3
الفصل 3
“أقلتِ أنكِ في السابعة عشرة؟”
سأل الرجل لارا.
جفلت لارا الجالسة في مواجهته، ثم أجابت ببطء:
“…… نعم.”
“لا تبدين كذلك. يبدو أنهم تركوكِ تتضورين جوعًا بما يكفي.”
تمتم الرجل وكأنه يتحدث إلى نفسه، بينما كان يتكئ بجانبه على إطار نافذة العربة.
انكمشت لارا على نفسها وأحنت رأسها أكثر بشعور بالخزي.
كانت حاشية فستانها الرث ممزقة تمامًا.
حاولت لارا تغطية أطراف ثوبها البائس وساقيها الهزيلتين بيديها، لكن محاولتها لم تكن مجدية كثيرًا.
حدق الرجل في ذلك بجمود، ثم تنهد بخفة.
“بهذا الهزال، في ماذا قد تصلحين؟”
“…….”
“القيام بدور عروسي سيتطلب الكثير من الجهد.”
هذه المرة أيضًا، لم تستطع لارا الإجابة بشيء.
كان الرجل يلفظ كلمة ‘عروس’ مرة أخرى.
يا تُرى، لأي غرض يأخذها هذا الرجل؟
“علينا أولًا أن نزيد وزنكِ.”
تمتم وهو ينظر إلى أطرافها التي تشبه أغصان الشجر.
كان الوقت في ذروة الشتاء، وفي مثل هذا الطقس، لم يكن من السهل توفير وجبات جيدة، لكن بالنسبة لـ تيو، سيد عائلة ديارك، لم يكن الأمر صعبًا.
إلا أن الشيء الوحيد الذي كان يشغل باله هو ما إذا كان قصر آرين، الذي فتحه لإحضار ‘عروسه’، مجهزًا بشكل مثالي.
عندما سمعت لارا الرجل يكرر بوجوب زيادة وزنها، شعرت بخوف مفاجئ. هل يعقل أن….
‘هل ينوي تسميني ليأكلني؟’
كان الرجل بشرًا بالتأكيد، ورغم أنه كان جميلًا لدرجة تجعله لا يبدو بشريًا…. فالحقيقة هي أنه ربما لا يكون بشرًا.
“فيمَ تفكرين ؟”
سأل الرجل بنعاس وهو ينظر إليها بعينين خفيضتين.
فزعت لارا مرة أخرى وبدأت تراقبه بحذر.
“…….”
كانت تفزع هكذا في كل مرة يوجه إليها حديثًا، مما جعله يشعر بمزيج من السخرية والتعجب.
بمثل هذا الضعف والجبن كيف لها أن تكون عروس الذئب؟
“… ذلك العجوز اللعين.”
عندما تمتم الرجل بحنق وكأنه يجز على أسنانه، انكمشت الطفلة مرة أخرى.
عقد الرجل حاجبيه قليلًا؛ طفلة عادية كهذه هي عروس الذئب….
“… لم أكن أقصدكِ أنتِ.”
“…….”
“أنتِ، ما اسمكِ؟”
سمع المديرة تناديها بلارا، لكنه أراد سماع ذلك من فم الطفلة.
أجابت بصوت خافت:
“لارا….”
“حسنًا، لارا.”
“…….”
فكر الرجل وهو ينظر إلى البشرية الصغيرة التي أغلقت فمها مجددًا كالمحارة.
‘هذا مزعج. لماذا عليَّ الجلوس وجهًا لوجه مع طفلة بشرية هكذا؟’
ابتلع تنهيدته وقال:
“ثيودور ديارك.”
رفعت لارا رأسها.
“ثيودور ديارك. هذا هو اسمي.”
“ثيودور….”
رددت الطفلة اسمه بصوت رقيق.
في العادة، كان سيشعر بالنفور لو نطق بشرٌ اسمه بجرأة، لكن سماع هذه الطفلة تناديه لم يكن شعورًا سيئًا.
“ناديني ثيو، فهو اسم الرجل الذي سيصبح زوجكِ.”
اتسعت عينا الطفلة.
ارتبكت لارا قليلًا، فنظرت إلى ثيو بذهول قبل أن تخفض بصرها بسرعة.
كان عقل لارا في حالة فوضى تامة.
زوج؟ إذًا، كلمة عروس كانت تعني حقًا….
رغم أن لارا لم تتلقَّ تعليمًا جيدًا، إلا أنها بدأت تدرك أنها لم تكن واهمة.
لكن، لا يوجد سبب واحد لذلك…. وفي كل مرة ترفع رأسها قليلًا لتنظر إلى ثيو، يزداد ارتباكها.
