2
الفصل الثاني
فَتَحَتْ لارا عَيْنَيْهَا عَلَى وِسْعِهِمَا وَنَظَرَتْ إِلَى الرَّجُلِ.
‘عَرُوسِي….’
كَرَّرَتْ لارا الْكَلِمَاتِ الَّتِي قَالَهَا الرَّجُلُ قَبْلَ قَلِيلٍ فِي نَفْسِهَا.
رَغْمَ أَنَّهَا لَا تَعْرِفُ السَّبَبَ، إِلَّا أَنَّهَا شَعَرَتْ فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ بِأَنَّ عَالَمَهَا قَدْ تَغَيَّرَ تَمَامًا.
“…سَيِّدِي، هَلْ.. هَلْ كُنْتَ تَبْحَثُ عَنْ هَذِهِ الطِّفْلَةِ؟”
تَدَخَّلَتِ الْمُدِيرَةُ رَادِين بِسُرْعَةٍ وَهِيَ تُرَاقِبُ مَلاَمِحَهُ. كَانَتِ الْمُدِيرَةُ رَادِين تُعْمِلُ عَقْلَهَا بِجِدٍّ الآنَ.
“يَا لَلأَسَفِ، وَلَكِنْ مَاذَا نَفْعَلُ يَا سَيِّدِي. هَذِهِ الطِّفْلَةُ لَهَا مَالِكٌ آخَرُ بِالْفِعْلِ….”
“مَالِكٌ؟”
رَغْمَ أَنَّ الرَّجُلَ اكْتَفَى بِالسُّؤَالِ بِصَوْتٍ مُنْخَفِضٍ، إِلَّا أَنَّ الْمُدِيرَةَ رَادِين شَعَرَتْ بِشُعُورٍ غَرِيبٍ جَعَلَ شَعْرَ رَأْسِهَا يَقِفُ.
بَدَا أَنَّ هَيْبَةَ الرَّجُلِ، الَّذِي لَمْ يَجْلِبْ مَعَهُ حَتَّى خَادِمًا وَاحِدًا، لَمْ تَكُنْ نَبِيلًا عَادِيًّا أَبَدًا.
“أَجَلْ، أَجَلْ. لِلأَسَفِ، قَبْلَ قَلِيلٍ فَقَطْ، ظَهَرَ سَيِّدٌ نَبِيلٌ وَقَرَّرَ أَخْذَ الطِّفْلَةِ….”
“مَا هَذَا، مَا كُلُّ هَذَا الضَّجِيجِ؟”
سُمِعَ صَوْتُ النَّبِيلِ الْعَجُوزِ الَّذِي يُشْبِهُ الْخِنْزِيرَ مِنْ دَاخِلِ غُرْفَةِ الاِسْتِقْبَالِ.
اِقْتَرَبَ وَهُوَ يَتَرَنَّحُ نَحْوَ الْمُدِيرَةِ وَلارا.
تَقَلَّصَتْ تَعَابِيرُ الرَّجُلِ بِسَبَبِ رَائِحَةِ الْخَمْرِ الشَّدِيدَةِ وَالرَّائِحَةِ الْقَذِرَةِ الَّتِي كَانَتْ تَفُوحُ مِنَ النَّبِيلِ الْعَجُوزِ الْمُتَرَنِّحِ.
سَحَبَتِ الْمُدِيرَةُ رَادِين لارا نَحْوَهَا بِسُرْعَةٍ.
“آه…!”
بِسَبَبِ ذَلِكَ، كَادَتْ لارا أَنْ تَسْقُطَ لَكِنَّهَا تَمَكَّنَتْ مِنَ التَّوَازُنِ بِصُعُوبَةٍ.
نَطَقَتِ الْمُدِيرَةُ بِلِسَانِهَا الْمَاكِرِ كَالأَفْعَى:
“وَلَكِنْ يَا سَيِّدِي، إِذَا كَانَتِ الطِّفْلَةُ الَّتِي تَبْحَثُ عَنْهَا هِيَ هَذِهِ الطِّفْلَةُ، فَيُمْكِنُنِي مُسَاعَدَتُكَ. بِمُجَرَّدِ اتِّبَاعِ بَعْضِ الإِجْرَاءَاتِ، سَتَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهَا كَمَا تُرِيدُ. فَقَطْ بَعْضُ الإِجْرَاءَاتِ.”
