بعد تحميل الأمتعة القليلة، أسرع أحدهم لتشغيل السيارة. عندها أومأ فريدي برأسه نحو سايمون الذي كان بانتظارهما أمامها.
لم يستطع أن يعطي الأوامر مباشرة بحضور أوليفيا، لكنه كان قد نقل الخطة كاملة بالأمس، لذا أيقن أن سايمون سيتولّى الأمر كما يجب.
“إذن، سايمون، بلِّغ جلالته بالأمر.”
“نعم، فهمت”
وبعد أن أنهى سايمون تحيته لفريدي، التفت أيضًا نحو أوليفيا وألقى تحية قصيرة: “أراك لاحقًا، سموّ الدوقة.”
فأومأت له برأسها، ثم صعدت السيارة مع فريدي.
في صمت مطبق، بدأت العجلات بالدوران.
***
السيارة التي كانت تقلّ أوليفيا وفريدي انطلقت بلا توقّف.
باستثناء الضوضاء الطفيفة الناتجة عن اهتزازها، لم يتبادل الاثنان أي كلمة.
كانت أوليفيا تحدّق بثبات خارج النافذة، وفي ذهنها تكرّر مشهد لقائها الأخير مع فريدي.
كالعادة، رافقها بلطف، وتأكد من راحتها.
كان لطف فريدي يثير في نفسها مشاعر متناقضة: امتنان ممزوج بالضيق، حنان يرافقه شجن.
مشاعر يستحيل حصرها في وصف واحد.
رمشت بعينيها المتعبة.
بينما كانت هي ترفض النظر إليه، لم يرفع فريدي بصره عنها. سرعان ما انخفض نظره قليلًا ليستقر على يدها.
كانت ملامستها له عند نزولهما من العربة إلى صعود السيارة قد أعاد له ذلك الشعور بعد غياب طويل.
لكن ما بقي على كفّه لم يكن سوى خشونة الضماد الذي لفّ يدها.
قبض فريدي كفّه بإحكام.
تدفقت في داخله رغبة عارمة بالعودة إلى هيستر الآن فورًا.
لم يمض وقت طويل منذ أن تعرّضت أوليفيا لذلك الخطر العظيم. كان يرى أن الأفضل أن تنتظر حتى تستعيد استقرارها.
ابتسامة ساخرة واهنة شقّت وجهه.
‘الآن فقط؟’
أبعد كل ما بناه معها بالتضحية والصراع، ثم يفكر بأن يطيح به من أجل رغبة شخصية؟ يا لسخافة الأمر.
غرق الاثنان في أفكارهما، فيما ظلّت السيارة تشقّ طريقها، وتغيّرت المناظر خارجها سريعًا.
حتى الوصول إلى مكان اللقاء مع ريفر، لم يتبادلا سوى الصمت.
***
قرب حدود سيلفستر.
كان ريفر في الانتظار. وبعد برهة، ظهرت سيارة تقلّ أوليفيا.
توقفت بجواره. نزل فريدي أولًا، وانحنى بتحية قصيرة لريفر، ثم اتجه لفتح الباب من الجهة الأخرى.
“سيّدتي.”
فتح الباب، ولامس صوتٌ منخفض عذب أذنها.
رفعت أوليفيا رأسها لتنظر إليه، والتردّد يملأ عينيها. ارتجفت حواجب فريدي قليلًا.
ابتلع ريقه، ثم قال: “إن كان وجودي يزعجكِ، يمكنني أن أستدعي صهري ليُرافقكِ …”
لكنها سارعت لتضع يدها بحذر في يده.
توقف لسانه عند تلك اللمسة الصغيرة، وظلّ متردّدًا يحرك شفتيه.
ولم يلبثا أن أشاحا بوجهيهما حين اقترب ريفر.
“فيا.”
“… مرّت فترة طويلة، يا أخي.”
رمق ريفر ملامح شقيقته مليًّا.
كانت هذه أول مرة يراها منذ مغادرته هيستر. لم يمض وقت طويل، ومع ذلك فقد بدت أنحف من ذي قبل، ولفّ الضماد عنقها ويديها.
عضّ ريفر شفتيه حتى كاد الدم يخرج، واحمرّت عيناه.
ترددت أوليفيا قليلًا قبل أن تنطق: “لمَ تنظر إليّ هكذا؟”
“لا شيء… فقط أشعر أنّي لم أركِ منذ زمن طويل.”
‘مجرد جروح صغيرة، فكيف يبدو كأنه سيبكي الآن؟’
رؤية أخيها بوجهٍ كهذا جعلت حجرًا ثقيلاً يستقر في صدرها.
‘لو كان ريفر في عالمي السابق، هل كان سيتصرف بنفس الطريقة إن رآني مصابة؟’
‘بالتأكيد.’
لم تحتمل أكثر، فحوّلت نظرها بعيدًا.
رؤية وجه ريفر المليء بالقلق، وهو لا يختلف عن صورته في حياتها السابقة، جعل معدتها تنقبض.