لماذا يصف شخص مثله يتيمة قبيحة وغير نافعة مثلها بكلمة ‘عروس’؟
لم تكن تعرف السبب، ومن المؤكد أنه وقع في خطأ ما، لكنها لم تجرؤ على قول ذلك خشية أن تُعاد إلى الميتم في اللحظة التي تنطق فيها.
شعر ثيودور ببعض الفضول وهو يراقب ردود فعل هذه البشرية التي تشبه الدمية تجاه كل كلمة ينطقها.
أراد رؤية ارتباكها أمامه لفترة أطول قليلاً، ولكن….
“لماذا تتجنبين النظر إليَّ؟”
كانت الطفلة تلتقي بعيني ثيو ثم تحني رأسها بسرعة.
رغم علمه بمصدر ذلك السلوك المنكمش للغاية، إلا أن ثيو أراد إثارة الأمر عمدًا.
بدت على الطفلة ملامح عدم الفهم لقوله.
انتظر الإجابة بصبر، وبعد فترة طويلة أجابت:
“عيناي رمزٌ للنحس.”
“ماذا؟”
“لذا…. من الأفضل ألا تنظر إليهما طويلًا.”
حدق ثيو بصمت في الطفلة التي كانت تتحدث وكأنها تردد درسًا لُقنت إياه.
‘…….’
كانت المديرة تقول دائمًا إن عينيها تثيران الاشمئزاز.
كانت تكره عينيها مختلفتي اللون لدرجة تقشعر لها الأبدان.
عندما كانت تثمل، كانت تصرخ وترشق لارا بزجاجات الخمر، وإذا التقت أعينهما بالصدفة، كانت تستشيط غضبًا.
‘شيء مقزز، فتاة منحوسة، مقرفة، يجب اقتلاع هذه الأعين.’
كانت الشتائم التي تنهمر على لارا متنوعة، لكن الخلاصة كانت واحدة دائمًا؛ ألا تنظر إليها بتلك الأعين المنحوسة، لأن عيني لارا كانتا رمزًا للبؤس.
لذلك، كانت لارا تبذل قصارى جهدها لتجنب تلاقي الأعين مع الناس؛ المديرة، المشرفة، هيلين، وحتى أطفال الميتم الآخرين.
لكن في اللحظة التي واجهت فيها الرجل في الميتم لأول مرة، نسيت تمامًا تلك القاعدة.
كانت تلك المرة الأولى في حياتها التي ترى فيها شخصًا كهذا.
شعر أسود فاحم، بشرة بيضاء، حواجب ممدودة، تعبير بارد، وتلك العينان.
عينان حمراوان تمامًا.
عينان تشبهان نصف عيني لارا.
لو كان الأمر بيدها، لودت لو استمرت في النظر إليه.
“ارفعي رأسكِ.”
حاولت لارا استشفاف ما إذا كان غاضبًا من نبرة صوته، لكنها لم تستطع معرفة ذلك.
في النهاية، رفعت لارا رأسها قليلًا كما أمر.
‘هل سيكون الأمر بخير؟’
رأت طرف حذائه، وساقيه المتقاطعتين، ومرفقه المستند إلى إطار النافذة، وشفتيه المطبقتين.
إلى هنا فقط.
ألن يكون الأمر بخير إلى هنا فقط؟
“أكثر.”
لكنها سمعت كلمات خالفت توقعاتها.
ترددت لارا وفكرت قليلًا، ثم رفعت رأسها أكثر قليلًا.
قال وهو يواجه لارا التي كانت تنظر إليه مجددًا بذهول:
“من الآن فصاعدًا، انظري في عينيَّ وأنتِ تتحدثين.”
“…….”
“لا تشيحي بنظركِ عني مرة أخرى.”
كان أمرًا يتسم بالغطرسة الشديدة.
نظرات الرجل الحمراء التي كانت تحدق مباشرة في عيني لارا مختلفتي اللون — واللتين كانتا رمزًا للنحس — أثارت في لارا شعورًا غريبًا.
شعرت لارا أنه ربما يكون كيانًا أقوى من النحس الذي تحمله.
كان الأمل الأخير الذي جاء للارا التي عاشت حياتها وهي تسمع لعنة أنها ستجلب البؤس لأي شخص.
في النهاية، كان على لارا أن تظل تنظر إلى ثيو بلا انقطاع.
واجه ثيو بجمود الطفلة البشرية التي اتبعت أمره بطاعة.
أليس هذا أمرًا مريحًا؟ لعنة ملقنة. كان بإمكانه تخمين كيف تلاعبت تلك البشرية المسماة رادين بالطفلة.
لم تعجبه الأفكار التي كانت تدور في ذلك الرأس الصغير، لكنه استحسن عدم اعتراضها على كلامه.
كانت الطفلة تبدو كغصن شجر جاف وهش، طفلة بشرية تشعر وكأنها ستتحطم إذا لمستها.