“مَاذَا؟ اسْمَعِي يَا رَادِين. لَقَدِ اتَّفَقْنَا أَنْ آخُذَ أَنَا هَذِهِ الْفَتَاةَ أَوَّلًا. مَا هَذَا الْهُرَاءُ الَّذِي تَقُولِينَهُ الآنَ؟”
تَحَدَّثَ النَّبِيلُ الْعَجُوزُ وَهُوَ يَطْرُقُ عَصَاهُ بِقُوَّةٍ.
تَجَمَّدَتْ لارا بَعْدَ أَنْ فُزِعَتْ مِنْ ذَلِكَ الصَّوْتِ.
أَمْسَكَ النَّبِيلُ بِذِرَاعِ لارا الْوَاقِفَةِ بِارْتِبَاكٍ وَبَدَأَ يَهُزُّهَا بِفَظَاظَةٍ.
“اسْمَعِي، قُولِي أَنْتِ لَهُ. لَقَدْ دَفَعْتُ بِالْفِعْلِ مَبْلَغًا ضَخِمًا كَتَبَرُّعٍ هُنَا وَقَرَّرْتُ أَخْذَكِ كَخَادِمَةٍ فِي مَنْزِلِي. هَلْ تَعْلَمِينَ كَلَامَ مَنْ يَجِبُ أَنْ تَتَّبِعِي؟”
أَغْلَقَتْ لارا فَمَهَا وَهِيَ تَشْعُرُ بِالرُّعْبِ الشَّدِيدِ مِنْ مَنْظَرِ النَّبِيلِ الْعَجُوزِ الَّذِي يَصْرُخُ بِتَعَنُّتٍ.
وَبَدَأَ وَجْهُ الرَّجُلِ الْغَرِيبِ، الَّذِي يُرَاقِبُ كُلَّ هَذَا الْمَنْظَرِ، يُصْبِحُ بَارِدًا تَدْرِيجِيًّا.
لَقَدْ كَانَ مَكَانًا تَلْتَصِقُ فِيهِ الْقَذَارَةُ مُنْذُ لَحْظَةِ دُخُولِهِ.
تِلْكَ الرَّائِحَةُ الْعَفِنَةُ الْمُمَيِّزَةُ لِلأَمَاكِنِ الَّتِي لَا تَتِمُّ رِعَايَتُهَا جَيِّدًا، وَالأَرْضِيَّةُ الْقَذِرَةُ.
وَذَلِكَ الضَّجِيجُ الَّذِي يُشْبِهُ الْهَمَسَ وَالَّذِي يُسْمَعُ مِنْ بَعِيدٍ.
عِلاوَةً عَلَى ذَلِكَ، تِلْكَ الْفَتَاةُ الْبَشَرِيَّةُ الْهَزِيلَةُ، وَالْبَشَرِيُّ الأَحْمَقُ الَّذِي يَسْحَبُ طِفْلَةً أَصْغَرَ مِنْهُ بِأَضْعَافٍ بِجَانِبِهَا.
كُلُّهُمْ سَوَاءٌ….
“هَذَا مُثِيرٌ لِلْغَثَيَانِ.”
تَمْتَمَ الرَّجُلُ بِبُرُودٍ.
كَانَتْ حَوَاسُّهُ الْحَسَّاسَةُ لِلْغَايَةِ، وَالَّتِي لَا تُقَارَنُ بِالْبَشَرِ، قَدْ بَدَأَتْ بِالْفِعْلِ تُزْعِجُ أَعْصَابَهُ بِاسْتِمْرَارٍ.
“سَيِّدِي، اهْدَأْ وَاسْمَعْ كَلَامِي. لَقَدِ اعْتَنَيْتُ بِهَذِهِ الطِّفْلَةِ بِاهْتِمَامٍ كَبِيرٍ. لَقَدْ كَلَّفَتْنِي جُهْدًا أَكْبَرَ بِأَضْعَافٍ مِنَ الأَطْفَالِ الآخَرِينَ. هَلْ تَعْلَمُ كَمِ الْمَالِ الَّذِي صُرِفَ فَقَطْ بِسَبَبِ تِلْكَ الْعَيْنِ…. أَلَيْسَ عَلَيْنَا أَنْ نَعِيشَ أَيْضًا؟ لِذَلِكَ يَا سَيِّدِي…. مَهْمَا فَكَّرْتُ فِي الأَمْرِ، فَإِنَّ الْمَبْلَغَ الَّذِي أَعْطَيْتَهُ قَبْلَ قَلِيلٍ لَيْسَ….”
