0
“أنا مستعدة. هل يمكنك أن تفتح الباب الآن؟”
ما إن انتهت كلماتُها حتى اندفعَ الخدمُ بملابسِهم الرماديّة، يدفعونَ الأبوابَ الثقيلةَ على مصراعيها.
ومن بين الفُتحةِ العريضةِ التي انشقّت في ذلك الباب، أطلّت أكثرُ الشخصيّاتِ تألّقًا في هذا اليوم، لامبيرتا كورونيس.
كانت القاعةُ الفخمة، التي امتزجت فيها الطرزُ الجنوبيّةُ بالشماليّة، من مفاخرِ منزل كورونيس.
سقفٌ مرتفعٌ حتى الطابقِ الثاني، تتدلّى منه شُرفاتٌ تُطلّ على الأسفل، وأرضٌ تضيقُ بالمدعوّينَ حتى كادت أن تُخنقَ أنفاسُ الهواء.
أكثرُ الحاضرين ارتدوا أزياءَ الجنوبِ الراقيةَ أو ما يُحاكي موضاتِ العاصمةِ الملكيّة،
فيما وقفَ بين صفوفهم عددٌ قليلٌ من الشماليين، بملابسِهم الجلديةِ الخشنةِ ذاتِ الألوانِ القاتمة.
لم يتبادلْ الفريقانِ لا كلمةً ولا نظرة، كأنّ كلّ واحدٍ منهما لا يرى الآخرَ أصلًا.
نهضَ إيبيان كورونيس، رئيس المنزل وسيّدُ هذه المقاطعة، ومدَّ يدَه إلى ابنته، فهبَّ الحاضرون واقفين، وانهمرت التصفيقاتُ في القاعة.
“أهذه هي التضحية الحيّةُ لجيلِنا؟”
“نعم، إنّها التضحية الجديدةُ لعائلةِ كورونيس. يا للأسف، جمالُها أثمنُ من أن يُدنِّسهُ شماليّ.”
تثاقلت خطواتُ لامبيرتا على السجادةِ القرمزيةِ الممتدّةِ تحت قدميها.
كلّ همسةٍ وكلّ ضحكةٍ ساخرةٍ كانت تُمطرُ روحَها بالثقل.
‘تضحية كورونيس الحيّة’—ذلك كان اسمَها الثاني منذ ولادتها.
في كلِّ جيلٍ، تولدُ ابنةٌ واحدةٌ من منزل كورونيس الجنوبيّ، ويُفرضُ عليها أن تتزوّجَ رجلًا من الشمال.
فهذا التقليد المتوارث عبر أجيال لم يكن لـلامبيرتا سوى قدر محتوم ولدت معه، لا سبيل للفرار منه، ولا طاقة لها حتى على التفكير في ذلك الفرار.
واليومَ جاءَ يومُ القدر، يومُ زفافِ لامبيرتا كورونيس.
يقولُ مثلٌ جنوبيّ. حتى وإن كان العريسُ عدوَّ عائلتك، بارِكْ العروسَ في يومِها.
لكن يبدو أنّ هذا القولَ لم يُطبَّق على عروسٍ تُزفُّ إلى شماليّ.
“مسكينة… تعرفين كيف هم رجالُ الشمال، أليس كذلك؟”
“يعبثونَ بعروسِهم حتى يملّوا، ثم يقتلونها. يا لها من شابّةٍ يافعة…”
كانت تلكَ الهمساتُ الخبيثةُ تتسلّلُ بين التصفيق، متستّرةً بغطاءِ الشفقة.
وما كان يُقالُ في الجنوبِ عن رجالِ الشمال لا يخلو من تلك القصصِ البشعة.
سارت لامبيرتا شامخةَ الرأس، متشبّثةً بالأملِ أن تكونَ كلُّ تلك الشائعاتِ محضَ أكاذيب.
لو كان هذا زفافًا بين عائلتين جنوبيتين، لربّما تجاوزت تلك الهمساتِ بسخريةٍ وابتسامةٍ هادئة،
لكنّ زواجَها كان تحالفًا سياسيًّا محتقرًا بين الجنوبِ والشمال.
لم تكن تعرفُ عن زوجِها المنتظَر سوى اسمِه فقط.
“ديوني، ابنُ روكون، بطلُ الشمالِ وزعيمُه…”
رفع صوتُ أبيها، الذي كان يتولّى المراسم، رأسَها لتقعَ عيناها عليه لأوّل مرّة.
رجلٌ بشَعرٍ ذهبيٍّ فائقِ الجمال، لا يليقُ إلا بجنوبيّ، مبعثرِ الخصلاتِ على وجهٍ وسيمٍ يحملُ ابتسامةً دافئةً لا تمتُّ بصلةٍ إلى ما سمعته عن الشماليين.
في تلك اللحظةِ، أحسّت لامبيرتا بأنّ مخاوفَها ليست إلا توتّرَ العروس، وأنّ سعادتها ربّما تنتظرها في المستقبل.
