جلس الثلاثة بهدوء وبدأوا يتحدثون.  

“طوال هذه المدة، كنت أستيقظ لفترة قصيرة في الصباح الباكر، ثم أتناول الطعام وأنام بعدها طوال الوقت.”  

قال الدوق إنّه عندما يفتح عينيه، يكون الصباح قد عاد مرة أخرى، وقد كرّر هذه الحياة لأكثر من عشر سنوات.  

“لكن الإصابات التي تعرّضتَ لها سابقًا قد شفيت تمامًا، أليس كذلك؟”  

“حتّى لو شفيت الجروح الخارجيّة، أظنّ أنّ الإصابات الداخليّة لم تُشفَ بعد… كح!”  

“يا دوق!”  

عندما سعل الدوق، امتلأت يده بالدم. 

بينما شحب وجه شايلا، تفحّص كاليون لون الدم بعيون هادئة إلى درجة البرودة.  

كان الدم الذي قذفه الدوق داكنًا. 

كان ذلك يعني أنّ الجسم مسموم. 

لم يعرف نوع السم، لكن بالنسبة لشايلا، بدت حالة الدوق خطيرة بالفعل.  

“يجب أن نستدعي طبيبًا على الفور!”  

حاولت شايلا الاندفاع إلى الخارج، لكن الرَّجلين أجلساها بالقوة.  

“لا داعي لذلك. أريد أن أسمع عن حال الإقليم أكثر من حال جسدي. وكيف وصل هذا الشاب إلى هنا.”  

قبل أن تبدأ شايلا في شرح القصة، سبقها كاليون وسأل:  

“لماذا تركتَ وثيقة إبطال الزواج؟”  

“ليون، هل هذا هو المهم الآن؟”  

“إذًا، كان يجب عليكَ على الأقل التعامل مع الأمر بشكل صحيح.”  

‘لماذا يتصرّف بمثل هذا العداء تجاه الدوق؟’ تفاجأت شايلا ونظرت إلى كاليون كما لو كان زوج شخص آخر.  

“الوثيقة… في ذلك الوقت، كانت شايلا على وشك الزواج من جديد. لم يكن هناك وثيقة رسميّة تثبت وفاتك، ولم يكن بإمكاني إلغاء الزواج دون حضور الطرفين، لذا كان هذا الشيء الوحيد الذي استطعت فعله.”  

طريقة لإبطال زواج كاليون وشايلا.  

“لكن أن تأخذ زوجتي…!”  

“اهدأ قليلاً. يا دوق، من كنتُ سأتزوّج؟ من أين سمعتَ هذه القصة؟”  

توقّف الدوق للحظة، ثم فتح فمه بصعوبة تحت نظرة شايلا الملحّة.  

“ألم تذهبي إلى العاصمة للزواج من جديد؟”  

“أذهب…؟”  

تحقّق أسوأ افتراض كانت تخشاه.  

“هل كنتَ تجهل تمامًا أنّني أُخذت إلى الدير…؟”  

“أُخذتِ…؟ شايلا، أنتِ؟”

“…”  

“من تجرّأ…؟ من جرّكِ إلى الدير؟”  

كان الدوق منقطعًا تمامًا عن العالم، دون أن يعرف حتّى كيف كانت تدور الأمور في عائلته.  

لم يكن يعلم حتّى أنّ شايلا، التي كانت معه في قلعة الدوق، قد أُخذت إلى الدير. 

القصة التي سمعها من بلانشي كانت مختلفة تمامًا.  

[“غادرت شايلا إلى العاصمة هذا الصباح، يا أبي. ثلاث سنوات في مكان غريب دون زوج هي مدة طويلة.” 

“ذهبت إلى العاصمة…؟ دون أن تخبرني؟”  

“يبدو أنّها شعرت بالحرج من مواجهتك والتحدّث مباشرة عن زواجها الجديد.”  

“زواج جديد؟ ماذا عن عائلتنا؟ وكاليون…!”  

“كاليون مات، يا أبي. انسَ الأمر. شايلا لا تزال أرملة شابة. الزواج الجديد أمر طبيعي.”  

“حسنًا، لكن…”  

“لقد غادرت عائلتنا بمحض إرادتها. أنا أيضًا أشعر بالأسف، لكن ألا يجب أن تجد طريقها في الحياة؟”  

“هذا صحيح، لكن شايلا لم تكن لتغادر دون أن تخبرني… ألم تترك رسالة على الأقل؟”  

“كانت دائمًا تغنّي عن رغبتها في العودة إلى العاصمة. قالت إنّها ستنتظر حتّى تتعافى، لكنّها لم تستطع الانتظار أكثر عندما جاءها عرض زواج جيد. لذا طلبت منّي أن أنقل ذلك نيابة عنها…”  ]

“هل تقول إنّني هربت إلى العاصمة كاللص في الليل، تاركةً طلبًا لإثبات إبطال زواجي؟”  

“نعم.”  

“وكتبتَ الوثيقة لتلبية هذا الطلب؟”  

“صحيح.”  

“لمَ صدّقتَ ذلك؟ ألم تشعر بالغضب منّي؟”  

“كيف يمكنني أن أغضب منكِ؟ أنا أعرفكِ جيدًا.”  

لم يكن الدوق قد تصالح مع الأمر بسهولة.  

“كم كنتِ مخلصة لابني ولعائلتنا، في هذا المكان البارد.”  

كانت الوثيقة دليلاً على أنّ شايلا وعائلة غرايوولف لم يعد لهما أيّ ارتباط.  