“مَاذَا؟ أَتَقْصِدِينَ أَنَّكِ بِحَاجَةٍ إِلَى مَزِيدٍ مِنَ التَّبَرُّعَاتِ؟ يَا رَادِين، أَنْتِ طَمَّاعَةٌ جِدًّا! لِمَاذَا لَا تَمْلِكِينَ أَيَّ أَخْلَاقٍ تِجَارِيَّةٍ!”
“أَنَا لَا أَقْصِدُ ذَلِكَ، بَلْ-“
بَدَأَ النَّبِيلُ الْعَجُوزُ، الَّذِي لاَحَظَ الأَجْوَاءَ الْغَرِيبَةَ، يَصْرُخُ فِي وَجْهِ رَادِين الآنَ.
وَرَادِين أَيْضًا لَمْ تَسْتَسْلِمْ وَبَدَأَتْ آخِرَ صَفَقَاتِهَا بِاسْتِخْدَامِ لارا.
رَاقَبَ الرَّجُلُ تِلْكَ الْمَسْرَحِيَّةَ الْهَزَلِيَّةَ، ثُمَّ فَتَحَ مِشْبَكَ قُفَّازِهِ الْجِلْدِيِّ الأَسْوَدِ مَرَّةً وَاحِدَةً ثُمَّ أَعَادَ إِغْلاَقَهُ بِبُطْءٍ.
كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْحَدَّ الأَدْنَى مِنْ وَسَائِلِ التَّحَكُّمِ الَّتِي يُمْكِنُهُ فِعْلُهَا قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ أَعْرَاضُ مَرَضِهِ اللَّعِينِ.
ثُمَّ الْتَقَتْ عَيْنَاهُ بِعَيْنَيِ الطِّفْلَةِ الَّتِي كَانَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ.
طِفْلَةٌ هَزِيلَةٌ وَلَا قِيمَةَ لَهَا.
فَتَاةٌ بَشَرِيَّةٌ يَصِلُ شَعْرُهَا الرَّمَادِيُّ إِلَى خَصْرِهَا.
‘هَذِهِ هِيَ عَرُوسِي.’
كَانَتْ “عَرُوسُ الذِّئْبِ” الَّتِي كَانَ جَدُّهُ يَبْحَثُ عَنْهَا بِكُلِّ جُهْدِهِ، بَائِسَةً وَهَزِيلَةً لِلْغَايَةِ.
هَلْ هَذِهِ حَقًّا هِيَ “عَرُوسُ الذِّئْبِ”؟
الذِّرَاعَانِ وَالسَّاقَانِ اللَّتَانِ انْكَشَفَتَا مِنْ خِلالِ فُسْتَانِ الطِّفْلَةِ الْكَتَّانِيِّ الْقَدِيمِ كَانَتَا مَلِيئَتَيْنِ بِالْكَدَمَاتِ فِي كُلِّ مَكَانٍ.
نُدُوبٌ قَدِيمَةٌ وَجُرُوحٌ تَبْدُو حَدِيثَةً أَيْضًا.
كَانَ مِنَ الْوَاضِحِ كَيْفَ كَانَتْ تُعَامَلُ الطِّفْلَةُ.
أَتَقُولُ إِنَّهَا اعْتَنَتْ بِهَا بِاهْتِمَامٍ بَعْدَ أَنْ جَعَلَتْ حَالَ الطِّفْلَةِ هَكَذَا؟
إِنَّهُ أَمْرٌ سَيَسْخَرُ مِنْهُ حَتَّى الْكَلْبُ الْمَارُّ.
كَانَتِ الطِّفْلَةُ، الَّتِي تَقَعُ تَحْتَ قَبْضَةِ النَّبِيلِ الْعَجُوزِ، تَرْتَجِفُ بِشِدَّةٍ.
“…….”
فِي الْوَاقِعِ، لَمْ تَكُنْ لارا تَسْمَعُ حَتَّى مَا تَقُولُهُ الْمُدِيرَةُ وَالرَّجُلُ الْعَجُوزُ الآنَ.
كَانَتْ سَاقَا لارا تَرْتَجِفَانِ وَقَلْبُهَا يَنْبِضُ بِقُوَّةٍ. كَانَتْ تَخْشَى أَنْ تُضْرَبَ مَرَّةً أُخْرَى.
رَفَعَتْ لارا رَأْسَهَا وَنَظَرَتْ إِلَى الرَّجُلِ الَّذِي أَمَامَهَا.
