أوليفيا ضاقت ذرعًا بسيار. أرادت أن تقتله في الحال.
أرادت أن تُزيل من هذا العالم الرجل الذي انتزع فريدي منها.
لكن أوليفيا كانت تعرف.
كانت تعلم أنّها، مهما ثارت وهاجت، فلن تتمكّن من قتل سيار.
فقد كانت مستلقية على سريرها طوال الوقت بالكاد تتشبّث بالحياة، فكيف لها أن تمتلك قوّة كافية لقتله؟
نهضت بصعوبة من مكانها، وألقت نظرة على وجه سيار الذي غمره ضوء القمر المتسلّل.
‘كيف أجعل هذا الرجل يتعذّب طيلة حياته؟ كيف أجعل هذا الشيطان يتمنّى الموت؟
هل أستطيع أن أنتزع منه سبب وجوده، وهدفه، وسعادته كلّها؟’
إن كان عليها أن تبذل حياتها ثمنًا لتجعل سيار تعيسًا، فهي على استعداد لفعل ذلك.
لم تكن لتتردّد حتى في قتل نفسها.
“آه …”
شعرت أوليفيا أنّها وجدت الجواب.
بما أنّ سيار مهووس بها إلى هذا الحدّ، فإنّ موتها أمام عينيه سيكون أقسى عقابٍ يتلقّاه.
ارتسمت ابتسامة على وجه أوليفيا بعدما وجدت أخيرًا طريقة لإسقاط ذاك الشيطان الذي لوّن عالمها بالرماد في الجحيم.
عادت الحياة إلى عينيها الذابلتين.
كم كان ساخرًا أنّها لم تجد معنى للحياة إلا حين قرّرت أن تموت.
ولم يطل الأمر حتى بدأت تفكّر: كيف تموت لتتركه يتعذّب أطول فترة ممكنة؟
وكأنّ الحاكمة تساعدها، لمحت مسدّسًا صغيرًا بين طيّات معطف سيار الملقى على مقربة منها.
اقتربت وسحبته بحذر. كانت أوّل مرّة تلمس فيها سلاحًا ناريًا، لكنّها شعرت أنّها تعرف كيف تستخدمه.
تردّدت قليلًا: هل تُنهي حياتها فورًا؟ ثمّ هزّت رأسها واتّجهت نحو المكتب.
مع حالتها الصحيّة، بدا أنّ أفضل ما يمكنها فعله هو ترك رسالة واحدة أخيرة.
تساءلت: “لمن أكتبها؟”
لكنّ الإجابة كانت واضحة: “فريدي.”
لم يكن موجودًا لا في هذا العالم ولا في غيره، لكنّها شعرت بشوقٍ عارم لتكتب إليه.
أخرجت ورق الرسائل الذي اعتادت استعماله، وبدأت تكتب آخر رسالة له.
كان خطّها مشوّهًا وغير منتظم من قلّة المران.
كان الحبر يطمس الكلمات حتى كاد يصعب قراءتها.
يدها كانت ترتخي بين الحين والآخر، وكتفها ومعصمها يؤلمانها، لكنّها لم تتوقّف.
وقبيل أن تنتهي من الرسالة، كانت الشمس قد بدأت تشرق.
وضعت الرسالة في ظرف، ثمّ نهضت من على الكرسي.
في تلك اللحظة بدأ سيار، الممدّد على السرير، يتقلّب وكأنّه يستعدّ للاستيقاظ.
كان التوقيت مناسبًا تمامًا.
ألقت أوليفيا نظرة باردة على سريره، ثمّ أمسكت المسدّس بكلتا يديها ورفعته ببطء حتى لامس جبينها.
لكنّها تساءلت: هل تملك قوّة كافية للضغط على الزناد؟
وما إن خطرت الفكرة في ذهنها حتى أطلقت ضحكة قصيرة.
‘وما الذي لا أستطيع فعله بعد؟ سأُنهي كلّ شيء مهما كلّفني الأمر، ولو بجميع ما تبقّى لي من قوّة.’
لم يكن بوسعها أن تضيّع هذه الفرصة في الانتقام من قاتل فريدي.
رنّ صوت تلقيم الرصاصة، وفي اللحظة نفسها فُتح باب غرفتها.
دخل منه معلّمها بملابس غير مرتّبة.
منذ تلك اللحظة، لم تعد أوليفيا قادرة على التفكير بوضوح.
لقد حسمت قرارها، ولن يغيّره أحد، لا سيّما الآن. حتى لو حاول معلّمها الذي رافقها طويلًا أن يمنعها، فلن يجدي الأمر.
صرخ نحوها، لكنّها اكتفت بهزّ رأسها مبتسمةً بلا تردّد.
لا تتذكّر من ذلك الحوار شيئًا بعد الآن.
كان معلّمها يقترب منها بحذر، عابس الوجه كمن يتألّم، ويمدّ يده نحوها، لكنّها لم تُبدِ أيّ ردّة فعل.
في تلك اللحظة نهض سيار من السرير.
تحسّس بيده جانبه، فأدرك أنّ من يجب أن تكون بجانبه لم تكن هناك.
تجهّم وجهه، وبحث بعينيه في المكان حتى وقعت نظرته على أوليفيا. ثمّ أدرك على الفور أنّها تُصوّب مسدّسًا إلى جبينها.