وثيقة تجعلهما غرباء لن يلتقيا أبدًا مرة أخرى.  

حتّى اكتمال تلك الوثيقة، مرّ الدوق بخيبة أمل ويأس متكرّرين. 

شعر بالخيانة بالطبع.

 لكنّه كان يعلم في قرارة نفسه أنّه الطريق الصحيح.  

“كان هو صغيرًا، لكنكِ كنتِ طفلة أيضًا. كنتِ أصغر حجمًا…”  

تذكّر الدوق الأيام الخوالي. 

يوم تناول الإفطار مع شايلا، التي كانت ترتدي ملابس أنيقة كأميرة من العاصمة.  

“كنتِ كطفلة ناضجة… تقولين أشياء سخيفة، لكنها كانت لطيفة بطريقتها.”  

“أنا لطيفة منذ البداية…”  

كانت شايلا تبكي بحرقة بالفعل.

 ربّت الدوق على معصمها النحيف بعطف.  

“في الدير… لهذا أصبحتِ نحيفة هكذا، يا شايلا المسكينة…”  

“أنتَ أنحف منّي…”  

كان الدوق يعلم أنّ الحرب قد انتهت.

 بينما كان يهدّئ شايلا بيد، قارن الحقائق بالواقع مع ابنه.  

“سمعتُ أنّ الاضطرابات الداخليّة في المملكة دفعت جيش النخبة إلى التراجع أوّلاً.”  

“كنتُ سأموت قبل أن أتراجع.”  

“…هذا ما ظننته. كان ذلك غريبًا. لا يمكن لهيلغوت أزاشا، الذي لا يختلف عن مغتصب، أن يتراجع من حرب كان على وشك الفوز بها.”  

انتقلت نظرة الدوق، التي كانت مثبتة على شايلا، إلى كاليون بسلاسة.  

“إذًا…”  

“…”  

“هل حقًا… كاليون، أنتَ؟”  

كانت ساقاه القائمتان كالفولاذ، وكتفاه أعرض من شباب الدوق، ووجهه، رغم وسامته، كان يحمل نظرة شرسة.  

الذئب الرمادي، سيّد الشمال عبر الأجيال.  

امتلأت عينا الدوق، وهو ينظر إلى ابنه كاليون، الذي ورث شخصيته القتاليّة، بالرهبة العميقة. 

كانت النبوءة التي تقول إنّ ذئبًا أسود سيولد لحماية هاملوك وإعادة إحيائها تتردّد في أذنيه كما لو كانت حدثت بالأمس.  

“كان هذا السيف. حاولتُ طعن قلبه، لكنّه أخطأ الهدف.”

لم يقتل الملك، لكن بما أنّ السيف كان مغطّى بالسم القاتل، فلا بدّ أنّه أصيب بجروح خطيرة.  

تبعت نظرة الدوق نصل السيف المصقول جيدًا.

 كان يلمع وكأنّه شُحذ للتو.  

في تلك اللحظة، تقابلت أعينهما.

 نظرة ابن عقلانيّة إلى حدّ البرودة، ونظرة أب حزين أدرك أنّه لم يعد لديه القوّة لحماية الإقليم.  

رغم أنّهما لم يكونا أبًا وابنًا مقربين، فإنّ نظرة عابرة قصيرة كانت كافية لفهم نوايا بعضهما.  

‘من أجل الشمال فقط.’  

كان هذا شعار عائلة غرايوولف. 

كان هناك أيضًا قول مأثور نابع من الثلوج البيضاء التي تغطّي جبال هاملوك دائمًا:  

‘الثلج لا يذوب في النار.’  

كان هذا شعارًا يمثّل ليس فقط عائلة الدوق، بل شعب الشمال بأكمله. كانوا ذئاب الشمال، صلبين وثابتين.  

“لمَ تحمل سيفًا إلى غرفة نوم الدوق؟”  

وبّخت شايلا، التي مسحت دموعها بحماس، كاليون.  

من وراء ظهر شايلا، كان الأب والابن قد أنهيا نقاشًا جديًّا، ثم وضعا السيف جانبًا وتبادلا نظرة سريعة قبل أن يشيحا بوجهيهما متظاهرين باللامبالاة، وكأنّ شيئًا لم يحدث.

“كلّ هذا خطأي.”  

“ليس خطأك، يا دوق. المشكلة كانت في هذا الطعام.”  

“ما المشكلة في شريحة اللحم؟”  

رفعت شايلا طبق اللحم، فعبس الدوق.  

“اللحم البقري ليس مذنبًا.”  

كان الأب وابنه، على أيّ حال، متيمين باللحوم.  

“لا، المسحوق الأخضر المرشوش على اللحم. هذا ليس بقدونسًا.”  

لم يكن الدوق يعرف الفرق بين البقدونس و الهندباء، وظنّ أنّه مجرّد توابل للزينة.  

“هذا ‘دايب’، المكوّن الرئيسي لعقار علاجي يُسمّى نوكسان.”  

“ماذا؟”  

“إنّه دواء يُستخدم للأشخاص الذين يعانون من مشاكل في الكبد، لكن بسبب آثاره الجانبيّة الشديدة، لا يُستخدم كثيرًا. يُسمّى أيضًا عقار النوم العميق لأنّ له تأثيرًا قويًا على النوم.”  

“شاشا تعرف كل شيء حقًا.”  

“إنّه عشب سام من عائلة الأقحوان، نوع من الهندباء.”