لَقَدْ قَالَ الرَّجُلُ بِالتَّأْكِيدِ إِنَّهَا “عَرُوسُهُ”.
رُبَّمَا لَا يَخْتَلِفُ هَذَا الرَّجُلُ كَثِيرًا عَنِ الرَّجُلِ الْعَجُوزِ…
وَلَكِنْ لِسَبَبٍ مَا، شَعَرَتْ بِأَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ الَّذِي يَمْلِكُ عَيْنَيْنِ تُشْبِهَانِ عَيْنَيْهَا لَنْ يُعَامِلَهَا بِقَسْوَةٍ.
‘رُبَّمَا تَكُونُ هَذِهِ هِيَ الْفُرْصَةُ الأَخِيرَةُ.’
رَجُلٌ غَرِيبٌ، جَمِيلٌ، وَضَخْمٌ، وَأَسْوَدُ بِالْكَامِلِ.
رَجُلٌ بَارِدٌ تَمَامًا وَكَأَنَّهُ جَلَبَ مَعَهُ عَاصِفَةً ثَلْجِيَّةً شِتَوِيَّةً.
فِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ، بَدَا الرَّجُلُ الَّذِي أَمَامَهَا لِـلارا وَكَأَنَّهُ النُّورُ الْوَحِيدُ.
الْتَقَتْ نَظَرَاتُ الرَّجُلِ بِنَظَرَاتِهَا.
حَرَّكَتْ لارا شَفَتَيْهَا.
‘خُذْنِي مَعَكَ.’
لَمْ تَرْغَبْ قَطُّ فِي أَيِّ شَيْءٍ مِنْ قَبْلُ.
‘أَرْجُوكَ….’
بِقَدْرِ هَذَا الإِلْحَاحِ فِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ.
‘خُذْنِي مَعَكَ.’
“…….”
لَقَدْ قَرَأَ الرَّجُلُ بِالتَّأْكِيدِ حَرَكَةَ فَمِ لارا.
نَظَرَ بِصَمْتٍ إِلَى الطِّفْلَةِ الَّتِي شَحَبَ وَجْهُهَا وَتَجَمَّدَتْ فِي مَكَانِهَا.
“مَاذَا، بِمَاذَا تَنْظُرَانِ؟ هَؤُلاَءِ الْبَشَرُ، يَبْدُو أَنَّ كَلَامِي لَيْسَ لَهُ قِيمَةٌ عِنْدَهُمْ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟”
لاَحَظَ النَّبِيلُ الْعَجُوزُ بَعْدَ فَوَاتِ الأَوَانِ أَنَّ نَظَرَاتِ الرَّجُلِ كَانَتْ مُوَجَّهَةً نَحْوَ الطِّفْلَةِ.
وَبَعْدَ أَنْ نَظَرَ بِغَضَبٍ إِلَى الرَّجُلِ وَالطِّفْلَةِ بِالتَّنَاوُبِ، بَدَا أَنَّ النَّبِيلُ الْعَجُوزُ لَمْ يَمْلِكِ الشَّجَاعَةَ لِمُوَاجَهَةِ الرَّجُلِ، فَبَدَأَ بِتَوْجِيهِ الشَّتَائِمِ إِلَى لارا وَرَفَعَ يَدَهُ الأُخْرَى.
أَغْمَضَتْ لارا عَيْنَيْهَا بِقُوَّةٍ.
“……!”
وَلَكِنْ هَذِهِ الْمَرَّةَ أَيْضًا، لَمْ تُضْرَبْ لارا.
بَلْ عَلَى الْعَكْسِ، لَمْ تَعُدْ تَشْعُرُ بِقَبْضَةِ النَّبِيلِ الْعَجُوزِ الَّتِي كَانَتْ تُمْسِكُ بِمِعْصَمِهَا.
“سَيِّدِي!”
صَرَخَتِ الْمُدِيرَةُ رَادِين وَخَادِمُ النَّبِيلِ الْعَجُوزِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.
“آه، آآآآآه!”
حِينَ سُمِعَ صَوْتُ صَرْخَةٍ فُظِيعَةٍ تَالِيَةٍ، فَتَحَتْ لارا عَيْنَيْهَا قَلِيلًا، فَوَجَدَتْ شَيْئًا مَا يُغَطِّي رَأْسَهَا.
فَاحَتْ رَائِحَةُ غَابَةِ الشِّتَاءِ بِقُوَّةٍ.