لو ضغط ثيودور بقليل من القوة، لتحطمت تلك العظام الضعيفة إلى نصفين؛ هكذا كان البشر.
بينما كان المستذئبون كائنات تقف في النقيض التمام من هؤلاء البشر، حياة لا مشكلة فيها حتى لو نظروا إلى الجميع من الأعلى.
يقال إنهم اختاروا العيش في عالم البشر منذ زمن بعيد، لكن هل يمكن للمستذئبين حقًا أن ‘يتوافقوا’ مع البشر؟
“…….”
ساء مزاج ثيودور للغاية.
فكل ما أدى إلى هذا الموقف كان وصية جده.
‘ثيو، اسمعني جيدًا. لقد كتبتُ كل شيء عن “عروس الذئب” في وصيتي. يجب عليك أن تجد عروس الذئب وتحضرها، أتفهم؟’
كان جد ثيو ينظر إليه بعينين متقدتين حتى اللحظة التي انطفأت فيها أنفاسه.
بما أنه لم يحب جده قط، فإن كلمات الجد التي ألقاها على أعتاب الموت لم تلامس قلب ثيو.
ومع ذلك، ظل الجد ممسكًا بيدي ثيو يكرر وصيته حتى النهاية، لدرجة شعرت معها بنوع من الهوس.
‘تذكر كلماتي! ثيو، يجب عليك أن تجد تلك الطفلة.’
في تلك اللحظة، كان شعور ثيو لا يوصف من الانزعاج.
‘أهذا هو الشيء الوحيد الذي ترغب في قوله لي قبل رحيلك؟’
المشاعر المحيطة بجده ضغطت على ثيو بشكل مزعج.
‘ما زلت أنانيًا حتى النهاية.’
وضع ثيو يد جده ببرود وألقى عليه التحية الأخيرة.
‘ارقد بسلام.’
‘ثيو، أنت….’
‘سأفعل ذلك، لذا ارقد الآن.’
لم يسامح جده بعد، لكن والدته لم تكن لتريد منه أن ينبذ العجوز بقسوة في طريقه الأخير.
فقط من أجل خاطرها، قبل وصية الجد.
وبعد بضعة أشهر، وجد ثيو لارا.
علم بمجرد رؤيتها أن هذه الطفلة هي التي تحدث عنها جده.
بحث ثيودور عن الطفلة بدافع الحاجة، وسماها عروسه.
لكن تلك الطفلة تعلقت بـ ثيودور وكأنه حبل نجاتها الوحيد.
الطفلة التي كانت تترنح تحت قبضة المديرة بجمود يشبه الدمى، في تلك اللحظة، نظرت إليه بتوسل يفوق أي شيء آخر.
‘خذني معك.’
شفاه ترتجف، وربما كان ذلك آخر ما تبقى من شجاعة استجمعتها تلك الطفلة.
وبالنسبة لثيو، وصلت إليه كلمات الطفلة بهذا المعنى:
‘أريد أن أعيش.’
رغبة عارمة في الحياة؛ الغريزة الأولية التي يمتلكها أي كائن يجري في عروقه الدم وينبض قلبه.
كان هوسًا قويًا بشكل لا يصدق بالنسبة لطفلة بشرية ضعيفة عانت بوضوح من اضطهاد طويل الأمد.
عندما يجهز الذئب على فريسته، فإنه يقتلها دون ألم كلما قاومت بضراوة؛ كان ذلك نوعًا من الاحترام الذي يبديه الذئب تجاه فريسته.
في عيني ثيودور، بدت تلك الطفلة البشرية الهزيلة وكأنها تفعل ذلك بالضبط.
بدا عليها نوع من الهوس بعدم التخلي عن الحياة حتى الرمق الأخير.
“…….”
فجأة، اتجه نظره نحو معطفه الذي كانت لا تزال ترتديه.
كان المعطف ضخمًا للغاية على جسد الطفلة الصغير والنحيل.
كانت الطفلة تمسك بياقة المعطف الذي ألقاه عليها وكأنه حبل حياتها.
تذكر ثيودور مجددًا اللعنة التي يحملها العرق الذي ينتمي إليه.
تضخيم الحواس، القتل، الشهوة، التبلد، والظمأ الذي لا يرتوي.
اللعنات التي فُرضت على العائلات الخمس الأقوى التي تمثل عرق المستذئبين سببت لهم معاناة أبدية.
والطريقة الوحيدة للتخلص من ذلك الألم هي اتخاذ ‘عروس الذئب’.
كان وجود ‘عروس الذئب’، الذي ينتقل عبر الدم في بعض النساء البشريات فقط، بمثابة أشهى نبيذ فاكهة بالنسبة للمستذئبين.
سفك المستذئبون دماءً كثيرة للاستحواذ على ‘عروس الذئب’، وكان الحال نفسه بالنسبة لعروس الذئب البشرية العادية.
