كان سبب ابتعاد أوليفيا عن فريدي بسيطًا. لأنّها كانت تخجل من الخيار الذي اتخذته.
فريدي لم يكن ليعرف ما فعلته في العالم السابق. لأنّ ذلك لم يحدث في هذا المكان.
ومع ذلك، كان من التناقض والسخافة أنّها أنهت حياتها بيدها، ثم تتمنى في نفس الوقت ألّا يفعل فريدي الأمر نفسه.
الشيء الوحيد الذي بعث في قلبها بعض الراحة هو أنّ وفد فرنسا سيغادر اليوم، وأنّها بدورها ستغادر هيستر غدًا.
ولن ترى وجه فريدي لبعض الوقت، ممّا سيمنحها فرصة كافية لترتيب أفكارها.
صحيح أنّ بعض الأحداث انحرفت قليلًا، لكن موت ليف لن يحدث قبل عدّة أشهر، لذا فلن يقع أمرٌ جلل الآن.
حتى ذلك الحين، قررت أن تفكر في كيفية التعامل مع فريدي، وكيفية منع ما قد يُقدم عليه سيار.
تنهدت أوليفيا وهي تجلس في مكتبها منذ الصباح الباكر مسندة ظهرها إلى المقعد.
الأمور التي كان عليها أن تعالجها بعد ما جرى مؤخرًا، انتقلت كلّها إلى فريدي.
لكن رغم ذلك، كانت لا تزال تحضر إلى المكتب في وقتها المعتاد.
رمشت ببطء وهي تنظر إلى التقويم الموضوع على الطاولة.
كان اليوم المرسوم بدائرة حمراء هو يوم مغادرتها هيستر.
لا تدري كم لبثت تحدّق فيه، حتى وصلها صوت فريدي وهو يخرج من المبنى.
تطلّعت إلى الساعة، لقد حان وقت توجهه إلى القصر الملكي لتوديع وفد فرنسا.
في الأصل، كان من المفترض أن تكون برفقته، لكن بطريقة ما جعلها فريدي تُعفى من الحضور.
نهضت بهدوء واقتربت من النافذة.
ومن خلالها رأت فريدي يرتدي ثيابًا سميكة تناسب برودة الطقس، وهو يتحدث مع سايمون.
لم تستطع سماع حديثهما، لكن من ملامحهما الجادة توقعت أنهما يناقشان أمر الأميرة أنتونيا التي استفاقت منذ مدة وجيزة.
أسندت أوليفيا جسدها إلى النافذة وأخذت تراقب فريدي.
عندها لفت انتباهها عنقه العاري.
“لو يضع وشاحًا لكان أفضل.”
وسرعان ما ارتفع بصرها نحو وجهه.
كان يبدو منهكًا، وكأنّه لم ينم جيدًا، فشعرت بالضيق لرؤيته على هذا الحال.
“ألعله متعب لأن الأميرة ما زال يصعب عليها التواصل؟”
فلن يبدأ التحقيق بشأن فايفيل إلّا حين تتمكّن أنتونيا من التعبير بوضوح.
وعندها فقط سيتمكنون من استدعاء سيار مجددًا إلى سيلفستر.
بسبب هذه الظروف، لم يكن صعبًا توقّع أنّ فريدي يرزح تحت ثقل التعب.
ضيّقت أوليفيا عينيها محاولة أن تراه بوضوح أكبر.
وبينما كانت تحدّق به طويلاً، التفت فجأة برأسه نحو مكتبها.
فوجئت، فابتعدت بسرعة عن النافذة خطوتين إلى الوراء، وظلّت جامدة حتى سمعت صوت محرّك السيارة وهي تتحرك مبتعدة.
وبعد مغادرته بلحظات، طرقَت أنجيلا باب مكتبها.
“سيدتي، لديّ ما أقوله بخصوص جدول الغد.”
فمسحت أوليفيا أفكارها عن فريدي وأجابت: “ادخلي.”
فتحت أنجيلا الباب بحذر، وأسرعت أوليفيا بالجلوس.
ولاحظت أنجيلا النظرة العابرة نحو النافذة والستائر المبعثرة، ففهمت بسهولة أنّ سيدتها كانت تقف هناك قبل قليل، وأن من كانت تنظر إليه لم يكن سوى فريدي.
سألت أوليفيا مباشرة: “ماذا تريدين أن تخبريني عن الجدول؟”
فمنذ أن قالت لأنجيلا إنّها لا تريد رؤية فريدي لفترة، كانت كل أخبار المواعيد أو المستجدات تصلها عن طريقها فقط.
“الحقيقة أنّ الدوق الموقّر أوصاني أن أنقل إليكِ أنه سيذهب معكِ غدًا حتى مشارف الحدود.”
تصلّبت ملامح أوليفيا في اللحظة نفسها.
كانت تعرف في عقلها أنها ستضطر لرؤيته يوم مغادرتها ، لكن لم تتوقع أن يرافقها بنفسه حتى مكان لقاء ريفر.
