الفصل 03

「إلى الساحر المجنون، إينوك غرير.

ما الذي فعلته بنا؟! لقد كانت الليلة الماضية فوضى عارمة لا مثيل لها.

كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل حين يفترض أن الجميع في سبات عميق كالأموات. لم أكن أعتقد أن زملائي يمكن أن يكونوا على هذا القدر من النشاط في ساعة متأخرة كهذه.

لولا تلك الموسيقى الغريبة، لظننتُ أننا جميعًا تناولنا المنشطات، أو ربما أصابنا الجنون كسرب بأكمله.

ثم، لماذا كان يجب أن تكون أغنية روبرت أوكونيل تحديدًا؟ ألا يوجد شيء أكثر هدوءًا؟ أؤكد لك أن أي موسيقى هادئة كانت ستفي بالغرض وتجعلنا سعداء. لكن روبرت أوكونيل؟! هذا الرجل قادر على جعل الكلاب النائمة تستيقظ لترقص.

إذا بدوتُ وكأنني أشتكي، فأنا أعتذر. في الحقيقة، لقد أستمتعتُ كثيرًا الليلة الماضية. لم أشعر بهذا القدر من الفرح منذُ بداية الحرب. أنا أتكلم بصدق! حتى الماء كان له طعم الكحول. (هل كان هذا أيضًا من سحرك؟) لقد تعلمتُ في الجيش أن الموسيقى وحدها يمكنها أن تسكر المرء. هذا جنون، أليس كذلك؟

لأُخبرك مدى سخافة الموقف؛ لم نكن حتى نتحدث لغة بشرية. لم يتفوه أحد بكلمة مفهومة. بأستثناء بعض المعجبين الذين كانوا يحاولون الغناء، كنا كمجموعة من القردة.

شكرًا لك على أخذنا إلى نادٍ مجنون، ولو للحظات. لكن كيف فعلت ذلك؟ هل سيطرت على مكبرات الصوت بسحرك؟ التحكم في الموسيقى وتحويل الماء إلى كحول كان مذهلًا، لكن أرجوكَ، في المرة القادمة تجنب السحر الذي يجعل السرب كله يفقد صوابه. هل أتفقنا؟

إذا كنتَ قد حضرت ورأيتنا، فقد كان ذكيًا منك أن تبقى بعيدًا عن الأنظار. لو كان مظهرك حقًا كما تتباهى، ووجدناك في تلك اللحظة……حسنًا، كنا كالقردة أكثر من البشر. هل تفهم ما أقصده؟ ربما لا تدرك مدى رعب غريزة المرأة…….

كانت تلك أفضل حفلة في حياتي.

لماذا لم تظهر قبل ذلك؟ السحر أفضل من المخدرات بكثير!

— هـ. أ」

「إلى الآنسة هيلين أتويل، التي أعترفت بقيمة السحر الحقيقية.

يسعدني أنني نلتُ اعترافكِ! كان من المجدي إلقاء هذا السحر بعد كل التفكير العميق. أردتُ حقًا أن أجعلكِ سعيدة، بالسحر بالطبع! السحر، برأيي، هو معجزة تسعى لإسعاد الأشخاص.

تسللتُ إلى مكانكم بمساعدة الظلام والرياح. صحيح أنني لم أكن أعلم الكثير عن أغاني الصحراء القاحلة، لكن كما تعلمين، تعيش هناك طيور كثيرة تأتي وتغادر. لقد أتممتُ السحر بمساعدة أصدقاء عديدين. (بالمناسبة، هل تعلمين أن الطيور تحب الغناء أيضًا؟)

بعد أن تأكدتُ من نجاح السحر، غادرتُ بهدوء. أولًا، لا ينبغي لأحد أن يعرف أن هذا السحر كان بفعل شخص معين. يكفي أن السحر يبقى سحرًا بحد ذاته.

لقد تشرفتُ بمنحكِ لحظة سعادة.

مع أنني غادرتُ بسرعة، إلا أنني أخذتُ بضع لحظات لألقي نظرة خاطفة عليكِ. رأيتكِ تبتسمين. تذكرتُ الحكمة القديمة الذي تقول، ‘السحر الذي تلقيه يعود إليك بذات الطريقة’.

في تلك الليلة، كنتُ أسعد ساحر على الإطلاق.

أتمنى أن تبارككِ ملكة القمر!

ليلة أتأمل فيها كلمات روبرت أوكونيل، إينوك غرير.」

「إلى إينوك، الذي أتمنى أن يصدر صوتًا عند حضوره.

