن التحديق في تلك الورقة القصيرة كلما سنحت لها الفرصة.
المرسل هو إنريكي ماكدانييل، الرجل الذي كانت إلويز على علاقة به مؤخرًا.
استحضرت في ذهنها ملامح ذلك الرجل الوسيم، بشعره البني الناعم وعينيه الزرقاوين الصافيتين، ثم تذكرت مكانته كـ”محاسب” مرموق، وآخر حوار جمعه بإلويز.
“الخميس القادم…”
بعد غد. تمتمت تشاي هيون بصوت خافت وهي تخفض بصرها، كأنما يجذبها ثقل ما إلى البرقية السوداء والبيضاء التي كانت بين يديها.
الخميس القادم.
عشاء مع حبيب إلويز.
“سأذهب، لما لا.”
لم يكن الأمر معقدًا.
♤♧♤♧♤♧♤
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات