1
الفصل الأول
“لارا.”
كَانَتْ لَيْلَةً يَتَسَاقَطُ فِيهَا الثَّلْجُ بِغَزَارَةٍ.
نَظَرَتْ لارا بِشُرُودٍ إِلَى خَارِجِ النَّافِذَةِ الضَّبَابِيَّةِ.
‘هَلْ سَمِعْتِ الشَّائِعَاتِ؟ يَقُولُونَ إِنَّ لارا سَتُبَاعُ! سَيَأْخُذُونَهَا هَذَا الْيَوْمَ.’
‘مَنْ؟’
‘لَا أَعْلَمُ. تَقُولُ هِيلِين إِنَّهُ عَجُوزٌ جِدًّا، وَسَمِينٌ كَالْخِنْزِيرِ، وَظَهْرُهُ مُنْحَنٍ، وَأَيْضًا….’
كَانَ الثَّلْجُ يَهْطُلُ فِي الْخَارِجِ.
رَغْمَ أَنَّهَا لَيْلَةٌ مُظْلِمَةٌ، إِلَّا أَنَّهَا كَانَتْ مُشْرِقَةً كَالنَّهَارِ.
لَقَدْ كَانَ يَتَسَاقَطُ بِكَثَافَةٍ حَقًّا.
“لارا، …لارا!”
اِقْتَرَبَتِ الطِّفْلَةُ الَّتِي نَادَتْ لارا مِرَارًا مِنْهَا حِينَ رَأَتْهَا لَا تُعِيرُ كَلَامَهَا اهْتِمَامًا، ثُمَّ رَكَلَتْ دَلْوَ التَّنْظِيفِ فَأَسْقَطَتْهُ.
حِينَئِذٍ فَقَطْ أَبْعَدَتْ لارا نَظَرَهَا عَنِ النَّافِذَةِ وَنَظَرَتْ بِصَمْتٍ إِلَى الأَرْضِيَّةِ الَّتِي اتَّسَخَتْ بِالْمَاءِ الْعَكِرِ.
“لارا، أَيَّتُهَا الْفَتَاةُ عَدِيمَةُ الْفَائِدَةِ. أَنَا أَتَحَدَّثُ عَنْكِ الآنَ. أَلَا تَسْمَعِينَ؟”
وَضَعَتِ الطِّفْلَةُ يَدَيْهَا عَلَى خَصْرِهَا وَهِيَ تُقَلِّدُ صَوْتَ الْمُدِيرَةِ بِمَهَارَةٍ.
اِنْفَجَرَ الأَطْفَالُ ضَحِكًا وَتَجَمَّعُوا حَوْلَهَا فِي لَحْظَةٍ.
“أَجَلْ، أَخِيرًا جَاءَ الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ مَا شُعُورُكِ وَأَنْتِ تُبَاعِينَ لِعَجُوزٍ هَرِمٍ؟”
قَالَتْ هِيلِين ذَلِكَ وَهِيَ تَنْظُرُ إِلَى لارا بَتَعَالٍ.
“أَنْتِ لَا تُرِيدِينَ الذَّهَابَ، صَحِيحٌ؟ هَذِهِ فُرْصَتُكِ الأَخِيرَةُ. بَعْدَ مُرُورِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ، سَتُبَاعِينَ لِذَلِكَ الْعَجُوزِ.”
“…….”
“إِذَا كُنْتِ لَا تُرِيدِينَ الذَّهَابَ، فَاْركَعِي أَمَامِي وَتَوَسَّلِي. قَدْ أَطْلُبُ مِنْ أُمِّي طَلَبًا خَاصًّا لأَجْلِكِ.”
لَكِنَّ لارا لَمْ تَرْكَعْ لِتَتَوَسَّلَ لِهِيلِين.
لَمْ تَلْتَفِتْ لارا حَتَّى لِلأَطْفَالِ الْمُتَجَمِّعِينَ، وَبَدَأَتْ بِتَنْظِيفِ الأَرْضِيَّةِ الَّتِي غَرِقَتْ بِالْمَاءِ.
أَعَادَتْ تَرْكِيزَ الدَّلْوِ الْمُلْقَى، ثُمَّ عَصَرَتِ الْمِمْسَحَةَ الْمُشَبَّعَةَ بِالْمَاءِ بِقُوَّةٍ.
اسْتَشَاطَتْ هِيلِين غَضَبًا مِنْ تَجَاهُلِ لارا لَهَا، وَهِيَ ابْنَةُ الْمُدِيرَةِ.
اِرْتَفَعَتْ يَدُ هِيلِين وَهِيَ تَزْفِرُ بِحَنَقٍ.
“أَتَتَجَاهَلِينَنِي حَتَّى النِّهَايَةِ؟”
أَمْسَكَتْ بِشَعْرِ لارا بِقُوَّةٍ وَهَزَّتْهُ، فَانْكَشَفَتْ عَيْنَاهَا اللَّتَانِ تَخْتَلِفَانِ فِي اللَّوْنِ لِتُوَاجِهَا هِيلِين.
فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، شَعَرَتْ هِيلِين بِقُشَعْرِيرَةٍ بَارِدَةٍ.
عَيْنَانِ مُخْتَلِفَتَا اللَّوْنِ.
كَانَتْ عَيْنَا تِلْكَ الْفَتَاةِ رَمْزًا لِلنَّحْسِ.
“أَيَّتُهَا الْفَتَاةُ… الْفَتَاةُ الْمَنْحُوسَةُ.”
أَفْلَتَتْ هِيلِين يَدَهَا بَعْدَ أَنْ شَعَرَتْ بِالاشْمِئْزَازِ، وَنَطَقَتْ بِالْكَلِمَاتِ الَّتِي كَانَتْ تُرَدِّدُهَا أُمُّهَا دَائِمًا.
فَتَاةٌ مَنْحُوسَةٌ، مُقْشَعِرَّةٌ، وَمُثِيرَةٌ لِلاِكْتِئَابِ.
هَكَذَا كَانَتْ لارا تُدْعَى دَائِمًا فِي مَلْجَأِ رَادِين لِلأَيْتَامِ.
فَالأُمُورُ الْمَأْسَاوِيَّةُ فَقَطْ هِيَ مَا تحِيطُ بِتِلْكَ الْفَتَاةِ.
وَبَعْدَ أَنْ تَحَرَّرَتْ لارا مِنْ قَبْضَةِ هِيلِين، وَاصَلَتْ عَمَلَهَا بِصَمْتٍ.
“هَذَا مُمِلٌّ….”
“إِنَّهَا هَكَذَا دَائِمًا. هِيلِين، لِنَذْهَبْ فَحَسْبُ.”
“هَذَا مُسْتَفِزٌّ حَقًّا!”
فِي النِّهَايَةِ، غَادَرَتْ هِيلِين مَعَ الأَطْفَالِ إِلَى الطَّابَقِ الْعُلْوِيِّ بَعْدَ أَنْ فَقَدَتِ الاِهْتِمَامَ.
عَادَ الْهُدُوءُ لِيُخَيِّمَ عَلَى الْمَكَانِ مَرَّةً أُخْرَى.
تَوَقَّفَتْ لارا عَنِ الْمَسْحِ وَتَنَفَّسَتْ بِبُطْءٍ.
رَفَعَتْ رَأْسَهَا وَنَظَرَتْ خَارِجَ النَّافِذَةِ مُجَدَّدًا.
‘حِينَ يَتَسَاقَطُ الثَّلْجُ، يُصْبِحُ كُلُّ شَيْءٍ هَادِئًا.’
أَحَبَّتْ لارا فَصْلَ الشِّتَاءِ.
رَغْمَ أَنَّ سَرِيرَهَا الصَّغِيرَ، الَّذِي لَا تَسْتَطِيعُ الاِسْتِلْقَاءَ فِيهِ إِلَّا بِانْكِمَاشِ جَسَدِهَا، لَمْ يَكُنْ يَحْمِيهَا مِنْ بَرْدِ لَيَالِي الشِّتَاءِ، إِلَّا أَنَّ الثَّلْجَ الأَبْيَضَ الَّذِي تَرَاهُ خَلْفَ النَّافِذَةِ الضَّبَابِيَّةِ كَانَ جَمِيلًا جِدًّا فِي نَظَرِهَا.
فِي أَيَّامِ تَسَاقُطِ الثَّلْجِ كَهَذَا الْيَوْمِ، يَسُودُ صَمْتٌ غَرِيبٌ فِي الأَرْجَاءِ.
حِينَ تُهَدِّئُ أَنْفَاسَهَا وَهِيَ تُرَاقِبُ سُقُوطَ الثَّلْجِ، كَانَتْ أَصْوَاتُ الْعَالَمِ كُلِّهِ تَهْدَأُ.
أَحَبَّتْ لارا ذَلِكَ الشُّعُورَ.
لأَنَّهُ كَانَ يَبْدُو وَكَأَنَّ لَا أَحَدَ فِي هَذَا الْعَالَمِ سِوَاهَا وَسِوَى الثَّلْجِ.
‘لِذَلِكَ أُحِبُّهُ.’
أَحَبَّتْ لارا الأَيَّامَ الَّتِي يَتَسَاقَطُ فِيهَا الثَّلْجُ.
وَلِذَلِكَ تَمَنَّتْ لَوْ أَنَّهَا تُدْفَنُ تَحْتَ الثَّلْجِ فَحَسْبُ.
* * *
“سَآخُذُ هَذِهِ الطِّفْلَةَ.”
قَرَّرَ الرَّجُلُ السَّمِينُ وَالْعَجُوزُ ذَلِكَ.
لَقَدْ كَانَ أَمْرًا مَحْسُومًا بِالْفِعْلِ.
بِصِفَتِهِ دَاعِمًا قَدِيمًا لِمَلْجَأِ رَادِين لِلأَيْتَامِ، قِيلَ إِنَّهُ نَبِيلٌ مِنْ عَائِلَةٍ مَا.
زَارَ مَلْجَأَ رَادِين قَائِلًا إِنَّهُ بِحَاجَةٍ إِلَى خَادِمَةٍ صَغِيرَةٍ تَقُومُ عَلَى خِدْمَتِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ.
أَمَّا الْمُدِيرَةُ رَادِين، فَقَدْ فَرَكَتْ يَدَيْهَا أَمَامَهُ وَرَشَّحَتْ لارا بِحَمَاسٍ.
رَأَى النَّبِيلُ الْعَجُوزُ شَعْرَ لارا الْفِضِّيَّ الشَّفَّافَ وَوَجْهَهَا الْجَمِيلَ الَّذِي يَصْعُبُ رُؤْيَتُهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الأَرْيَافِ، فَأُعْجِبَ بِهَا كَثِيرًا.
وَلَكِنْ سُرْعَانَ مَا قَطَّبَ حَاجِبَيْهِ حِينَ رَأَى اخْتِلَافَ لَوْنِ عَيْنَيْهَا، فَنَطَقَتِ الْمُدِيرَةُ بِالْكَلِمَاتِ الَّتِي أَعَدَّتْهَا مسبقًا.
“سَيِّدِي، رَغْمَ أَنَّ هَذِهِ الطِّفْلَةَ تَبْدُو ضَعِيفَةً، إِلَّا أَنَّهَا تَعْمَلُ بِجِدٍّ كَبِيرٍ. لَقَدْ صَمَدَتْ فِي هَذَا الْمَكَانِ لِسَنَواتٍ رَغْمَ شِتَائِهِ الْقَارِسِ. أَمَّا عَنْ ذَلِكَ الْعَيْبِ، فَلَا بَأْسَ. بَلْ عَلَى الْعَكْسِ، إِذَا عُرِفَ أَنَّكَ آوَيْتَ مِثْلَ هَذِهِ الطِّفْلَةِ الْمِسْكِينَةِ بِنَفْسِكَ، فَسَتَرْتَفِعُ مَكَانَتُكَ. فَكِّرْ فِي الأَمْرِ عَلَى الْمَدَى الْبَعِيدِ. وَإِذَا لَمْ تُعْجِبْكَ فِعْلًا، فَإِنَّهَا مُجَرَّدُ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ…. أَنْتَ تَعْلَمُ ذَلِكَ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ يَا سَيِّدِي؟”
أَوْمَأَ النَّبِيلُ الْعَجُوزُ رَأْسَهُ لِكَلَامِ الْمُدِيرَةِ.
“هِمْم. حَسَنًا…. أَجَلْ. لَيْسَ سيئا. وَجْهُهَا جَمِيلٌ، وَسَتَكُونُ مُفِيدَةً مِنْ نَوَاحٍ عَدِيدَةٍ.”
قَالَ الرَّجُلُ الْعَجُوزُ ذَلِكَ وَهُوَ يَتَفَحَّصُ لارا بِنَظَرَاتٍ مَكْشُوفَةٍ.
بَدَا أَنَّ الرَّجُلَ الْعَجُوزَ لَدَيْهِ عَادَةُ التَّلْوِيحِ بِعَصَاهُ الَّتِي يُمْسِكُهَا بَيْنَ حِينٍ وَآخَرَ وَهُوَ يَتَحَدَّثُ.
فِي كُلِّ مَرَّةٍ يُلَوِّحُ فِيهَا بِالْعَصَا، كَانَ قَلْبُ لارا يَبْدُو وَكَأَنَّهُ يَتَجَمَّدُ.
كَانَتْ تَفُوحُ مِنْهُ رَائِحَةُ خَمْرٍ كَرِيهَةٌ وَمُقْزِزَةٌ، وَكَانَ سُلُوكُهُ الْمُتَعَالِي يَجْعَلُ لارا تَشْعُرُ بِالانْكِمَاشِ.
“اسْمُكِ لارا، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ حَسَنًا، إِذَا كُنْتِ مُطِيعَةً، فَلَرُبَّمَا سَتَتَنَاوَلِينَ بَعْضَ اللَّحْمِ الْجَيِّدِ فِي مَنْزِلِي. مَا رَأْيُكِ؟ اتِّبَاعِي سَيَكُونُ أَفْضَلَ لَكِ مِنْ مَنِ الْبَقَاءِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَكَانِ.”
أَصْبَحَتْ تَعَابِيرُ وَجْهِ لارا أَكْثَرَ جُمُودًا بِسَبَبِ صَوْتِ الرَّجُلِ الْمُزْعِجِ.
“هَلْ هِيَ صَامِتَةٌ هَكَذَا دَائِمًا؟ إِنَّهَا تَبْدُو كَالدُّمْيَةِ تَمَامًا. أَوْ رُبَّمَا لَا تَعْرِفُ كَيْفَ تَتَحَدَّثُ.”
“لَا، إِنَّهَا تَتَحَدَّثُ جَيِّدًا. لَيْسَتْ حَمْقَاءَ. هَيَّا يَا لارا! أَجِيبِي السَّيِّدَ بِسُرْعَةٍ.”
رَمَشَتْ لارا بِعَيْنَيْهَا بِشُرُودٍ.
بِمَاذَا يَجِبُ أَنْ تُجِيبَ؟
“هَيَّا، قُولِي لِلسَّيِّدِ إِنَّكِ سَتَعْمَلِينَ بِجِدٍّ! أَنْتِ لَسْتِ بَكْمَاءَ، يَا لَكِ مِنْ فَتَاةٍ.”
“…….”
“لارا!”
حِينَ لَمْ تَنْطِقْ لارا بِأَيِّ كَلِمَةٍ، زَادَتِ الْمُدِيرَةُ مِنْ قُوَّةِ قَبْضَتِهَا عَلَى كَتِفِ لارا.
كَانَ ذَلِكَ مُؤْلِمًا.
لَكِنَّ لَا كَلَامَ يَخْرُجُ مِنْ فَمِهَا.
لَوَّحَ النَّبِيلُ الْعَجُوزُ، الَّذِي شَعَرَ بِالإِهَانَةِ، بِعَصَاهُ مَرَّةً أُخْرَى.
“تِشْ، لَا يَهُمُّ إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْفَتَاةُ سَتَرُدُّ أَمْ لَا. لَا بَأْسَ، لَا بَأْسَ.”
“أَنَا.. أَنَا أَعْتَذِرُ يَا سَيِّدِي.”
احَمَرَّ وَجْهُ الْمُدِيرَةِ خَجَلًا وَهِيَ تَضْغَطُ بِقُوَّةٍ عَلَى كَتِفِ لارا وَتُحْنِي رَأْسَهَا.
عَضَّتْ لارا شَفَتَيْهَا كَيْ لَا تَصْرُخَ مِنَ الأَلَمِ.
هَدَأَتْ تَعَابِيرُ النَّبِيلِ الْعَجُوزِ وَهُوَ يَسْحَبُ لارا نَحْوَهُ بِفَظَاظَةٍ مَرَّةً أُخْرَى وَيَقُولُ:
“لَقَدْ تَبَرَّعْتُ بِمَبْلَغٍ ضَخِمٍ لِهَذَا الْمَكَانِ مِنْ أَجْلِكِ، لِذَا عَلَيْكِ أَنْ تُحْسِنِي التَّصَرُّفَ فِي مَنْزِلِي مُسْتَقْبَلًا. لَنْ أَتَسَامَحَ أَبَدًا مَعَ الْكَسَلِ أَوِ التَّفْكِيرِ فِي أُمُورٍ أُخْرَى. وَلَا تَقُولِي أَبَدًا إِنَّكِ تُرِيدِينَ الْعَوْدَةَ إِلَى مَلْجَأِ الأَيْتَامِ. هَلْ فَهِمْتِ؟”
“سَيِّدِي، يَجِبُ أَنْ تَنْطَلِقَ الآنَ كَيْ تَصِلَ فِي الْوَقْتِ الْمُنَاسِبِ. وَإِلَّا فَإِنَّ السَّيِّدَةَ….”
“اُصْمُتْ! لَا تَذْكُرِ اسْمَ زَوْجَتِي بِوَجْهِي الْمَنْحُوسِ!”
صَرَخَ النَّبِيلُ الْعَجُوزُ بِقُوَّةٍ وَهُوَ يُلَوِّحُ بِعَصَاهُ نَحْوَ خَادِمِهِ.
مَدَّتِ الْمُدِيرَةُ، الَّتِي ارْتَسَمَتْ عَلَى وَجْهِهَا ابْتِسَامَةٌ عَرِيضَةٌ، يَدَهَا نَحْوَ الْخَادِمِ.
أَسْقَطَ الْخَادِمُ خَاتَمًا بَالِيًا قَدِيمًا فِي كَفِّ الْمُدِيرَةِ.
رَنِينٌ، وَصَلَ ذَلِكَ الصَّوْتُ بِوُضُوحٍ إِلَى أُذُنِ لارا.
كَانَ ذَلِكَ هُوَ التَّبَرُّعُ الَّذِي دَفَعَهُ الرَّجُلُ لِلْمُدِيرَةِ مُقَابِلَ أَخْذِ لارا كَخَادِمَةٍ.
كَانَ الرَّجُلُ الْعَجُوزُ الْمُشَبَّعُ بِرَائِحَةِ الْخَمْرِ، وَالَّذِي يُلَوِّحُ بِعَصَاهُ كَمَا يَحْلُو لَهُ، يَخْنُقُ لارا بِمُجَرَّدِ وُجُودِهِ.
* * *
‘بِاسْمِ الْقِدِّيسِ فْرِي، احْمِ الطِّفْلَ الَّذِي لَا مَأْوَى لَهُ….’
رَدَّدَتِ الْمُدِيرَةُ صَلَاتَهَا.
‘وَأَعْطِ الطَّعَامَ لِمَنْ لَا يَمْلِكُهُ، وَالْعَزَاءَ لِلْمَنْبُوذِينَ….’
أَخْذُ طِفْلٍ مِنَ الْمَلْجَأِ يَتَطَلَّبُ مَالًا.
وَإِذَا بِيعَ طِفْلٌ مِنَ الْمَلْجَأِ لِعَائِلَةٍ غَنِيَّةٍ، فَإِنَّ الْمُدِيرَةَ رَادِين سَتَحْصُلُ عَلَى أَمْوَالٍ طَائِلَةٍ.
لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ سَبَبٌ آخَرُ لِبِنَاءِ الْمُدِيرَةِ رَادِين لِهَذَا الْمَلْجَأِ سِوَى ذَلِكَ.
الْمَالُ. الْمَالُ.
الأَمْوَالُ الْكَثِيرَةُ الَّتِي سَيَجْلِبُهَا الأَطْفَالُ.
‘وَامْدُدْ يَدَ الْعَوْنِ لِلْبُؤَسَاءِ….’
وَبِهَذَا الْمَعْنَى، كَانَتْ لارا، الَّتِي لَمْ تُبَعْ طِوَالَ سَبْعَةَ عَشَرَ عَامًا، مُجَرَّدَ عِبْءٍ يَسْتَهْلِكُ ثَمَنَ الطَّعَامِ فَحَسْبُ.
طَقْ طَقْ-
فِي سَاعَةٍ مُتَأَخِّرَةٍ مِنَ اللَّيْلِ، جَعَلَ صَوْتُ طَرْقٍ ثَقِيلٍ رَأْسَ الْمُعَلِّمِ الْمَنَاوِبِ، الَّذِي كَانَ يَغُطُّ فِي نَوْمٍ عَمِيقٍ، يَرْتَفِعُ فَجْأَةً.
“…هَذَا مَلْجَأُ رَادِين لِلأَيْتَامِ. هَلْ أَنْتَ ضَيْفٌ؟”
سَأَلَ الْمُعَلِّمُ بَعْدَ أَنْ نَهَضَ بِتَعَابِيرَ مُتَشَكِّكَةٍ.
أَنْ يَأْتِيَ ضَيْفٌ آخَرُ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ. وَالثَّلْجُ اللَّعِينُ يَتَسَاقَطُ فِي الْخَارِجِ.
مِنَ الْمُؤَكَّدِ أَنَّهُ لَيْسَ ضَيْفًا، بَلْ هُوَ مُتَشَرِّدٌ سَكْرَانٌ. سَأَطْرُدُهُ بَعِيدًا.
تَمْتَمَ الْمُعَلِّمُ بِشَتِيمَةٍ صَغِيرَةٍ ثُمَّ اقْتَرَبَ مِنَ الْبَابِ.
فَتَحَتِ الْمُعَلِّمَةُ الْبَابَ بَعْدَ أَنْ ثَبَّتَتِ السِّلْسِلَةَ الْحَدِيدِيَّةَ بِإِحْكَامٍ.
وَحَتَّى مِنْ تِلْكَ الْفَجْوَةِ الصَّغِيرَةِ، دَخَلَ الْبَرْدُ وَالْعَاصِفَةُ الثَّلْجِيَّةُ إِلَى الدَّاخِلِ.
“الْبَابُ مُغْلَقٌ الآنَ، لِذَا تَعَالَ فِي الصَّبَاحِ….”
تَوَقَّفَتِ الْمُعَلِّمَةُ عَنِ الْكَلامِ وَأَغْلَقَتْ فَمَهَا.
اتَّسَعَتْ عَيْنَاهَا دَهْشَةً.
لأَنَّ الشَّخْصَ الَّذِي يَقِفُ أَمَامَ الْبَابِ كَانَ مُخْتَلِفًا تَمَامًا عَمَّا تَخَيَّلَتْهُ.
“أُرِيدُ مُقَابَلَةَ الْمُدِيرَةِ رَادِين.”
كَانَ صَوْتُ الرَّجُلِ مُنْخَفِضًا لِلْغَايَةِ.
وَبِسَبَبِ تِلْكَ الْهَالَةِ الْبَارِدَةِ، تَجَمَّدَ جَسَدُ لارا أَيْضًا وَنَظَرَتْ إِلَى الرَّجُلِ الْوَاقِفِ أَمَامَ الْبَابِ.
‘هَذَا الرَّجُلُ….’
كَانَ عَلَى لارا فِعْلُ شَيْءٍ مَا.
لَقَدْ أَمَرَتْهَا الْمُدِيرَةُ بِالنُّزُولِ مَعَ أَمْتِعَتِهَا.
وَلَكِنْ بَدَا أَنَّ نَظَرَاتِ لارا قَدْ سُلِبَتْ تَمَامًا بِسَبَبِ هَذَا الرَّجُلِ الْغَرِيبِ وَالْمَجْهُولِ الَّذِي يَبْدُو وَكَأَنَّهُ جَلَبَ الشِّتَاءَ مَعَهُ.
كَانَ شَعْرُ الرَّجُلِ الْغَرِيبِ الطَّوِيلِ وَالضَّخْمِ أَسْوَدَ كَسَوَادِ لَيْلِ السَّمَاءِ، وَكَانَتْ عَيْنَاهُ بِلَوْنٍ غَامِضٍ أَحْمَرَ كَالدَّمِ.
“…إِلَى مَتَى سَتَتْرُكِينَنِي وَاقِفًا هُنَا؟”
فَكَّتِ الْمُعَلِّمَةُ، الَّتِي كَانَتْ غَارِقَةً فِي ذُهُولِهَا، السِّلْسِلَةَ وَفَتَحَتِ الْبَابَ بَعْدَ كَلامِ الرَّجُلِ.
بِشَكْلٍ غَرِيبٍ، بَدَا أَنَّ كَلامَ الرَّجُلِ يُعْطِي نَوْعًا مِنَ الضَّغْطِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ رَفْضُهُ أَبَدًا.
اخْتَفَتِ الْمُعَلِّمَةُ بِسُرْعَةٍ لِمُنَادَاةِ الْمُدِيرَةِ، وَظَهَرَتِ الْمُدِيرَةُ رَادِين بِسُرْعَةٍ أَكْبَرَ مِمَّا كَانَ مَتَوَقَّعًا.
تَفَحَّصَتْهُ الْمُدِيرَةُ بِسُرْعَةٍ ثُمَّ انْحَنَتْ بِرَأْسِهَا.
“أَهْلًا بِكَ يَا سَيِّدِي. لَقَدْ جَعَلْتُ شَخْصًا كَرِيمًا مِثْلَكَ يَنْتَظِرُ.”
اسْتَقْبَلَتْهُ الْمُدِيرَةُ بِأَقْصَى دَرَجَاتِ التَّبْجِيلِ.
مَهْمَا نَظَرْتَ إِلَيْهِ، فَمِنَ الْمُؤَكَّدِ أَنَّهُ نَبِيلٌ. وَنَبِيلٌ ذُو مَنْصِبٍ رَفِيعٍ جِدًّا أَيْضًا.
سُلُوكُهُ الرَّصِينُ وَمِعْطَفُهُ ذُو الْجَوْدَةِ الْعَالِيَةِ.
أَلَيْسَتِ الْيَدُ الَّتِي تَرْتَدِي قُفَّازَاتٍ جِلْدِيَّةً سَمِيكَةً رَمْزًا لِلثَّرَاءِ؟
ارْتَفَعَتْ زَوَايَا فَمِ الْمُدِيرَةِ بِتَوَقُّعٍ كَبِيرٍ.
“أَنَا رَادِين، مُدِيرَةُ هَذَا الْمَكَانِ.”
“أَبْحَثُ عَنْ طِفْلَةٍ مَا.”
قَالَ الرَّجُلُ ذَلِكَ مُبَاشَرَةً دُونَ مُقَدِّمَاتٍ.
اشْرَقَ وَجْهُ رَادِين أَكْثَرَ بَعْدَ كَلامِ الرَّجُلِ.
أَنْ يَبْحَثَ سَيِّدٌ نَبِيلٌ عَنْ طِفْلٍ هُنَا مُبَاشَرَةً، فَهَذَا أَمْرٌ نَادِرٌ.
فَمَلْجَأُ رَادِين لِلأَيْتَامِ الْوَاقِعُ فِي أَقْصَى الضَّوَاحِي هُوَ دَائِمًا فِي آخِرِ الْقَائِمَةِ، وَهُوَ مَكَانٌ يَزُورُهُ مَنْ لَا يَبْدُونَ كَنُبَلَاءَ أَصْلًا فَقَطْ مِنْ أَجْلِ الْمَظَاهِرِ.
لَقَدْ سَمِعَتْ صَوْتَ تَدَفُّقِ الأَمْوَالِ.
يَجِبُ اقْتِنَاصُ الْفُرْصَةِ حِينَ تَأْتِي. لَمَعَتْ عَيْنَا رَادِين بِالطَّمَعِ.
“هُنَاكَ الْكَثِيرُ مِنَ الأَطْفَالِ. كُلُّهُمْ أَطْفَالٌ مَسَاكِينُ. نَحْنُ نَعْمَلُ عَلَى رِعَايَتِهِمْ وَحِمَايَتِهِمْ بِاسْمِ الْقِدِّيسِ فْرِي.”
“أَهَكَذَا الأَمْرُ؟”
رَسَمَتْ عَلَامَةَ الصَّلِيبِ لِلْقِدِّيسِ فْرِي، فَأَجَابَ الرَّجُلُ بِبُرُودٍ. وَحِينَ رَأَتْ رَادِين أَنَّ رَدَّ فِعْلِهِ لَمْ يَكُنْ مَرْضِيًّا، سَأَلَتْ بِصَوْتٍ نَاعِمٍ وَهِيَ تَشْعُرُ بِالْقَلَقِ:
“أَيُّ نَوْعٍ مِنَ الأَطْفَالِ تَبْحَثُ عَنْهُ؟ هَلْ تَبْحَثُ عَنْ طِفْلٍ لِيُسَاعِدَكَ فِي الْعَمَلِ؟ هُنَاكَ الْكَثِيرُ مِنَ الأَطْفَالِ الْمُنَاسِبِينَ لِيَكُونُوا خَادِمَاتٍ أَوْ خَدَمًا.”
وَاصَلَتْ رَادِين الْحَدِيثَ وَهِيَ تُحَاوِلُ قِرَاءَةَ السَّبَبِ الَّذِي جَعَلَ هَذَا الشَّابَّ النَّبِيلَ الْوَسِيمَ يَأْتِي إِلَى مَلْجَأِ أَيْتَامٍ مُتَهَالِكٍ.
“بِالطَّبْعِ يُمْكِنُهُمْ فِعْلُ أَيِّ شَيْءٍ آخَرَ. لَا يَهُمُّ حَتَّى لَوْ كَانَ عَمَلًا شَاقًّا. كَإِدَارَةِ الإِصْطَبْلَاتِ، أَوْ أَعْمَالِ الْمَطْبَخِ، فَهُمْ يُحْسِنُونَ فِعْلَ ذَلِكَ. سَأُرِيكَ أَيَّ طِفْلٍ تُرِيدُ. يُمْكِنُكَ أَنْ تَنْظُرَ وَتُقَرِّرَ بِمَهْلِكَ.”
“‘أَنْظُرُ وَأُقَرِّرُ.’ إِذَنْ….”
أَعَادَ الرَّجُلُ كَلَامَ رَادِين بِبُطْءٍ. وَارْتَسَمَتِ ابْتِسَامَةٌ غَرِيبَةٌ عَلَى وَجْهِهِ الْبَارِدِ.
“إِنَّهُمْ يَبْدُونَ كَالْبَضَائِعِ تَمَامًا.”
قَعْقَعَةٌ.
قَبْلَ أَنْ تَتَمَكَّنَ رَادِين مِنْ قَوْلِ أَيِّ شَيْءٍ رَدًّا عَلَى كَلامِ الرَّجُلِ، صَدَرَ صَوْتٌ مُزْعِجٌ.
نَظَرَتْ رَادِين بِنَزَقٍ نَحْوَ السَّلَالِمِ.
لارا، لَقَدْ كَانَتْ تِلْكَ الْفَتَاةُ مَرَّةً أُخْرَى.
“…لارا، لَدَيْنَا ضَيْفٌ. وَأَيْضًا، لَقَدْ أَمَرْتُكِ بِالتَّأْكِيدِ بِأَنْ تَجْمَعِي أَمْتِعَتَكِ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟”
“…….”
رَغْمَ أَنَّ الْمُدِيرَةَ حَاوَلَتْ إِظْهَارَ صَوْتٍ جَيِّدٍ، إِلَّا أَنَّ لارا كَانَتْ تَنْظُرُ إِلَى الرَّجُلِ بِشُرُودٍ وَكَأَنَّهَا لَا تَسْمَعُ صَوْتَ الْمُدِيرَةِ.
شَخْصٌ تَرَاهُ لأَوَّلِ مَرَّةٍ فِي حَيَاتِهَا.
ضَخْمٌ، ذو شعر أسود…..
وَأَيْضًا،
‘جَمِيلٌ.’
لَقَدْ كَانَ شَخْصًا جَمِيلًا.
خُصُوصًا عَيْنَا الرَّجُلِ الْحَمْرَاوَانِ، فَقَدْ كَانَتَا غَامِضَتَيْنِ.
بَدَتَا وَكَأَنَّهُمَا لَيْسَتَا بَشَرِيَّتَيْنِ.
‘تُشْبِهُ عَيْنِي….’
تَذَكَّرَتْ لارا إِحْدَى عَيْنَيْهَا.
كَانَتِ الْمُدِيرَةُ تَكْرَهُ عَيْنَهَا الْحَمْرَاءَ الْوَاحِدَةَ لِدَرَجَةِ الاِشْمِئْزَازِ.
رَمْزُ النَّحْسِ.
فَتَاةٌ مَنْحُوسَةٌ سَتَجْلِبُ الشُّؤْمَ.
وَلَكِنَّ عَيْنِي الرَّجُلِ لَمْ تَشْعُرْ بِهِمَا هَكَذَا.
“لارا، ضَعِي هَذِهِ الأَشْيَاءَ الْقَذِرَةَ، وَأَصْلِحِي مَظْهَرَ مَلابِسِكِ. مَا هَذَا الْمَنْظَرُ أَمَامَ الضَّيْفِ؟”
نَظَرَ الرَّجُلُ بِصَمْتٍ إِلَى الطِّفْلَةِ الَّتِي لَمْ تَرْتَبِكْ إِلَّا بَعْدَ فَوَاتِ الأَوَانِ بِسَبَبِ صَوْتِ الْمُدِيرَةِ.
فَتَاةٌ صَغِيرَةٌ وَهَزِيلَةٌ تَبْدُو فِي الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ أَوِ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ مِنْ عُمْرِهَا كَانَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ بِشُرُودٍ مُنْذُ قَلِيلٍ.
كَانَ شَعْرُهَا الطَّوِيلُ فِضِّيًّا مَائِلًا لِلرَّمَادِيِّ، وَكَانَ الْفُسْتَانُ الْكَتَّانِيُّ الَّذِي تَرْتَدِيهِ قَدِيمًا جِدًّا وَكَأَنَّهُ سَيَتَمَزَّقُ.
وَأَيْضًا، تِلْكَ الْعَيْنُ.
“…….”