قال والدُها بصوتٍ مهيب.
“أتقدّمُ بجزيلِ الشكرِ لكلِّ من حضرَ زفافَ ابنتي، لامبيرتا كورونيس، ابنةِ رئيس هذا الإقليم.”
رمقتْ لامبيرتا أباها وزوجَها المرتقبَ بطرفِ عينها،
وشعرت بأنّ الابتسامةَ تتسلّلُ إلى شفتيها رغمًا عنها.
‘وما الضيرُ في زواجٍ سياسيّ؟ ألم تقلْ أمّي إنّها تزوّجتْ أبي كذلك؟’
تذكّرت وصيّةَ أمّها. ابتسمي فقط في نهايةِ الزفاف، لا قبلَ ذلك.
‘ليتَ ديوني يُفكّرُ مثلي… لعلّه، رغم كلّ شيء، سيحبّني.’
لم تعد تسمعُ كلماتِ أبيها.
فالعروسُ والعريسُ ما هما إلا أداتانِ في هذا الطقسِ الطويل.
“والآن، نُعلنُ اكتمالَ هذا الزواجِ بمباركةِ القبلة.”
تردّدت لامبيرتا لحظةً، لكنّ ديوني مدّ يدَه إليها أوّلًا.
فابتسمت، وأمسكتْ بها.
تقدّمَت برأسِها بخفّةٍ وهي تُغمضُ عينيها،
منتظرةً قبلةً تُباركُ حياتَها الجديدة.
لكنّها، على حينِ غفلة، فَتَحتْ عينيها قليلاً كما لو كانت تُداعبُ القدر…
صرخةُ زجاجٍ يتحطّم.
صفيرُ سهمٍ يخترقُ الهواء.
ارتطامٌ مكتوم.
لم يكن الزجاجُ وحدَه من تحطّم في تلك اللحظة.
فتحتْ لامبيرتا عينيها على مشهدٍ مرعب—
الدماءُ تتطاير، والصيحاتُ تعلو، والعروسُ الأخرى تصرخُ من أقصى القاعة.
رأت ديوني أمامها، رأسُه وصدرُه مثقوبانِ بسهمٍ واحد.
انهار جسدُه فوقها، ولَطّخَ فستانَها الأبيضَ بالدم.
الزمنُ تجمّد.
كلُّ شيءٍ حدث في رمشةِ عينٍ امتدّت دهورًا.
“آه…”
خرج صوتُها خافتًا، ثم اختنق.
فقد اخترقَ السهمُ صدرَ ديوني… وصدرَها معه.
‘لا… لا بدّ أنّه حلمٌ. كيف يكونُ هذا واقعًا؟’
ذلك كان آخرَ ما فكّرت به لامبيرتا، قبل أن تهوي فاقدةَ الوعي تحت جسدِ زوجِها القتيل.
***
التشابتر الأوّل: مُلكٌ بلا مالك
“هنا…! الانسة لامبير… لقد فتحت عينيها….!”
انفتحت عينا لامبيرتا ببطء، مسترجعةً ذكرى قديمةٍ حين كانت تغرقُ في بحيرةٍ وهي طفلةً صغيرة.
صوتٌ مكتومٌ كأنّه يأتي من خلفِ الماء، رأسُها يدور، أذناها تصطدمانِ بأصداءٍ غائمة، الحرارةُ تشتعلُ في جسدِها بينما يكسوها البردُ من الداخل.
تنفّست بصعوبة، فاندفع البابُ فجأة.
دخل الطبيبُ الخاصّ بالعائلة، رونستين، تتبعه الخدمُ والجواري، يتزاحمونَ عند العتبة.
“آنستي، هل تعرفين من أنا؟”
لكنّ نظراتِ لامبيرتا لم تتركز عليه.
كانت تستعيدُ المشهدَ الذي سقطتْ فيه.
السهامُ تمطرُ من السقف، الوجوهُ المقنّعة، الأيدي تلوّحُ بالفؤوسِ والسيوف، الدماءُ تغمرُ الأرضَ والهواء.
صرخَ الطبيبُ.
“أحضِروا المهدِّئ حالًا!”
لكنّ صوته لم يخترقْ ضبابَ أذنَيها.
كانت تسمعُ صرخاتٍ بعيدة، أنينًا، توسّلاتٍ للنجاة،
وجسدَها يترنّحُ كأنّه على وشكِ السقوطِ مجددًا.
‘ديوني… انهضْ، أرجوك… لم أعد أستطيعُ الاحتمال.’
كانت تشعرُ بوزنِه على صدرِها بعدُ، كأنّه ما زال حيًّا.
وبينما كانت تُترنّحُ للخلف، تفجّرَ الدمُ القرمزيُّ من جرحِها مرّةً أخرى، يصبغُ فراشَها الأبيضَ بلونِ المأساة.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 0 - المقدمة: زفافُ الدّم منذ يوم واحد
التعليقات لهذا الفصل " 0"