<إلى السيّد المجهول>
ما إن وقعت عينا أوليفيا على أول سطر، حيث كُتب اسم المرسل إليه، حتى تجمّد جسدها.
“ما هذا بحقّ السماء …”
لم تستطع أن تتذكر متى كتبت تلك الرسالة بالضبط.
هي نفسها التي كانت تشتاق إلى السيّد الغريب وتردّ بفرح على رسائله ارتسمت أمامها بوضوح.
ابتلعت ارتباكها وأخذت تتابع قراءة السطور التالية ببطء.
‘ما الذي تفعله هذه الرسالة هنا؟’
‘كما كنت أتلقى رسائل السيّد الغريب … فهل تلقّى فريدي رسائلي أيضًا؟’
‘منذ متى؟’
خيّم عليها الارتباك.
كيف وصلت رسالتها إليه أصلًا؟
وإن كان قد قرأها فعلًا … فبأي شعور نظر إلى كلماتها؟
‘ما الذي كتبته له يا ترى …؟’
بدأ رأسها يؤلمها من شدّة الاضطراب، فانحنت قليلًا وهي تعجز عن التفكير. عندها انخفضت نحوها نبرة هادئة من فوق رأسها: “هل أنتِ بخير، سموّ الدوقة؟”
رفعت بصرها، فإذا بمن يقف أمامها ليس سوى ديف.
“… ديف؟”
رمشت بعينيها متسائلة، غير مستوعبة سبب وجوده هنا.
‘ما الذي يفعله هذا الكاهن في هذا المكان؟’
لكن ذهنها كان مزدحمًا بالفوضى، فلم تعد قادرة على التدقيق في الاحتمالات.
‘لابد أن فريدي رتّب شيئًا، أو طلب منه أمرًا.’
فتحت فمها ببطء، وسألت ديف الذي وقف أمامها: “ما الأمر؟”
“بدا لي أنّك وحيدة يا سيدتي.”
كان صوته وديعًا.
“يبدو أن حالتكِ ليست على ما يرام. هل أنتِ بخير؟”
“لا … إنما هو انشغال فكري فقط.”
مرّت بضع نسمات باردة، وبينما كان ديف لا يزال واقفًا بجوارها، فتح فمه بحذر: “أفهم… إن كان لا بأس لديكِ، فبإمكانك التحدث براحة. قد يُخفّف ذلك عنك.”
حرّكت أوليفيا شفتيها.
فكّرت بأن وجود من يشاركها قلقها قد يساعد بالفعل.
لكن هل سيبدو كلامها غريبًا؟
وكأنّه شعر بتردّدها، ابتسم ديف بلطف وقال: “مهما كان الأمر، إن كنتِ مستعدة للبوح، فتحدثي كما تشائين.”
لم يبدُ كعادته المتحفّظة، لكن أوليفيا لم تُعطِ الأمر اهتمامًا.
فكّرت مليًّا، ثم قررت أن تتكلم أخيرًا: “لا أستطيع أن أفهم أفكار معلّمي.”
“…”
“هل يمكن أن تسعني أسئلتي هذه؟”
“إن كان بإمكاني المساعدة، فبكل سرور.”
أومأ ديف برأسه، فبدأت أوليفيا بالكلام ببطء: “كأنّه يعرف سبب ما حدث لي، ومع ذلك يخفي عني الحقيقة.”
وما إن بدأت بالكلام حتى انساب حديثها بسهولة.
“لا يقول إنه لن يخبرني أبدًا، لكنه يماطل دومًا قائلًا: ستعلمين حين يحين الوقت.”
“هكذا إذن.”
أصغى ديف بتأنٍ، فتابعت بعد أن لمحت تقبّله: “كل ما يحدث يتمحور حولي، ومع ذلك فأنا آخر من يعرف … هذا يضيق صدري.”
اتكأت على يدها وأغمضت عينيها.
حين علمت لأول مرة أن معلمها جاء معها إلى هذا العالم، أحسّت بالطمأنينة.
ثم بدأت الغرابة تتسلل، ثم الحيرة، ثم الفضول.
وكلما تراكم ما تجهله، ازداد شعورها بالقلق.
ولم يكن بوسعها أن تبوح بذلك لأحد، فكان عليها أن تتحمل وحدها.
“لم أكن بهذا الاضطراب في البداية.”
“…”
“لكن يا ترى، هل تعرف شعور أن يزداد قلقك كلما ازددتَ معرفة؟”
كل حقيقة تكشفها جعلتها تزداد جهلًا بسبب وجودها في هذا العالم.
وكأنها طفلة تاهت فجأة في متاهة.
واليوم أيضًا … كيف ظهرت رسالتها من العالم السابق أمام فريدي؟
زفرت تنهيدة قصيرة.
ورغم أنها أنهت كلامها، لم تسمع ردًّا.