عَيْنُ الطِّفْلَةِ الْيُسْرَى، الَّتِي كَانَتْ مُغَطَّاةً بِشَعْرِهَا الَّذِي يُشْبِهُ الْمِكْنَسَةَ وَلَا تَظْهَرُ جَيِّدًا، كَانَتْ بِلَوْنِ الْخُزَامَى، بَيْنَمَا كَانَتِ الْعَيْنُ الأُخْرَى حَمْرَاءَ.
مَظْهَرُهَا الْخَارِجِيُّ كَانَ قَذِرًا كَقِطَّةٍ مُلَطَّخَةٍ بِالرَّمَادِ، لَكِنَّ عَيْنَيْهَا مُخْتَلِفَتَيِ اللَّوْنِ كَانَتَا شَفَّافَتَيْنِ وَنَقِيَّتَيْنِ.
لَقَدْ كَانَتَا عَيْنَيْنِ نَادِرَتَيْنِ لَا تَظْهَرَانِ لَدَى الْبَشَرِ.
“لَقَدْ قُلْتُ لَكِ بِالتَّأْكِيدِ، وَيَبْدُو أَنَّكِ لَمْ تَجْمَعِي أَمْتِعَتَكِ بَعْدُ. هَيَّا اذْهَبِي إِلَى مَكَانِكِ، لارا.”
“مَنْ هَذِهِ الطِّفْلَةُ؟”
“إِنَّهَا طِفْلَةٌ لَا دَاعِيَ لأَنْ يَهْتَمَّ بِهَا سَيِّدُكَ. إِنَّهَا خَادِمَةُ الْمَلْجَأِ.”
حِينَ لَمْ تُفَكِّرْ لارا فِي الصُّعُودِ وَوَقَفَتْ فِي مَكَانِهَا وَكَأَنَّهَا مُثَبَّتَةٌ، حَثَّتْهَا الْمُدِيرَةُ رَادِين بِصَوْتٍ قَلِقٍ.
حِينَ رَأَتْ تَعَابِيرَ الرَّجُلِ الْمُظْلِمَةَ، خَشِيَتْ أَنْ تُفْسِدَ تِلْكَ الْفَتَاةُ الْمَنْحُوسَةُ الأَمْرَ مَرَّةً أُخْرَى.
“لارا، أَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُهُ؟ لَقَدْ قُلْتُ لَكِ اصْعَدِي بِسُرْعَةٍ!”
ارْتَفَعَ صَوْتُهَا تِلْقَائِيًّا.
ثُمَّ الْتَفَتَتِ الْمُدِيرَةُ نَحْوَ الرَّجُلِ بِتَعَابِيرَ نَادِمَةٍ وَابْتَسَمَتْ بِارْتِبَاكٍ.
“سَيِّدِي، لَقَدْ أَظْهَرْتُ لَكَ مَنْظَرًا مُخْجِلًا. أَرْجُو أَنْ تَعْذِرَ وَقَاحَةَ الْخَادِمَةِ. وَعَلَى أَيِّ حَالٍ يَا سَيِّدِي، الطِّفْلُ الَّذِي تَبْحَثُ عَنْهُ….”
“يَبْدُو أَنَّهَا تِلْكَ الطِّفْلَةُ.”
قَالَ الرَّجُلُ ذَلِكَ.
ارْتَجَفَتْ نَظَرَاتُ الْمُدِيرَةِ.
“نَعَمْ؟”
“الطِّفْلَةُ الَّتِي أَبْحَثُ عَنْهَا، هِيَ تِلْكَ الطِّفْلَةُ الَّتِي تَقُولِينَ عَنْهَا إِنَّهَا خَادِمَةٌ.”
نَهَضَ الرَّجُلُ مِنْ مَكَانِهِ وَتَوَجَّهَ نَحْوَ الطِّفْلَةِ بِخُطًى ثَابِتَةٍ.
نَظَرَتِ الطِّفْلَةُ إِلَى الرَّجُلِ بِشُرُودٍ.
تَفُوحُ مِنَ الرَّجُلِ رَائِحَةُ الشِّتَاءِ الَّذِي يَتَسَاقَطُ فِيهِ الثَّلْجُ.
تَذَكَّرَتْ مَكَانًا مَا فِي غَابَةٍ هَادِئَةٍ لَا يُوجَدُ فِيهَا سِوَى الأَشْجَارِ الَّتِي تَعَرَّضَتْ لِلرِّيَاحِ الْبَارِدَةِ وَالثَّلْجِ.
نَظَرَتْ لارا إِلَيْهِ بِصَمْتٍ دُونَ أَنْ تَتَرَاجَعَ إِلَى الْخَلْفِ، وَدُونَ أَنْ تَقْتَرِبَ أَيْضًا.
رَسَمَتْ زَوَايَا فَمِهِ مَيْلًا بَسِيطًا.
“أَخِيرًا وَجَدْتُكِ.”
سَقَطَ قَلْبُ لارا فِي أَعْمَاقِهَا.
هَمَسَ بِصَوْتٍ خَفِيضٍ لَا يَسْمَعُهُ سِوَى لارا:
“عَرُوسِي.”
التعليقات لهذا الفصل " 1"