وحين رأت أنجيلا ارتباكها، سارعت إلى التوضيح: “قال إن الأمر احترازٌ حتى لا يجد أحد ذريعة أو يثير الشبهات، و طلب تفهّمكِ.”
أطلقت أوليفيا تنهيدة قصيرة.
لم تستطع أن تفهم لماذا يصرّ فريدي على ذلك، مع أن وجوده سيجذب أنظارًا أكثر.
صحيح أنّها لم تظن قط أنه قد يُهمل في الترتيب، لكنّها لم تجد سببًا مقنعًا لتصرّفه، وهو الذي تمنى بلسانه أن تخرج من هيستر.
كان من المزعج أن تسافر برفقته، لكنها لم تستطع الاعتراض.
أومأت مرتين بصمت، فتابعت أنجيلا: “من المتوقع أن تصل سيدتي إلى مشارف الحدود في الوقت نفسه الذي يصل فيه وفد فرنسا.”
لقد كان ذلك جزءًا من خطة فريدي المحكمة.
فالطريق الذي ستسلكه أوليفيا مختلف كليًا عن مسار الوفد، ولن يلتقوا.
هم سيستغرقون يومين للوصول إلى الحدود، أما هي فستصل في غضون أربع ساعات فقط.
تمتمت أوليفيا بصوت خافت: “لو أنّ آنا أو أحد الخدم الذين جاؤوا معي من فرنسا يستطيعون الذهاب أيضًا.”
كانت تدرك أنّه لا يمكن اصطحاب عدد كبير حتى لا ينكشف أمرها، لكن مع ذلك، لم تستطع منع نفسها من الشعور بالوحشة.
ارتجف جسد أنجيلا قليلًا عند سماع كلماتها.
فهي تعرف أنّ اصطحاب أيّ خادم من فرنسا كان مستحيلًا.
ليس فقط لتجنّب العيون، بل لأن هوية الجاسوس داخل هيستر لم تتضح بعد.
وفي ظلّ وجوب تضليل الداخل والخارج معًا، لم يكن بمقدورهم أن يخاطروا بسحب أيّ عنصر.
ومع ذلك، ابتسمت أنجيلا مطمئنة: “في المرّة القادمة التي تغادرين فيها، سأكون إلى جانبكِ حتمًا.”
رفعت أوليفيا بصرها والتقت عينيها.
وحركت شفتيها لتقول في سرّها: ‘إن وُجدت مرّة قادمة، فلن أكون موجودة أنا.’
لكنها اكتفت بابتسامة باهتة وقالت: “من يدري إن كانت ستأتي فرصة كهذه.”
لم تفهم أنجيلا مقصدها، فردّت ببساطة: “طبعًا ستأتي! حتى لو كانت مجرد نزهة صغيرة، سأكون معكِ.”
كان لحديثها الخفيف أثر مهدّئ، فارتخى وجه أوليفيا قليلًا.
وضعت ذقنها على يديها فوق الطاولة وسألتها: “لكن لو غادرتِ منصبك ككبيرة الخادمات، ماذا ستفعلين؟”
لم تكن نبرتها مشرقة كعادتها، لكنها صارت ألين من قبل.
ابتسمت أنجيلا وقالت: “العمر يمضي، وحان الوقت لأبحث عن خلفٍ لي، وحينها أبقى ملازمة لكِ وحدك.”
“… لا بأس، ليس اقتراحًا سيئًا.”
وبعد تبادل قصير للكلام، قالت أنجيلا إنها ستذهب لتحضير أمتعة سيدتها.
“بالمناسبة، هل لديكِ أشياء خاصة تريدين أن آخذها بعين الاعتبار؟”
ترددت أوليفيا للحظة.
‘هل أملك شيئًا يخصّني هنا؟’
كانت ستقول لا، لكن سرعان ما تذكرت ذلك الشيء الوحيد الذي يمكن أن يُنسب إليها في هذا المكان.
ذلك الكتاب الذي سلّمه لها معلمها …
الكتاب الذي يكشف بكل وضوح خلفيات اللاهوت.
لكن لم يكن من الآمن أن تطلب من أنجيلا حمله.
فأشارت إليها رافضة: “سأتولى بنفسي ما يخصّني، فلا تقلقي. فقط اهتمي بالأشياء الأساسية.”
انحنت أنجيلا طاعةً وغادرت.
وعادت الغرفة إلى السكون.
لم يبقَ مسموعًا سوى صوت عقارب الساعة على الطاولة.
تخيّلت أوليفيا أن الصوت يزداد وضوحًا، وكأنه يهمس لها: “لم يتبقَّ لكِ وقت طويل هنا. وسرعان ما ستعود ليف.”
***
في القصر الملكي، كان فريدي قد وصل باكرًا ليتفقد وفد فرنسا أثناء تحضيراتهم للعودة.
وبعد أن تأكد أنّ هناك بعض الوقت قبل الرحيل، ألقى نظرة حوله، ثم سار مباشرة دون تردّد نحو جناح الأميرة أنتونيا.
التعليقات لهذا الفصل " 93"