هل تقول أنك لمحتني ثم غادرت؟ كيف يمكنك فعل ذلك؟ منذُ تحدثت عن جمالك المفرط، وأنا أتخيل كل الرجال الوسيمين في رأسي. ألا يمكنك أن تظهر ليّ وجهك قبل أن تتضاعف توقعاتي؟ أنا أحب الرجال الوسيمين مثل روبرت أوكونيل.

بجدية، ألا توجد كاميرات في عالمك؟ لماذا يجب على الأشخاص رسم بورتريهات لبعضهم البعض؟ السحر جيد، لكنه يحتاج إلى دعم الحضارة. بضغطة زر واحدة يُمكنك الحصول على صورة أفضل من مئة بورتريه. لو لم أكن في وسط حرب، لأرسلتُ لك كاميرا.

ألا يمكنك إعطائي تلميحًا؟ مثل لون عينيك، أو أي وصف دقيق؟ أتشوق لرؤية رجل وسيم. بالطبع، ليس الأمر كما لو لم يكن هناك رجال هنا على الإطلاق. على الأقل، كل القادة من الرجال. إنها أول مرة يتم فيها تجنيد النساء المتطوعات خلال الحرب، وهذا يقول كل شيء. حتى الزي العسكري غير ملائم للنساء في هذا المكان المتجمد.

أنا لا أكتفي فقط برؤية وجوه الضباط المنهمكين الذين بالكاد يعتبرون بشرًا. أحتاج إلى رجل وسيم، وسيم حقًا. (لكن هناك بصيص أمل؛ أحد الضباط يبدو جيدًا بما فيه الكفاية. لكن أظنه ليس طبيعيًا. إذا أكتشف أنني كتبتُ هذا في رسالة، سأغادر هذا العالم فورًا.)

في وسط تلك الوحدة المكتظة بالرجال، حيث تُعلَّق صور النساء على الجدران كبديلٍ خافت للرضا المنشود، ولكن وماذا عنّا نحن؟

سأكفُّ عن الشكوى الآن. لنعود إلى تلك ملكة القمر التي ذكرتها من قبل. من تكون يا تُرى؟ أهي حقًا ملكة أخرى غير التي أظنها؟ أم هي تجسيدٌ آخر للملكة التي في مخيلتي؟ هل نتحدث عن ملكة حقيقية، أم تعبدون القمر كملكة؟

أخبرني عن عالم السحر. أحتاج لموادّ تُشعل خيالي.

— هـ. أ」

「إلى الآنسة هيلين أتويل، التي تحب المال والرجال الوسيمين.

يبدو أنكِ حقًا منجذبة للوجوه الجميلة! يؤسفني أنكِ لا تجدين رجلًا يسرّكِ هناك. لكن ماذا عن النساء؟ ألا توجد وجوه جميلة بينهن؟ إذا كانت رؤية الوجوه الجميلة تجلب لكِ السعادة، فهل من المهم حقًا إن كانت تلك الوجوه لرجل أم امرأة؟ (بالمناسبة، لمَ لا تنظري في المرآة أولًا!)

لا أستطيع تجاهل فضولكِ عن ملامحي. عيناي بلون رمادي فاتح، مثل الضباب الذي يغشي بحيرة في بواكير الفجر. أتمنى أن يروق لكِ هذا الوصف!

لنترك الحديث عن وجهي هنا. سألتني عن عالم السحر لدينا. بشكلٍ عام، ليس من المعتاد أن نتحدث عن عالمنا في الأراضي القاحلة، لكن بما أنكِ تحلقين في السماء مثلنا، أظن أنه لا بأس.

لقد سمعتُ أن الأراضي القاحلة التي تعيشين فيها تمر بمواسم مختلفة، وحتى فترة تمتد لنصف السنة تكون فيها الشمس ساطعة دون ثلوج. أما نحن، فلا مفهوم ‘للمواسم’ عندنا. فنحن نعيش تحت طقس وأحد بلا تغير.

في عالمنا، تسقط الثلوج باستمرار من سماء تغطيها غيوم رمادية. نحن نطلق على هذا الثلج أسم ‘النعمة’. سأشرح لكِ السبب لاحقًا.

بالنهار، يظل الجو كئيبًا بما يصفه البعض بالكآبة، لكنه لا يؤثر فينا على الإطلاق. بل بالعكس، النهار هو وقت راحتنا، حين ننسحب إلى أسرّتنا.

اللحظة التي يستيقظ فيها السحر تبدأ مع غروب الشمس. عندما تتوارى الشمس ويبدأ الظلام، تتوهج مدينتنا بجمال ساحر. يخرج إخواننا وأخواتنا، وأحدًا تلو الآخر، من ظلال الليل. تخيلي ذلك؛ مدينتنا تتلألأ بجمال يفوق إشراقة النهار!