يَبْدُو أَنَّهُ كَانَ الْمِعْطَفُ الَّذِي كَانَ يَرْتَدِيهِ الرَّجُلُ.
وَبِسَبَبِ ذَلِكَ، لَمْ تَعُدْ لارا تَرَى سِوَى الرَّجُلِ الَّذِي أَمَامَهَا مِنْ خِلالِ فُجْوَةٍ صَغِيرَةٍ.
“…إِذَا خَرَجْتِ إِلَى الْخَارِجِ، سَتَرَيْنَ عَرَبَةً.”
قَالَ لِـلارا بِصَوْتٍ لَا يَخْتَلِفُ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ قَلِيلٍ.
“…….”
“اُخْرُجِي مُبَاشَرَةً، وَاصْعَدِي إِلَى الْعَرَبَةِ. وَأَغْلِقِي الْبَابَ بِإِحْكَامٍ. لَا تُفَكِّرِي فِي أَيِّ شَيْءٍ، وَعُدِّي الأَرْقَامَ بِبُطْءٍ.”
وَاحِدٌ، اثْنَانِ، ثَلاثَةٌ…. عُدِّي حَتَّى الْعَشَرَةِ.
“لَا تَلْتَفِتِي إِلَى الْخَلْفِ أَبَدًا. …هَلْ يُمْكِنُكِ فِعْلُ ذَلِكَ؟”
نَظَرَتْ لارا إِلَى عَيْنَيِ الرَّجُلِ اللَّتَيْنِ تُواجهَانِهَا.
عَيْنَانِ حَمْرَاوَانِ تَمَامًا، لَمْ تَكُونَا فُظِيعَتَيْنِ وَلَا مُقْشَعِرَّتَيْنِ.
رَغْمَ أَنَّهُمَا كَانَتَا بِنَفْسِ لَوْنِ عَيْنِهَا الَّتِي كَانَتْ تَنْعَكِسُ فِي دَلْوِ الْمَاءِ.
نَظَرَتْ لارا إِلَى الرَّجُلِ بِشُرُودٍ، ثُمَّ أَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا قَلِيلًا بَعْدَ فَوَاتِ الأَوَانِ.
“نَعَمْ.”
بَعْدَ أَنْ سَمِعَ الرَّجُلُ رَدَّ لارا، ابْتَسَمَ بِخِفَّةٍ.
“إِذَنْ، اذْهَبِي.”
الْتَفَتَتْ لارا مَكَانَهَا.
أَيْنَ تَقَعُ الْبَلاَطَاتُ الْقَدِيمَةُ وَالْمَكْسُورَةُ، لَمْ تَشْعُرْ لارا قَطُّ بِأَنَّ مَلْجَأَ رَادِين لِلأَيْتَامِ، الَّذِي يُمْكِنُهَا التَّجَوُّلُ فِيهِ حَتَّى وَهِيَ مُغْمَضَةُ الْعَيْنَيْنِ، كَانَ غَرِيبًا كَمَا هُوَ فِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ.
“لارا!”
صَرَخَتِ الْمُدِيرَةُ رَادِين بِشِدَّةٍ.
“لارا، مَاذَا تَفْعَلِينَ الآنَ؟ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبِينَ؟ أَنَا أَتَحَدَّثُ مَعَكِ. قِفِي هُنَاكَ حَالًا!”
أَمَرَتِ الْمُدِيرَةُ.
لَقَدْ كَانَ ذَلِكَ الصَّوْتَ الَّذِي يَخْنُقُ أَنْفَاسَ لارا دَائِمًا.
تَوَقَّفَتْ لارا لِلَحْظَةٍ.
تَجَمَّدَ جَسَدُهَا تِلْقَائِيًّا.
تَذَكَّرَتْ لارا كَلَامَ الرَّجُلِ.
‘اُخْرُجِي مُبَاشَرَةً، وَاصْعَدِي إِلَى الْعَرَبَةِ. وَأَغْلِقِي الْبَابَ بِإِحْكَامٍ.’
لَا تُفَكِّرِي فِي أَيِّ شَيْءٍ، لَا تُفَكِّرِي فِي أَيِّ شَيْءٍ.
عُدِّي الأَرْقَامَ بِبُطْءٍ….
وَاحِدٌ، اثْنَانِ…. حَتَّى الْعَشَرَةِ.