ضغطت أكثر على يدها المتشابكة مع فريدي. عندها التفت إليها بدهشة. بدا وكأنها لا تدرك ما تفعل.
“هـم.”
بسعال خافت من ريفر، عاد بصر فريدي إلى الأمام.
وكذلك أفاقت أوليفيا من شرودها.
“لديكما ما تتحدثان به، أليس كذلك؟ سأذهب لأركب السيارة أولًا.”
حرك فريدي شفتيه قبل أن يلقي تحية قصيرة: “…إذن، عودي بخير.”
‘يقول عودي بخير، وهو لم يحدد حتى متى سأعود.’
رغم رغبتها في قول الكثير وسؤاله أكثر، اكتفت أوليفيا بالإيماء برأسها، ثم توجهت نحو السيارة.
ما إن صعدت، حتى أغلق فريدي الباب بحذر خلفها.
دوّى صوت إغلاق الباب، ثم خيّم الصمت من جديد.
رغبت أوليفيا أن تلتفت لتنظر إليه، لكن قبضتها المشدودة أبقتها تحدّق إلى الأمام.
ابتعد فريدي قليلًا، ووقف مع ريفر ليتبادلا حديثًا قصيرًا عن آخر المستجدات.
أطلعه على وضع سيار و فايفيل، ثم أردف: “شهر واحد يكفي لإنهاء الأمر برمّته.”
“أهكذا تظن.”
“أرجوك اعتنِ بزوجتي خلال هذه المدة.”
قالها فريدي وعيناه معلقتان بالسيارة حيث جلست أوليفيا.
ثم أضاف ريفر بعد أن تابع بصره: “سألتقي بوالدينا قريبًا في مكان غير بعيد.”
ثم شرح له موقع اللقاء.
“من الأفضل أن نتحرك جميعًا دفعة واحدة.”
“أفهم.”
“أتمنى أن تُكلل مساعيك بالنجاح، ولا تشغل بالك بشأن فيا.”
ابتسم فريدي ابتسامة خفيفة شاكرًا ، ثم خفَت وجهه من جديد، وأكد بنبرة واثقة: “حتى الوصول، سيكون رجالي يتابعونكم، فلا تقلق.”
ألقى نظرة على ساعته، وقال: “الأفضل أن تتحركوا الآن.”
“سأراسلك فور وصولنا.”
أومأ فريدي برأسه: “سأنتظر انطلاقكم، ثم أغادر. تقدّموا أولًا.”
صعد ريفر إلى السيارة حيث أوليفيا، فانطلقت.
وظلّ فريدي واقفًا في مكانه طويلًا حتى بعد أن اختفت السيارة عن ناظره.
لم يُفق من شروده إلا حين اقترب منه الفارس بقلق، فأدرك الموقف وصعد إلى عربته.
***
بعد تجاوز الحدود بوقت قصير، توقفت سيارة أوليفيا وريفر.
كانت المنطقة غابة كثيفة الأشجار، يصعب على أحد رصدهم فيها.
“فيا، من هنا سنسافر مع والدينا.”
لكن برود أوليفيا بقي كما هو، فلم تُعر ريفر اهتمامًا طوال الطريق. ولم يعلّق هو على ذلك.
“قد يضيق صدرك إن بقيتِ في السيارة. ما رأيك أن تنزلي قليلًا؟ هناك مكان للجلوس.”
عند اقتراحه، التفتت نحوه سريعًا، لمحت وجهه للحظة، ثم أومأت برأسها ونزلت وحدها من دون مساعدة.
أول ما وقع بصرها عليه كان خدم آل بيانكي الذين جاؤوا مع ريفر.
بدا عليهم الارتباك، فلم يقتربوا منها رغم فرحتهم برؤيتها، وكأنهم أُخبِروا مسبقًا بما مرّت به.
بينما تتأمل وجوههم، قال لها ريفر وقد اقترب منها: “سأجلسكِ هناك، فلا تنزعجي.”
“حسنًا … يبدو أن لديكِ تجهيزات كثيرة قبل المغادرة” ، قالها، وهو يمرر يده على شعرها.
تصلب جسدها لحظة عند لمسته، وقد لاحظ هو ذلك، لكنه تظاهر بعدم الاكتراث.
ثم أردف: “حتى إن لم يكن أحد بقربك، فلا تقلقي. لقد ترك الدوق رجالًا ليحرسوك.”
“… حسنًا.”
“إذن سأذهب، انتظريني قليلًا.”
غادر، وظلت أوليفيا مكانها للحظات تفكر.
ولم تنتبه إلا حين علا الضجيج حولها.
عندها سارت ببطء نحو الكرسي المعدّ لها وجلست.
وأخذت تحدّق بذهول في أولئك الذين ينشغلون من حولها.
هبت ريح باردة، فارتجفت.
حينها فقط سمعت خشخشة من جيبها.
تذكّرت ما نسيت أمره حتى الآن.
أخرجت الرسالة التي أخذتها من مكتب فريدي.
مزّقت الغلاف دون تردد، وبدأت بقراءة ما في داخلها.
التعليقات لهذا الفصل " 98"