تناقصت أعدادهن باستمرار حتى أصبحن قلة نادرة، وأصبح وجودهن يشبه الأساطير منذ زمن بعيد.
عروس الذئب السابقة، التي قيل إنها هربت لتتحدى القدر، فُقد أثرها قبل سبعة عشر عامًا.
وها هي ‘عروس الذئب’ التي اختفت دون أثر تقف الآن أمام عيني ثيودور.
‘عروس الذئب التي اختفت قبل سبعة عشر عامًا كانت حاملاً بطفل.’
حتى لو استرجع أوصاف عروس الذئب السابقة التي لم يرها ثيودور بنفسه، فقد كانت تختلف تمامًا عن الطفلة التي أمامه.
بما أن عروس الذئب كانت بشرية عادية، فإنها تكبر بمرور الوقت.
لذا فإن عروس الذئب التي فُقدت قبل سبعة عشر عامًا هي على الأرجح….
‘والدة تلك الطفلة.’
عاشت الطفلة حياتها وهي تظن أنها يتيمة، لكن لم تكن لـ ثيودور رغبة في إخبارها بالتفصيل عن والدتها بعد.
‘إذًا هل هذه الطفلة هي حقًا عروس الذئب؟’
الشك الذي راوده للحظة تلاشى على الفور.
حتى في ذلك المكان المليء برائحة الميتم الكريهة ورائحة البشر المقززة، لم تصدر من هذه الطفلة رائحة كهذه.
والآن أيضًا، رغم أنها تغطي نفسها بمعطفه وتواجهه في مكان قريب كهذا، لا يشعر بأي نوع من النفور.
عديمة اللون والرائحة، حضور باهت، طفلة صغيرة جدًا ونحيلة لدرجة يرثى لها.
وفقًا لما يقال، فإن ‘عروس الذئب’ تشبه الزهرة المتفتحة، وهو وصف يتناقض تمامًا مع الطفلة التي أمامه.
وضع ثيودور يده على موضع قلبه أمام الطفلة التي بدأت تغفو وهي تحاول جاهدة ألا تشيح بنظرها عنه.
شعر أن الغثيان الذي كان يغلي في دمه وجميع حواسه التي كانت مستنفرة بشكل مروع، قد هدأت بشكل مذهل بمجرد وجود تلك الطفلة.
هل يوجد دليل أقطع من هذا؟ على أن هذه الطفلة الصغيرة والبائسة هي ‘عروس الذئب’.
بلا أدنى شك، كانت وصية جده حقيقية تمامًا.
الكيان الذي طارده جده طوال حياته ولم يستطع العثور عليه، يقبع الآن أمام ثيودور في صورة طفلة بشرية صغيرة.
استند ثيودور بجسده على إطار النافذة، وظل يتأمل عروسه الصغيرة لفترة أطول قليلاً.
الهدوء الذي شعر به لأول مرة في حياته جعل مزاج ثيودور غريبًا.
“سيدي ثيودور، أهلاً بك.”
انحنى رئيس الخدم ذو الشعر الأبيض المشوب بالشيب. رد ثيو التحية بإيماءة من رأسه، وكانت هناك طفلة بين ذراعيه.
“لقد تعبت في هذه الرحلة الطويلة. آه، أعطني الطفلة، سأحملها أنا.”
“لا بأس، سأحملها أنا. أين مكان نومها؟”
“لقد جهزته.”
حاول رئيس الخدم أخذ الطفلة من ثيودور، لكن ثيو تقدم بخطوات واسعة.
أمال رئيس الخدم رأسه بتعجب.
‘لماذا يتصرف سيدي هكذا؟’
إنه شخص يعاني من هوس شديد بالنظافة.
من المستحيل أن يحمل بشرية، وخاصة طفلة بشرية كهذه، بين ذراعيه هكذا….
تبع رئيس الخدم ثيودور وهو يتساءل عن تصرفه الذي يبدو وكأنه يخشى أن يسرقها منه أحد إذا لمسها.
“آه، وأيضًا.”
“نعم، سيدي.”
“لقد تركتُ خلفي نفايات تحتاج للتطهير. أرسل شخصًا موثوقًا به للتعامل مع الأمر بشكل نهائي.”
“حاضر، سأفعل.”
في ذلك اليوم، وقع حدث غريب في ميتم رادين.
اختفت المديرة دون سابق إنذار.
انتشرت شائعات تقول إنها هربت بالأموال التي كانت تختلسها من التبرعات، وشائعات أخرى تقول إن ذئبًا قد عضها في منتصف الليل.
على أي حال، الشيء المهم هو أنه لم يرَ أحد المديرة رادين مرة أخرى.
التعليقات لهذا الفصل " 3"