رَدَّدَتْ لارا كَلَامَ الرَّجُلِ فِي نَفْسِهَا وَبَدَأَتْ تَخْطُو بِخُطُوَاتِهَا الْمُتَجَمِّدَةِ.
خُطْوَةً بِخُطْوَةٍ نَحْوَ الأَمَامِ.
حِينَ فَتَحَتْ بَابَ مَلْجَأِ الأَيْتَامِ، غَطَّتِ الْعَاصِفَةُ الثَّلْجِيَّةُ الضَّبَابِيَّةُ رُؤْيَةَ لارا بِالْبَيَاضِ.
لَمْ تَعُدْ تَرَى أَيَّ شَيْءٍ.
كَانَ الْعَالَمُ كُلُّهُ مَمْلَكَةً مِنَ الثَّلْجِ.
“لارا! حَاوِلِي أَنْ تَتَحَرَّكِي خُطْوَةً وَاحِدَةً أُخْرَى فَقَطْ.”
أَعْلَنَ ذَلِكَ الصَّوْتُ الْمُرْعِبُ أَنَّهُ كَانَ التَّحْذِيرَ الأَخِيرَ لِلْمُدِيرَةِ.
“هَذِهِ فُرْصَتُكِ الأَخِيرَةُ. لارا، عُودِي الآنَ حَالًا!”
هَلْ تَلْتَفِتُ إِلَى الْخَلْفِ؟ إِذَا عَادَتِ الآنَ وَطَلَبَتِ الصَّفْحَ مِنْهَا، فَهَلْ سَتُسَامِحُهَا؟
هَلْ سَيَعُودُ كُلُّ شَيْءٍ كَمَا كَانَ وَكَأَنَّ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ، وَتَعُودُ لارا كَمَا كَانَتْ فِي السَّابِقِ؟
‘لَا أُرِيدُ.’
لَمْ تَكُنْ تُرِيدُ أَنْ يَحْدُثَ ذَلِكَ.
لَمْ تَعُدْ تَسْتَطِيعُ تَحَمُّلَ إِهَانَاتِ الْمُدِيرَةِ وَضَرْبِهَا الَّذِي يَسْتَمِرُّ كُلَّ يَوْمٍ.
رَغْمَ أَنَّهَا حَاوَلَتِ الاِنْصِيَاعَ لَهَا حَتَّى النِّهَايَةِ، إِلَّا أَنَّهَا كَانَتْ تَكْرَهُ أَيْضًا أَنْ يَتِمَّ تَسْلِيمُهَا لِنَبِيلٍ عَجُوزٍ وَعَنِيفٍ وَكَأَنَّهَا حِمْلٌ ثَقِيلٌ.
مَنْ يَكُونُ هَذَا الرَّجُلُ، وَلِمَاذَا بَحَثَ عَنْهَا، كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُهِمًّا لِـلارا.
فِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ، لَمْ تَكُنْ لارا تَرْغَبُ سِوَى فِي التَّحَرُّرِ مِنْهَا.
تَمَنَّتْ أَنْ تُغَادِرَ مَلْجَأَ رَادِين لِلأَيْتَامِ.
أَرَادَتْ أَنْ يَتِمَّ إِنْقَاذُهَا.
“…لَنْ أَلْتَفِتَ إِلَى الْخَلْفِ.”
هَمَسَتْ لارا بِصَوْتٍ خَفِيضٍ وَكَأَنَّهَا تُخَاطِبُ نَفْسَهَا.
انْغَمَسَتِ الْخُطْوَاتُ الَّتِي خَطَتْهَا فِي الثَّلْجِ فِي لَحْظَةٍ.
تَلاَشَتْ كُلُّ الضَّوْضَاءِ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ.
صَوْتُ الْمُدِيرَةِ الْحَادُّ أَيْضًا، لَمْ يَعُدْ يُسْمَعُ.
رَغْمَ أَنَّهَا كَانَتْ عَاصِفَةً ثَلْجِيَّةً شَدِيدَةً لِدَرَجَةِ أَنَّهَا لَا تَرَى مَا أَمَامَهَا، إِلَّا أَنَّ لارا وَاصَلَتِ التَّقَدُّمَ نَحْوَ الأَمَمِ وَهِيَ تُرَدِّدُ كَلَامَ الرَّجُلِ.
فَجْأَةً، حِينَ نَظَرَتْ إِلَى السَّمَاءِ، كَانَ الثَّلْجُ يَتَسَاقُطُ بِغَزَارَةٍ.
“آه….”
