كان الحرس الواقفون أمام باب جناح الأميرة أنتونيا قد قلّ عددهم كثيرًا عمّا كان عليه من قبل.

فبعد أن استعادت وعيها، أخبر الأطباء باسيلي أنّ كثرة الزوار تُرهقها وتؤلمها.

وحين ظهر فريدي عند قصر الأميرة، حيّاه من تبقّى هناك بألفة واضحة.

أومأ لهم برأسه قليلًا، ثم طرق باب أنتونيا مرة واحدة.

و بعد لحظات قصيرة، فُتح الباب.

تقدّم فريدي إلى الداخل دون أيّ تردّد، وأُغلق الباب برفق خلفه.

ومباشرة، انحنى قليلًا إلى الأميرة التي فتحت له الباب وقال: “مرّ وقت طويل لم أركِ فيه ، يا أميرة.”

كانت الواقفة أمامه هي نفسها أنتونيا التي قيل إنّها عاجزة عن التواصل.

صحيح أنّ ملامحها بدت أنحف وأضعف مما كانت عليه قبل تناولها السم، لكنها لم تبدُ عاجزة عن الحركة.

لم يُظهر على فريدي أيّ اندهاش من ذلك.

وبينما يتابع خطواتها الهادئة إلى الداخل، استعاد في ذهنه أحداث الأيام الماضية.

***

مرّت عدة أيام منذ أن فتحت أنتونيا عينيها، لكنها لم تستقبل أحدًا غير الأطباء.

حتى خدمها الخاصّون لم يُسمح لهم برؤيتها، وكانت تُصاب بنوبة حادة لمجرّد سماع صوت غريب.

ولكي يفهموا ما الذي يزعجها أو ما الذي يؤلمها، كان لابدّ من تبادل الحديث معها، لكن ذلك لم يكن ممكنًا.

نظر فريدي بصمت إلى أندرو وهو يتنهّد بمرارة.

“أنتونيا ترفض حتى رؤية أبي أو رؤيتي أنا.”

“هكذا إذًا.”

“الطبيب يقول إنّ حالتها تحتاج وقتًا طويلًا حتى تتحسّن.”

ازدرد فريدي تنهيدة ثقيلة علقت في حلقه.

لقد ظنّ أنه بمجرّد أن تنهض أنتونيا، ستكشف كل شيء عن جرائم سيار و فايفيل.

لكن يبدو أن ذلك لن يكون سهلًا.

رأى أندرو قسمات وجهه المتجهمة، فاقترح بتردّد: “قبل أن تغادر القصر … ألا تجرّب زيارتها مرّة واحدة على الأقل؟”

“……”

“لقد قضت معك وأنت صغير وقتًا أطول مما قضته معي، و كانت تتبعك أكثر مما تتبع شقيقها الحقيقي، لعل الأمر يختلف هذه المرّة”

كان أندرو يمسح وجهه بيديه مرارًا في قلق، فأومأ فريدي أخيرًا موافقًا: “سأتوقف عند جناحها قبل أن أغادر.”

وعند سماع موافقته، بدا على أندرو بعض الارتياح.

لكن حين دخل فريدي جناح الأميرة ، بدا المكان كئيبًا للغاية.

وقف أمام باب غرفة أنتونيا وأطلق تنهيدة قصيرة.

‘هل سيتغيّر شيء بمجرد حضوري هنا؟’

بصراحة، لم يكن يظنّ أنّها قد تفيده في شيء الآن.

طرق الباب بخفّة وقال: “جئتُ لزيارة سمو الأميرة.”

كان على يقين أنّ الطبيب سيخرج لمقابلته.

لكن الذي حدث هو أنّ الباب انفتح، وقاده الخدم إلى الداخل، فإذا بأنتونيا واقفة على قدميها تنتظره.

انعقد حاجباه بشدة من المشهد غير المفهوم.

“أميرة …؟”

“أخي …”

نطقت الكلمة بصعوبة وسط سعال متكرر.

تجاوز فريدي دهشته بسرعة، وسألها بنبرة باردة: “هل كنتِ تخفين حالتك طوال الوقت؟”

ارتجف جسدها قليلًا أمام نظراته القاسية.

أخذ يراقب كل حركة منها بدقة، محاولًا أن يفهم سبب إخفائها ذلك.

ثم خرج من بين سعالها صوت آخر: “أخي … أتذكر ما جرى في قصر الدوق مونك؟”

ازداد وجه فريدي عبوسًا.

“قلتُ لي آنذاك، إن احتجتُ مساعدة فأُخبرك في أي وقت.”

لم يفهم لِمَ تعيد فتح ذلك الملف الآن.

فقد مضى شهور منذ أن تعاونا معًا لإنقاذ أوليفيا من قصر مونك.

أي قبل حتى وصول وفد فرنسا.

لم يستطع فريدي، رغم سرعته المعتادة في التحليل، أن يدرك السبب وراء إخفائها لحالتها، ولا لماذا تستنجد به فجأة.

