عند سؤال فريدي ، تردّدت أنتونيا قليلًا قبل أن تُعطي جوابًا.
“… الأمير الثاني أيضًا يجب أن يقف في المحكمة مع وليّة العهد. سيُعاقَب بأشدّ من مجرّد إطعام الأميرة الدواء سرًّا.”
وحين أدركت نيّته بدقّة، أومأ برأسه مؤكّدًا.
“علينا أن نُمسكَ بهم واحدًا تلو الآخر.”
“…….”
“علينا أن نُحكِم الطوق على الأمير الثاني الذي يملك فرصًا كثيرة للهروب، فلا يجد أيّ منفذٍ للفرار من هذه القضيّة.”
ما إن أنهى فريدي كلامه حتى أطلقت أنتونيا تنهيدة طويلة. القلق الذي بدا عليها حين دخل هذه الغرفة قد اختفى تقريبًا.
وبينما يتفحّصها، بدأ يشرح لها بهدوء ما ينبغي فعله لاحقًا.
لم يكن كلامه يبدو كخطة ارتجلها خلال الحوار معها، بل كان تفصيليًا أكثر من اللازم.
“إذن، تقصد يا أخي أن أخفي حالتي، ثم ألتقي بوالدي بعد أن يغادر وفد فرنسا القصر الملكي؟”
“إن انتشرت شائعة الآن بأن حالة سموّكِ قد تحسّنت، فقد يحاولون تهديدك، أو على الأقل سيزدادون حذرًا.”
أخذ فريدي يشرح لها بصوت منخفض وواضح.
وبعد أن انحسر عنها التوتر والقلق، صارت تنصت بهدوء لكلامه.
“علينا أن نبقيهم في حالة ارتخاء حتى يغادر الوفد، ثم نظهر لجلالة الملك حالتكِ حين يكونون أكثر غفلة.”
“وهل هناك سبب لأُظهر لوالدي حالتي في ذلك الوقت تحديدًا؟”
“هدفنا هو تفتيش غرفة وليّة العهد. لكن بما أنّها وليّة عهد هذا البلد، فالأمر يتطلّب إجراءات معقّدة.”
كان كلامه صحيحًا.
فحتى لو كانت فايفيل مشبوهة، فهي تبقى وليّة عهد سيلفستر.
“إن حصل ذلك، فالأدلّة التي رأيناها في غرفتها ستختفي حتمًا أثناء تلك الإجراءات.”
“هذا صحيح.”
“لا ينبغي أن نمنحها الوقت. قبل أن يُفتَّشَ مكانها، سيضع رجالي السمّ الذي استُخدم ضدّكِ في الموضع الذي وُجدت فيه الرسالة.”
ولم تكن قد حصلت بعد على جواب حول سبب تأخير إخبار باسيلي بحالتها.
فأشارت بعينيها إلى فريدي، كأنها تأمره بمتابعة الشرح.
“أعلم أنّه من غير اللائق قول ذلك عن جلالة الملك، لكن إن رأى بنفسه تحسّن حالتكِ فسوف يتأثّر حكمه.”
ومع كل كلمة منه، أخذ فمها ينفتح دهشة.
“وسنستغل تلك اللحظة للحصول على حقّ تفتيش غرفة وليّة العهد.”
غدت ملامح أنتونيا مدهوشة تمامًا.
خطة فريدي بدت بالغة الخطورة.
أن يستغل خطأ الملك نفسه للإيقاع بالمجرمة الحقيقية!
تجعّدت جبهتها تفكّر في دوافعه، إذ لم ترَ سببًا يجعله يذهب إلى هذا الحدّ من أجلها.
ثمّ تردّد قليلًا قبل أن يقول: “لا معنى لإخفائه أكثر … أنا لا أفعل هذا فقط من أجلكِ.”
ثم شرح لها بإيجاز ما يتعلّق بأوليفيا و سيار.
“فالسبب الرئيس الذي جعل الأمير الثاني يستهدفكِ مرتبط بزوجتي.”
“آه.”
“هذه الخطة وضعتها منذ ما قبل لقائي بكِ.”
“أتسمح بأن تخبرني بكل هذا؟”
“وماذا بوسعي غير ذلك؟ من الآن، ستكونين شريكتي في الجريمة.”
رغم قسوة كلماته، بدت ملامح أنتونيا مرتاحة لأول مرة.
فلو قال إنّه يفعل ذلك من أجلها وحدها، لشعرت بالعبء.
صحيح أنّه ابن عمّها وأخوها الذي تحترمه ، لكن …
فريدي رجل يتحرّك وفق الحسابات الدقيقة للمصالح، وهي بدورها لم تكن بعيدة عن ذلك.
“هذا يعجبني.”
ابتسمت أنتونيا بخفة.
وكان شعورًا يعيدها إلى نفسها التي عُرفت قبل أن تُجبَر على شرب السمّ؛ هادئة، عقلانية، ومخططة.
***
رافق فريدي أنتونيا كعادته، وهي تبدو أكثر راحة من الأيام السابقة.
جلست على الكرسي المُعدّ لها، فجلس هو قبالتها.
“كيف حالكِ الآن؟”
سألها فريدي، فهزّت كتفيها وهي تجيب: “كما ترى، تحسّنت كثيرًا.”
بالفعل، كانت أفضل بكثير.