في عالمنا، حيث النهار ممل ورتيب تحت سطوة الشمس، ينبض الليل بألوان وحياة مذهلة. تضيء الشوارع، وتلمع النجوم كالجواهر في سماء داكنة. أخيرًا……تتجلى ملكة القمر، الأم الحانية التي تمنحنا المعجزات، وتطل علينا من أعلى.

لا تجرؤ الغيوم على حجب رؤيتها. عندما تنحسر الغيوم مع رحيل الشمس، يتساقط الثلج بلا أنقطاع. هذه ‘النعمة’، هبة ملكة القمر لنا، هي سر قوتنا السحرية.

هل تأملتِ في بلورات الثلج، يا هيلين؟ لا تشبه بلورتان بعضهما، فكل واحدة منها تحمل نقوشًا فريدة. تلك النقوش ليست مجرد أشكال، بل كلمات سحر منحوتة من قبل ملكة القمر نفسها.

عندما ننشد أدعية تتوافق مع كلمات السحر تلك، تحدث معجزة. الثلج الأبيض المتألق تحت ضوء القمر يصعد نحو السماء، محققًا المعجزات……مشهد يفوق الوصف ولا يمكن رؤيته إلا في عالم ترعاه ملكة القمر.

نعم، ملكة القمر هي مصدر قوتنا السحرية. لهذا، نعبدها ونحتفل بعيدها السنوي. في هذا اليوم، نغني التراتيل، ونوزع الهدايا، ونمارس أقوى طقوس السحر للعام القادم. نسمي هذا الاحتفال ‘مهرجان القمر الذهبي’.

في هذا اليوم، تتحول ملكة القمر إلى لون ذهبي، ويتساقط الغبار الذهبي من السماء متلألئًا، كأنه سيبقى أبد الدهر…….

لستُ مطلعًا كثيرًا على تقاليد الأراضي القاحلة، لكنني أظن أن لديكم مهرجانات تضفي الفرح على الجميع. هل تحتفلون بالقمر حيث تقيمين؟ أم أن الشمس هي من تحظى بالتقدير في عالمكِ؟

أرجو أن تصلكِ نعمة الثلج قريبًا.

هل سنلتقي مرة أخرى؟

ليلة تضيء فيها العلية بضوء القمر، إينوك غرير.」

「إلى ساحر الليل، حامل الشعلة تحت القمر.

هل تعلم؟ وأنا أقرأ حكايتك، شعرتُ بإحساس غريب، كأنني سمعتُ تلك الحكاية من قبل. قصتك السحرية، وكأنها جزء من حكايتي القديمة. بالطبع، لا أملك قدرتك على صنع السحر من الثلج، لكننا هنا أيضًا نعرف طقوس عبادة القمر، واحتفاله السنوي حين يتوهج بلون ذهبي. 

هنا أيضًا، كنا نحتفل بظهور القمر الذهبي.

لكن، دعني أصحح قولي؛ ‘كنا’. لقد أختفى جميع من كانوا يعبدون القمر. إنها الآن مجرد حكاية قديمة تُروى من الماضي.

لا أظن أنك قد تستوعب، ولكن القمر الذهبي في لغتنا يُعرف بإسم ‘القمر إينكويول’، وهو ذات الاسم الذي حمله المهرجان الذي انقرض منذُ زمن. قيل إنه كان مهرجانًا مذهلًا، ولكن لا أستطيع أن أُخبرك كيف كان، إذ لم يُتح ليّ الحظ أن أكون بين المشاركين فيه.

(مهرجان القمر إينكويول، كان يحتفل به في العصور القديمة، وهو مهرجان كان يتم في فترة القمر الكامل، وكان يرتبط بشكلٍ خاص بممارسات دينية وطقوس تتعلق بالقمر.)

غير أن الحزن لا يستحق أن يُبذل على كل ما هو جميل ويختفي. لا ينبغي أن تستهلك قلبك في رثاء ما قد أندثر. لقد أختفت أشياء كثيرة، وهذا ليس سوى غبارٍ في ريح الذكريات.

قصتي تبدو صغيرة، تكاد تتلاشى بجوار قصتك البديعة. سأجعلها وجيزة.

هذه الليلة، أشعر بأنني سأحلم بالمهرجان القمري، بمشاهده التي كانت جدتي تعشقها.

— هـ. أ」

「إلى الآنسة هيلين أتويل، التي تخفي سرًا بين طيات الرسائل.

لم يخطر ببالي يومًا أن قصتكِ قد تكون مملة، أو أنني قد أمل من الاستماع إليها. قصي عليّ حكايتكِ يا هيلين، فأنا ها هنا دومًا لأستمع لكِ.

إن فعلتِ، سأكشف لكِ عن وجهي أيضًا!

في هذه الليلة التي يصغي فيها الصمت إليكِ، إينوك غرير.」

يُتبع….