لكن لم يطل الأمر حتى بان له السبب.

“إن عرفوا أنني تعافيت، سيُجبرونني على العودة إلى فرنسا.”

أمسكت بذراعيها وهي ترتجف.

“لا أريد الذهاب … قد يقتلونني.”

توتّر جسد فريدي كله دفعة واحدة.

‘هل تعرف حقًّا أنّ سيار أو فايفيل يخططان لقتلها؟’

قالت بصوت متقطع: “أعرف أن الأمر قد يبدو غريبًا … لكنني واثقة أنّ ذلك الأمير سيقتلني.”

لكن لم يبدُ أنّ لديها دليلًا.

وحين لم يُظهر فريدي أيّ رد فعل، عضّت على شفتيها بقوة.

“قد تظنني جننتُ بسبب السم … لكنني أشعر يقينًا أنني سأُقتل هناك.”

لم تكن كلماتها منطقية بما يكفي.

إلا أنها هذه المرة لم تتحدث بصوت الآمرة المتعالية، بل توسّلت بصدق.

“لو خرجتُ الآن دون دليل، فالأب وأندرو سيستمرّان في دفع زواج التحالف.”

صرخت فجأة وهي تحدّق فيه: “أعرف أن التحالف مهمّ!”

قبضت على يديها المرتجفتين وأضافت بصوت متهدّج: “لن أخفي حالتي للأبد … فقط، ساعدني في أمر واحد. أثبت لهم أنّ ولي العهد الثاني لفرنسا لم يكن طرفًا في محاولة تسميمي، وحينها سأذهب. أنا فقط … خائفة للغاية.”

ساد صمت قصير، ثم مال فريدي برأسه نحوها وقال بهدوء: “أنا أعرف من الفاعل الحقيقي.”

اتسعت عيناها بذهول.

وبلا تردّد، قصّ عليها فريدي كل ما يعرفه.

فتغيّر وجهها إلى قناع من الصدمة والذهول.

وبعد أن هدأت أنفاسها، جلسا يتحدثان طويلًا.

كان معظم حديثهما عن سيار و فايفيل.

أبدت أنطوني غضبًا شديدًا من أفعالهم، لكنها تأوّهت بحسرة لأن أيّ دليل لم يُترك خلفهم.

“إذًا … لا يوجد وسيلة للإيقاع بهم؟”

فكّر فريدي مليًّا قبل أن يجيب.

لقد اعتقد أنه إن نهضت أنتونيا لتشهد، فسيُدين فايفيل بسهولة.

لكن الواقع أنّه لم يبقَ دليل كافٍ.

وبعد تفكير قال: “علينا أولًا أن نُعيد الأمير الثاني إلى فرنسا.”

قطّبت أنتونيا جبينها: “أتقصد أن نطلق سراحه؟”

“لا. بل أقصد أن نفصله عن ولية العهد.”

كان شرحه كالآتي:

بين فايفيل و سيار لم يكن هناك أيّ ثقة متبادلة.

ولهذا احتفظت فايفيل بالرسالة التي وصلتها منه.

وحدها تلك الرسالة كافية لإحداث أثر كبير، لكن لو عُثر عليها و معها باروس أيضًا؟ فلن تستطيع فايفيل الهروب من التهمة.

“وما علاقة ذلك بإعادته إلى فرنسا؟”

أجابها فريدي بهدوء: “الآن، فرنسا و سيلفستر في علاقة تحالف. فلو اتّهمنا الأمير الثاني بلا دليل قاطع، فلن تعطي أيّ من الدولتين وزنًا كبيرًا للأمر.”

فانخفضت ملامحها في ثقل.

ظلّ فريدي ثابتًا وهو يشرح بموضوعية كم أن موقفهم ضعيف الآن: “لقد تعافيتِ، ولا يوجد دليل مادي على التسميم. لذا من المحتمل أن يتجاوزوا الأمر.”

والحقيقة أنّ الاحتمال كبير جدًا.

ولهذا لم يطالب حتى الآن بفتح تحقيق مباشر مع فايفيل أو بمحاكمة سيار.

فالسم الذي استُخدم لم يكن سمًا عاديًا، بل مزيجًا من عشبتين.

ما لم تُثبت صفقة بين سيار و فايفيل، فلن يكون من الممكن اتهامهما مباشرة.

وقد يُعاقبان فقط على دسّ شيء سرًّا في طعام الأميرة، لكن محاولة قتلها لن تُثبت.

وبهذا، فالراجح أن القصرين الملكيين سيسعيان إلى إنهاء القضية بعقوبة بسيطة لا تضرّ بالتحالف.

فهمت أنتونيا أخيرًا الموقف، وأقرّت داخليًا أن كلامه صحيح.

حين لمح فريدي نظرة الحزم في عينيها، أكمل قائلًا: “لكن لو أثبتنا هنا في سيلفستر أن ولية العهد هي الجانية، وقدّمنا رسالتها مع شريكها كدليل … فماذا سيحدث برأيكِ؟”