حِينَ مَدَّتْ يَدَهَا فَجْأَةً، اسْتَقَرَّتْ نَدْفَةُ ثَلْجٍ كَبِيرَةٌ وَاحِدَةٌ عَلَى يَدِ لارا.
بَقِيَتْ نَدْفَةُ الثَّلْجِ لِفَتْرَةٍ قَصِيرَةٍ عَلَى يَدِ لارا الَّتِي اصْبَحَتْ حَمْرَاءَ تَمَامًا، ثُمَّ اخْتَفَتْ.
تَنَفَّسَتْ لارا بِعُمْقٍ. كَانَ قَلْبُهَا يَنْبِضُ بِقُوَّةٍ.
لَقَدْ كَانَتْ لَيْلَةً بَيْضَاءَ جِدًّا، جِدًّا.
* * *
“لارا، لارا!”
بَدَأَتِ الْمُدِيرَةُ تَهْتِفُ بِاسْمِ لارا مِرَارًا وَتَكْرَارًا وَكَأَنَّهَا لَا تُصَدِّقُ حَقِيقَةَ أَنَّ لارا قَدْ عَصَتْ أَمْرَهَا وَخَرَجَتْ مِنَ الْبَابِ.
وَبِجَانِبِهَا، كَانَ السَّيِّدُ النَّبِيلُ الْعَجُوزُ الْمُلْقَى عَلَى الأَرْضِ يَنْفُثُ رَغْوَةً دَمَوِيَّةً مِنْ فَمِهِ، بَيْنَمَا كَانَ خَادِمُهُ يَرْكَعُ وَيَهُزُّ سَيِّدَهُ بِاسْتِمْرَارٍ.
بَعْدَ فَوَاتِ الأَوَانِ، اسْتَعَادَتِ الْمُدِيرَةُ وَعْيَهَا وَنَظَرَتْ إِلَى الرَّجُلِ.
لَا تَعْرِفُ مَاذَا فَعَلَ هَذَا الرَّجُلُ الآنَ، وَلَكِنْ رَغْمَ ذَلِكَ، لَا يُمْكِنُ خَسَارَةُ لارا بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ.
فَهِيَ لَمْ تَحْصُلْ حَتَّى الآنَ عَلَى أَيِّ فَائِدَةٍ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ!
“سَيِّدِي.. سَيِّدِي! مَا هَذَا الَّذِي تَفْعَلُهُ!”
“مُزْعِجٌ. لَقَدْ بَدَأَ رَأْسِي يَرِنُّ.”
نَظَرَ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ الْعَجُوزِ الْمُتَقَلِّبِ عَلَى الأَرْضِ وَكَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى شَيْءٍ قَذِرٍ، ثُمَّ أَصْلَحَ قُفَّازَاتِهِ الْجِلْدِيَّةَ.
تَوَجَّهَتْ تِلْكَ النَّظْرَةُ الْبَارِدَةُ نَحْوَ الْمُدِيرَةِ.
كَانَ يَشْعُرُ بِأَنَّ الرَّجُلَ الْعَجُوزَ الْمُتَقَلِّبَ عَلَى الأَرْضِ وَالْمُدِيرَةَ هُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ.
بَشَرٌ قَذِرون وَنَجِسون.
نُفَايَاتٌ لَا تَمْلِكُ قِيمَةً لِلْمُوَاجَهَةِ.
“أَنَا.. أَنَا لَمْ أُقَرِّرْ بَعْدُ إِرْسَالَ هَذِهِ الطِّفْلَةِ إِلَيْكَ، وَأَنْتَ، إِذَا خَرَجْتَ هَكَذَا، سَأَقَاضِيكَ بِتُهْمَةِ اخْتِطَافِ الأَطْفَالِ!”
ضَحِكَ الرَّجُلُ بِخِفَّةٍ وَكَأَنَّ صِيَاحَ الْمُدِيرَةِ مُثِيرٌ لِلسُّخْرِيَّةِ.
بِسَبَبِ ضِحْكَتِهِ، ارْتَبَكَتِ الْمُدِيرَةُ لِلَحْظَةٍ وَأَغْلَقَتْ فَمَهَا.
وَلَكِنَّ الْكَلاَمَ الَّذِي نُطِقَ بِهِ بِالْفِعْلِ لَا يُمْكِنُ اسْتِرْدَادُهُ.
“حَسَنًا. جَرِّبِي ذَلِكَ.”
“…….”