رفعت عينيها فرأت ديف متجهّم الملامح، صامتًا.
ضحكت بخفة.
لم تكن تتوقع منه إجابة على سؤال مبهم كهذا على أي حال.
لكن ربما لأنّها قالت ما كانت تكبته، شعرت بشيء من الراحة.
وبعد فترة صمت، سألها ديف فجأة: “هل تكرهين معلمكِ الذي يجعلك في هذا الضيق؟”
لم تتوقع السؤال، فبقيت تفتح فمها وتغلقه مرارًا بلا كلام.
وبعد لحظات، أجابت بصوت هادئ: “أظن أنّ إنكاري سيكون كذبًا.”
قالتها بصدق، ثم رفعت رأسها لتتأمل ما حولها.
ساد الصمت بينهما، قبل أن تستأنف ببطء: “لكن … معلمي رجل كان بجانبي منذ ولادتي.”
“هكذا إذن.”
أخذت تستحضر صورته بوضوح.
وجهه، كلماته، قصصه.
كان يخبرها بما لا يخبرها به أحد آخر، ويُريها العالم الواسع.
وكان يُذعن لمطالبها حتى حين كانت سخيفة أو غير معقولة.
حتى في الأمور التي يلومها عليها الناس جميعًا، لم يمنعها بشدّة سوى ببعض التحذيرات.
“كان يتذمر أحيانًا، لكنه كان يحقق كل ما أطلبه في النهاية.”
أغمضت عينيها وتذكرت ذلك الرجل.
المعلّم الذي اشتهر بالجنون، ومع ذلك تقبّل كلماتها الغريبة وطلباتِها المستحيلة.
والذي شهد نهايتها بعينيه.
كيف لها أن تكرهه بعد أن استعادت تلك الذكريات؟
ما تشعر به الآن لم يكن إلا مزيجًا من خيبة أمل لعدم شرحه شيئًا لها، ومن أسف على تصرفاتها.
“لو كان قد شرح لي شيئًا واحدًا على الأقل … لربما لم أكن لأعاني هكذا، ولم نكن لنسيء الفهم.”
تثاقلت كلماتها، وبدأت جفونها تُثقل أيضًا.
حاولت مقاومة النعاس، لكن الغلبة كانت للنوم.
“لماذا يحيط الرجال من حولي هذا الكم من الأسرار؟”
كانت كلماتها تتلاشى حتى صارت بالكاد تُسمع.
ثم صمتت تمامًا، ولم يعد يُسمع سوى أنفاسها المنتظمة.
زفر ديف أنفاسًا خافتة.
أغمض عينيه، فخيّم على المكان سكون غريب، وكأن الزمن توقف.
لحظة بدت طويلة كالأبدية.
وحين فتح عينيه مجددًا، عادت الحركة من حوله إلى طبيعتها.
واعتدل في وقفته ببطء.
تغيّر شعره المتشح بالشيب إلى بياض ناصع، واختفت التجاعيد من وجهه ليغدو عمره غير محدد.
مدّ أصابعه الملساء ليمسّد خصلات شعرها المنسدلة.
وفي عينيه حزن وشفقة.
ثم أخذ يتأمل عنقها المضمّد ويديها ونحافة معصمها.
وبينما هو على هذه الحال، اقترب ريفر منهم.
“فيا، هل نبدأ بالتحرّك …”
لكن ما إن رأى الرجل الواقف أمام أوليفيا حتى اتسعت عيناه وصُدم.
صرخ بحدة: “ما الذي تفعله هنا!”
رفع ديف إصبعه إلى شفتيه مشيرًا للصمت: “شش … لقد غفت لتوّها.”
فالتفت بصر ريفر إلى أوليفيا النائمة أمامه.
ثم خفض صوته ليسأله: “ما الذي أتى بك إلى هنا؟ ألم تقل إنك لن تعود لبعض الوقت؟”
كانت نبرته مشبعة بالدهشة.
فمعلّم أوليفيا ظهر فجأة هنا، فمن الطبيعي أن يتفاجأ.
أجابه ديف بهدوء: “سمعتُ خبرًا يخصّ أوليفيا، فجئت.”
“آه … إذن وصلك عن طريق أمّي وأبي.”
لم يجد ريفر صعوبة في استنتاج ذلك.
فديف كان مقيمًا طويلًا في بيانكي، ومن الطبيعي أن يسمع منها أي جديد عن أوليفيا إن أراد.
“إذن كنت تتحدث معها؟ أجل، لا بد أنها فرحت بلقائك، فقد كانت تشتاق إليك.”
أصغى ديف بهدوء لكلامه.
فأردف ريفر: “قبل قليل فقط كانت متوترة جدًا، لكن يبدو أن الحديث معك أراحها.”
“لعلّ الأمر كذلك.”
غير أن صوته لم يحمل يقينًا كاملًا.
التعليقات لهذا الفصل " 99"