مَن رأى كيف كانت بالكاد تتكلم حين شعرت أنّ حلقها يُمزَّق، لَيعلم أنّ هذه معجزة.
“لقد قلّ الخدم من حولكِ، هل تجدين في ذلك صعوبة؟”
هزّت رأسها نافية.
“أخي يمنحني كل ما أحتاجه، فلمَ أشعر بالمشقّة؟”
حدّق فيها طويلًا وكأنه لا يصدّق جوابها.
لكنها لمحت نظراته قليلًا ثم بادرت لتسأله بحذر: “اليوم يغادر وفد فرنسا، صحيح؟”
“نعم.”
ارتسمت على وجهها ابتسامة صغيرة مائلة.
ورغم ملامحها الهادئة، كان يسهل على فريدي أن يقرأ غليان قلبها.
فمجرد النظر إلى أصابعها المرتجفة وشفتيها المطبقتين يكفي لفهم ذلك.
لم يكن صعبًا أن يدرك السبب.
فالذين دسّوا لها السمّ وحاولوا قتلها يغادرون الآن دون أيّ عقاب … ومن الطبيعي أن يغلي صدرها.
تنفّست أنتونيا بعمق، تحاول تهدئة نفسها.
فنظر فريدي إلى ساعته ثم قال بحذر: “سأغادر الآن لأودّع وفد فرنسا.”
“أعلم. وما إن تغادر أنت القصر حتى أذهب إلى قاعة الاستقبال في القصر الكبير.”
“حسنًا. وإن كنتِ هناك، فسآتي مع جلالة الملك. لا تقلقي، سيكون سايمون بجوارك.”
“لا أشعر بالقلق.”
فهي تعرف جيدًا أيّ رجل يقف أمامها، ولم يعد في قلبها خوف.
صحيح أنّها حين لجأت إليه لتخبره بحالتها كان الأمر أقرب إلى مقامرة … لكنها ربحت.
ابتسمت برقة وقالت: “لقد أصبحنا على متن قارب واحد، فلنعمل جيّدًا معًا.”
أومأ لها ووقف مغادرًا.
لكنها نادته بعدما خطا بضع خطوات: “أخي، قد يكون غريبًا أن أسأل الآن، لكن …”
“ما الأمر؟”
“حين تعمّ الفوضى في القصر الملكي، هل سيتركنا حزب النبلاء بسلام؟”
كان سؤالها متأخرًا قليلًا.
فلو لم يكن لديه استعداد مسبق، لوجب عليها هي أيضًا أن تفكّر بكيفية التصرّف.
لكن رغم مباغتة السؤال، ابتسم واثقًا وهو يجيب: “لا تقلقي. فلن يجرؤوا على مهاجمة القصر أو الحزب الملكي حتى تنتهي هذه القضية.”
فتحت فمها لتسأله عن معنى كلامه، لكنه أسرع بالخروج، تاركًا إياها بلا جواب.
مع ذلك لم تشعر بالاضطراب.
فقد قرأت في ملامحه يقينًا كافيًا.
حتى لو لم يقل، أيقنت أنّ لديه خططًا جاهزة.
فنهضت على عجل، وبعد قليل جاء سايمون بأمر من فريدي، لتسير معه إلى قاعة الاستقبال في القصر الكبير كما هو متفق.
***
حين وصل فريدي إلى المبنى الرئيسي، كان كل شيء قد أُعدّ لوداع الوفد.
فما إن لمح أندرو اتجاه خطواته حتى سأله: “أأتيتَ من عند أنتونيا؟”
فرَجف كتف فايفيل الواقفة بجانبه.
ألقى عليها فريدي نظرة سريعة قبل أن يجيب ببرود: “لا، بل كنت أبحث عن شيء فقدتُه في غرفة استعملتُها من قبل، فأدركني الوقت.”
“حسنًا، فأنتونيا …”
لكن أندرو لم يكن يعرف شيئًا عن حالها، لأنها منعته من دخول جناحها تمامًا.
ورغم أنّ فريدي شعر بالأسى لرؤية أخٍ قلق على شقيقته، إلا أنّ مشاعره لم يكن لها مكان لتعطيل ما خطط له طويلًا.
“سموّ وليّ العهد، أليس من الأجدر أن تركز الآن على وداعهم؟”
تحدث فريدي وهو يوجّه بصره إلى وفد فرنسا الذي كان يستعدّ للرحيل.
فتذكّر أندرو دوره وسارع مع فايفيل إلى جوار باسيلي.
أما فريدي، فراح يتفحّص وجوه أعضاء الوفد.
وسرعان ما وقعت عيناه على سيار بينهم، فقرأ ملامحه بتمعّن.
فمنذ تجرأ على التسلل سرًا إلى هيستر، ازدادت رقابة جواسيس فريدي عليه.
لكن لم يكن هناك أي تحرّك مريب منه بعد ذلك، فلم يحصلوا على جديد.
كنت أتوقع أن يبدو وجهه قاتمًا، لكنه مشرق.
طالت فترة غياب النظر عن سيار، لكنه بدا بلا ظلّ في ملامحه.
كان يصعب قراءة أفكاره، فركّز فريدي بدلًا من ذلك على ترتيبات إرسال أوليفيا إلى ريفر بعد مغادرة الوفد.
وفجأة، التفت سيار ونظر مباشرةً إلى فريدي.
التعليقات لهذا الفصل " 95"