“آه. يَبْدُو أَنَّكِ تَعِبْتِ كَثِيرًا فِي تَرْبِيَةِ الطِّفْلَةِ. بِمَا أَنَّ الْمُدِيرَةَ اعْتَنَتْ بِهَا بِشَكْلٍ خَاصٍّ، فَقَدْ كَانَتْ جَمِيلَةً جِدًّا.”
أَلْقَى الرَّجُلُ كِيسًا صَغِيرًا أَمَامَ الْمُدِيرَةِ.
شَعَرَتِ الْمُدِيرَةُ بِالتَّرَدُّدِ، ثُمَّ سَارَعَتْ لِفَتْحِ الْكِيسِ وَالنَّظَرِ فِيهِ.
“!”
بَعْدَ رُؤْيَةِ الْكِيسِ الْمَلِيءِ بِالذَّهَبِ اللَّامِعِ، الَّذِي لَا يُمْكِنُ مُقَارَنَتُهُ بِذَلِكَ الْخَاتَمِ الْقَدِيمِ الَّذِي أَعْطَاهُ النَّبِيلُ الْعَجُوزُ، تَرَاجَعَتِ الْمُدِيرَةُ إِلَى الْخَلْفِ ثُمَّ سَقَطَتْ.
“سَيِّدِي.. سَيِّدِي..!”
“لَا تَجْعَلِي اسْمَ تِلْكَ الطِّفْلَةِ يَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ الْفَمِ مَرَّةً أُخْرَى. فَأَنَا أَشْعُرُ بِقَذَارَةٍ شَدِيدَةٍ.”
“نَعَمْ، نَعَمْ، بِالطَّبْعِ يَا سَيِّدِي! أَبَدًا، أَبَدًا…!”
لَمْ يَعُدِ الرَّجُلُ يَسْتَمِعُ إِلَى مَا كَانَتِ الْمُدِيرَةُ تُتَمْتِمُ بِهِ، وَالْتَفَتَ مَكَانَهُ.
“…….”
خَلْفَ السَّلَالِمِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى الطَّابَقِ الثَّانِي، الْتَقَتْ عَيْنَاهُ بِعَيْنَيْ فَتَاةٍ كَانَتْ تُرَاقِبُهُ، لَكِنَّ الرَّجُلَ لَمْ يَهْتَمَّ وَغَادَرَ الْمَكَانَ.
الْتَفَتَتْ هِيلِين وَتَمْتَمَتْ وَهِيَ تَعَضُّ أَظَافِرَهَا:
“…لارا، هَلْ غَادَرَتْ لارا مَلْجَأَ الأَيْتَامِ؟ حَقًّا؟”
بِالتَّأْكِيدِ، ذَلِكَ الشُّعُورُ الْمُثِيرُ الَّذِي كَانَ يَتَمَلَّكُهَا مُنْذُ قَلِيلٍ قَدْ أَصْبَحَ الآنَ فَاشِلًا تَمَامًا.
وَعَلَى عَكْسِ أُمِّهَا الَّتِي كَانَتْ سَعِيدَةً جِدًّا وَهِيَ تَنْظُرُ إِلَى الْكِيسِ، لَمْ تَكُنْ هِيلِين سَعِيدَةً أَبَدًا بِجَنْيِ مَبْلَغٍ كَبِيرٍ مِنَ الْمَالِ.
لَقَدْ غَادَرَ الرَّجُلُ هَذَا الْمَكَانَ بَعْدَ أَنْ عَامَلَهَا وَكَأَنَّهَا شَخْصٌ غَيْرُ مَوْجُودٍ رَغْمَ أَنَّهُ رَآهَا.
كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَحْدُثَ ذَلِكَ؟ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ شَخْصٌ يَحْتَاجُ إِلَى لارا؟
“…مُسْتَفِزٌّ، مُسْتَفِزٌّ، مُسْتَفِزٌّ!”
صَرَخَتْ هِيلِين بَعْدَ أَنْ لَمْ تَسْتَطِعْ تَحَمُّلَ غَضَبِهَا.
وَبَدَأَتْ هِيلِين تَرْسُمُ فِي نَفْسِهَا صُورَةَ وَجْهِ الرَّجُلِ الْوَسِيمِ الطَّوِيلِ، ذِي الشَّعْرِ الأَسْوَدِ كَاللَّيْلِ.
لَنْ تَنْسَى وَجْهَ الرَّجُلِ أَبَدًا. أَبَدًا.
التعليقات لهذا الفصل " 2"