طوال فترة احتسائها الشاي مع أندرو، لم تهدأ شفتا فايفيل.
حتى أظافرها اصطدمت ببعضها بصوت حاد.
لم تستطع أن تهدأ من شدّة القلق الذي يغمرها.
كان سيار قد قال بوضوح إنه سيأخذ أوليفيا إلى فرنسا.
غير أنّ الأمور لم تسر كما خطّط لها، والتحالف بين سيلفستر و فرنسا ما يزال قائمًا.
وفوق كلّ ذلك، الأميرة أنتونيا ما زالت على قيد الحياة.
صحيح أنّها لا تستطيع التواصل ولا حتى الحركة بسهولة، لكن لم يكن ممكنًا لها أن تكشف شيئًا.
كما أنّه لا يوجد أيّ دليل يثبت أنّ فايفيل قد دسّت لها السم.
“ها.”
ورغم ذلك لم يفارقها القلق.
ارتعشت يد فايفيل وهي تمسك بكأس الشاي.
لقد نشرت أشخاصًا لترويج شائعات سيئة عن أوليفيا، لكن لم يكن هناك أيّ صدى يُذكر.
بدا وكأنّ هناك من يوقف تلك الشائعات.
ظنّت أنّ فريدي هو من أوقفها، لكنّه قضى معظم وقته في القصر الملكي.
ولو كان قد تدخّل لبلغها الخبر بلا شك.
غير أنّ أيّ حركة من جانبه لم تُلحظ.
“فلماذا لا تنتشر الشائعات إذن؟”
تمتمت فايفيل بصوت منخفض، فمال أندرو برأسه نحوها.
“فاي؟”
“آه، أندرو. لا شيء. يبدو أنّني كنتُ أحدث نفسي لكثرة التفكير.”
“هل تشعرين بوعكة؟ لقد مررتِ بالكثير مؤخرًا. لعلّ من الأفضل أن ترتاحي.”
مدّ يده إليها برفق، فانتقلت نظراتها إلى كفّه.
كان مظهره قريبًا من فريدي على نحو غريب، لكنّها لم تستشعر نحوه أيّ عاطفة.
لماذا؟
لم يكن فيه ما يعيبه على وجه الخصوص.
لقد نسيت حتى لماذا رغبت بفريدي بهذا القدر.
لم يبقَ سوى ذلك التوق المحموم لامتلاكه.
“فاي؟”
لما لم تُمسك يده، ناداها أندرو مرّة أخرى.
“آه … يبدو أنّني لست بخير فعلًا. هل نعود يا أندرو؟”
وما إن تشابكت أيديهما وسارا بضع خطوات، حتّى ظهر رجال الملك باسيلي فجأة.
“ما الأمر؟”، سأل أندرو باستغراب.
“لا نعلم، جلالة الملك أمرنا بإحضار سموّ وليّة العهد.”
كان نادرًا ما يستدعي باسيلي فايفيل من غير موعد مسبق، لذا بدت الدعوة غريبة.
لكن لم يكن بوسعها رفض أمر الملك، فاضطرّت أن تذهب معهم طائعة.
***
انتشر خبر محاولة فايفيل تسميم الأميرة أنتونيا في قصر سيلفستر الملكي بعد أقلّ من ثماني ساعات على مغادرة بعثة فرنسا.
ولمّا تبيّن أنّ مرسل المذكرة لم يكن سوى “سيار”، أسرع القصر الملكي بإرسال برقية عاجلة إلى فرنسا.
وسيأتي الردّ قريبًا.
ومهما توقّع المرء، فلن تجازف فرنسا برفض تسليم الأمير الثاني والتحقيق معه، كي لا تخسر علاقتها مع سيلفستر.
تنفّس فريدي الصعداء إذ وجد أنّ الأمور تجري كما خطّط.
فالجيش الذي جُهّز على عجل قد انطلق بالفعل لمطاردة بعثة فرنسا، وبحلول صباح الغد سيكون سيار قد أُحضر إلى هنا.
وبالطبع، حين يصل سيار، ستكون أوليفيا قد غادرت هيستر بصحبة فريدي، فلن يتقابلا أبدًا.
“ها …”
خرج بخار أبيض مع زفراته.
لقد شعر أخيرًا أنّ العقدة المعقّدة بدأت تنحلّ.
وبينما تكون أوليفيا بعيدة، ستتكشّف جرائم سيار و فايفيل كلّها.
وعندما تعود، لن يجرؤا على تهديدها ثانية.
تلك الفكرة وحدها خفّفت عن صدر فريدي بعض الثقل.
حتى وإن كانت أوليفيا تتجنّبه الآن، فبمجرّد أن تنتهي هذه الأزمة ستعود الأمور إلى سابق عهدها.
وكان يؤمن بذلك بلا شك.
“فقط … فقط اصبري قليلًا، يا زوجتي.”
تمتم وهو يرفع نظره إلى السماء الداكنة.
***
كان يفترض أن تغادر أوليفيا هيستر بعد بضع ساعات، ومع ذلك لم يغمض لها جفن.
كان مكتبها ما يزال مضاءً.