“فيا …؟”
حوّلت أوليفيا نظرها عن معلّمها إلى سيار.
“لماذا تمسكين بشيء خطير كهذا؟ أنزليه حالًا.”
عينيه كانتا تضطربان بشدّة، كأنّه لم يستوعب الموقف.
لرؤية تلك النظرة فيه، تأكّدت أوليفيا مجدّدًا أنّ اختيارها كان صائبًا.
بعثت بإشارة بعينيها لمعلّمها تطلب منه ألّا يقترب أكثر.
ثمّ ضغطت إصبعها قليلًا على الزناد مهدّدة.
تجمّد معلّمها في مكانه. وبعد أن تأكّدت أنّه لن يتقدّم أكثر، عادت لتنظر إلى سيار.
أخذت نفسًا عميقًا، ثمّ فتحت فمها.
لكن لسانها كان يتعثّر في فمها من طول صمتها، وصوتها الرقيق كان متكسّرًا ومزعجًا.
“أتمنّى أن تعيش أطول ما يمكن”
لم تبالِ بغلظة صوتها وأكملت: “وإن شعرتَ أنّك ستموت، فلتواصل الحياة على أيّ حال.”
كانت تتمنّى أن تترسّخ كلماتها في قلبه، ليذوق كلّ ما ذاقته من عذاب، وكلّ ما عاناه فريدي.
“ولتتفتّت طويلًا، طويلًا داخل ذلك العذاب.”
ظلّ سيار جامدًا في مكانه، كأنّ صاعقة أصابته.
ابتسمت له أوليفيا، راضيةً بردّة فعله.
دموعها سالت حتى حجبت عنها الرؤية، لكنّها تفوّهت بآخر كلماتها بصدقٍ كامل: “وأتمنّى ألّا ينقذك حتى الحاكم من غمرات ذلك العذاب.”
أخذت نفسًا أخيرًا.
وفكّرت لحظةً أنّها قد تندم لاحقًا على هذا القرار.
وتساءلت إن كان هذا الحبّ المدمّر حبًّا حقًّا.
لكن للأسف، كانت قد وصلت إلى حدٍّ لا عودة منه.
أغمضت عينيها ببطء، ثمّ شدّت إصبعها على الزناد بكلّ قوّتها.
دوّى صوت الطلقة القصير، ثمّ عمّ السكون التام.
وانتشر في المكان دخان حارق ورائحة الدم المعدنية.
صرخ أحدهم، وفي لحظة غدت الغرفة فوضى عارمة.
***
فريدي أغمض عينيه حين رأى أوليفيا ممدّدة والضمادات تلتفّ حول عنقها ويديها.
كان ممسكًا بيدها السليمة.
نزفت كثيرًا، لكنّ إصابتها لم تكن قاتلة.
ومع ذلك لم تستعد وعيها بسهولة.
قال الطبيب إنّه أمر طبيعي، فما زال يوم واحد فقط قد مضى منذ الحادثة، وكانت صدمة كبيرة عليها.
لكنّ القلق لم يفارق فريدي.
لن يهدأ قلبه إلّا إذا فتحت عينيها وقالت إنّها بخير.
أغمض عينيه محاولًا التماسك، فإذا بصورة أوليفيا الغارقة في الدم تتهاوى أمامه تلوح في خياله.
كان يعلم أنّه مجرّد وهم، فالحقيقة أنّها تتعافى ويدها الدافئة بين يديه. لكنّه لم يستطع أن يهدأ.
كرّر محاولاته مرارًا، لكنّ قلبه لم يزد إلا هيجانًا.
لم يعد مهمًّا من تكون أوليفيا حقًّا، ولا إن كانت “السيد المجهول” في الرسائل، أو “ليف”.
المهمّ فقط أنّها هي، من ترقد الآن أمامه.
إن أرادت أن تُخفي أمر الرسائل، فسيقبل أن يُخدع.
لا يهمّ كيف أو لماذا كتبتها.
ولا ما الذي حدث بعد آخر رسالة.
يكفيه فقط أن تبقى بجانبه.
فليكن كلّ شيء كما هو، فقط لتفتح أوليفيا عينيها بسلام.
***
خرج فريدي من الغرفة.
لم يعد ذاك الوجه الذي بدا عاطفيًّا وهو يمسك بيدها، بل حلّ محلّه برودٌ قاتل.
عند الباب كان سايمون ينتظر. وما إن رأى فريدي حتى ارتجف جسده وانحنى يعتذر.
“أعتذر.”
“هل انتهيتم من التحقيق في سبب ما حدث؟”
رفع سايمون رأسه مسرعًا، وبدأ يشرح ما جرى: من خططهم لمراقبة أربعة من المشتبه بهم، إلى تقرير الجاسوس بأنّ سيار غادر القصر.
وكيف أنّه أثناء تلقي التقرير، سمعوا أصواتًا غريبة فاتّبعوها ليجدوا أوليفيا.
ثمّ أضاف دون أن يُغفل شيئًا: “وعندما دقّقنا في الداخلين إلى هيستر ذلك اليوم، اكتشفنا أنّ أحدهم استخدم تصريح دخول لم أصدره أنا.”
تصلّب وجه فريدي أكثر من ذي قبل.
لأنّه بدأ يفهم من الذي تسرّب إلى هيستر خفية.
التعليقات لهذا الفصل " 88"