كان سطح مكتبها خاليًا كما في الصباح، ومع ذلك بقيت هناك طوال اليوم.
تسلّل هواء بارد عبر النافذة نصف المفتوحة، فجعل الغرفة باردة.
لو رأتها أنجيلا لسألتها حتمًا لماذا لم تُغلقها، لكن أوليفيا لم تشأ إغلاقها.
مكثت هكذا طويلًا، حتّى التقطت أذناها جلبة خافتة من الخارج.
وعندما أصغت أكثر، خُيّل إليها أنّها تسمع صوت فريدي.
كانت قد سمعت أنّه سيعود مباشرة بعد توديع بعثة فرنسا، فلماذا تأخّر هكذا؟
ساورها الفضول قليلًا، لكنّها لم تستطع سؤاله.
نهضت من مكتبها، وألقت نظرة خاطفة على فريدي من خلال النافذة، قبل أن تُطفئ الأضواء وتغادر الغرفة.
في تلك اللحظة كان فريدي قد وصل متأخرًا، ولاحظ أنّ مكتبها كان مضاءً.
فاستفسر من أنجيلا: “لماذا لم تنم زوجتي إلى الآن؟ لقد سلّمتني كلّ ما يتطلّب الإنجاز.”
“يبدو أنّها ضاقت بالبقاء في غرفتها، يا سيدي.”
“… حقًا؟”
إذًا لِمَ لم تخرج إلى الحديقة أو مكان بعيد عن مرأى الناس بدلًا من البقاء في المكتب؟
ثبّت بصره على نافذة مكتبها.
“رأيتها تدخل المكتب ثانيةً قبل قليل، والمكتب مضاء. يا للعجب، النافذة مفتوحة في هذا البرد.”
عندما تبعت أنجيلا نظراته، شهقت دهشة.
سألت بلهفة إن كان يُسمح لها بتفقّد المكتب.
لكن قبل أن ينطق بكلمة، انطفأ النور داخل مكتب أوليفيا فجأة.
وبقي فريدي مشدوهًا يحدّق بالظلام الذي حلّ.
***
مع الفجر الباكر، سارت أوليفيا بصحبة أنجيلا في الممرّات المظلمة متجهة إلى مكتب فريدي، حيث كان مخرج سرّي يقود إلى خارج هيستر.
حين وصلتا، انحنت أنجيلا قائلة: “سموكِ، الدوق سيأتي حالًا. وهو يُعدّ العربة، ويرجو أن تنتظري قليلًا.”
أومأت أوليفيا برأسها، ثم دخلت من الباب الذي فتحته لها أنجيلا.
وقد بدا أنّ فريدي توقّع مجيئها في هذا الوقت، فالموقد في مكتبه كان مشتعلًا.
وبدا على أوليفيا التوتّر وهي تدخل مكانًا لم تعتد دخوله.
كانت مضطربة فلم تستطع الجلوس، وبدأت تتجوّل بعينيها في المكتب المليء بآثاره.
وبينما تتأمّل المكان، وقعت عيناها على ظرف موضوع فوق مكتبه.
اقتربت وهي تُحدّق فيه، وما إن رأت الختم حتّى تصلّبت ملامحها.
لقد كان من نوع الأظرف التي اعتادت استخدامها في عالمها السابق.
مدّت يدها لتفتحه، لكن فجأة دوّى صوت حركة خلفها.
فزّت وأخفت الظرف في جيبها دون وعي.
التفتت فإذا بفريدي واقفًا عند مدخل المكتبة يرتدي السواد.
اقترب منها بخطى هادئة حتّى وقف قبالتها.
وبقي الاثنان يتبادلان النظر بصمت.
ملأت أنفها رائحة زهور عطرة ودافئة مع كلّ نفس.
وعيناه العسليّتان المعتادتان كانتا مثبتتين عليها.
مضى وقتٌ قصير قبل أن يقطع فريدي الصمت.
“… لقد مرّ وقت طويل، يا زوجتي.”
“… نعم، مرّ وقت طويل، فريدي.”
ساد سكون آخر بينهما.
كانت أوليفيا قد أرهقت نفسها بالتفكير فيما تقول عند لقائه، لكن كلّ تلك الأفكار تلاشت أمامه.
فتحت فمها لتتكلّم، لكنّه سبقها بمدّ يده إليها برفق.
“لقد حان وقت الرحيل، فلنذهب.”
ارتجفت أصابعه قليلًا، كأنّه يخشى أن ترفضه مرّة أخرى.
رأت أوليفيا ذلك بوضوح، فتردّدت قليلًا، ثم وضعت يدها فوق يده.
فانفرجت قسماته قليلًا لأول مرة.
سارا معًا عبر الممرّ الذي جاء منه.
وفي نهايته كان سايمون والجنود بانتظارهما.
“سيدي، لقد حمّلنا الأمتعة كلّها.”
لم يكن لأمتعة أوليفيا أن تكون كثيرة، إذ إنّ معظم ما تحتاجه سيُجهّز لاحقًا من قِبل عائلة بيانكي.
التعليقات لهذا الفصل " 97"