“الجو مظلم جدًّا.”
حين كانت أوليفيا تدير عينيها في حيرة، أخذ سيار يُدندن وهو يشعل الشمعة.
تراقص لهيب الشمعة.
وفي الوقت نفسه، دخل وجه سيار إلى عيني أوليفيا.
فاختنق نفسها فجأة.
“لا يعجبني أنّها لا تضيء المكان كلّه، لكن إن أشعلنا مصباح الغاز قد يتجمّع الناس هنا.”
بدأ سيار يشرح لها بتفصيل لماذا يفعل ما يفعل.
“لم أُرِد أن يزعجني أحد، خصوصًا ونحن نلتقي بعد غياب طويل.”
“…….”
“لكن قولي لي يا فيا، هل كنتِ بخير في هذه الفترة؟”
مدّ سيار الشمعة المرتجفة نحوها وهو يسأل.
وحده فمه المبتسم وسط الظلال كان مرئيًا، فارتجف بدنها من القشعريرة.
“لو قلتِ نعم، فسأغضب قليلًا. فأنا عشتُ حقبة مُهينة بسبَبكِ”
لم ينتظر منها جوابًا، بل واصل الهمس وكأنه يُحدّث نفسه.
“في البداية، كنتُ أنوي أن أكتفي برؤية وجهكِ وأرحل. لكن حين فكّرتُ أنّك كنتِ مع ذلك الدوق الملعون في هذه الغرفة … اشتعل غضبي.”
أطلق سيار عدة زفرات باردة وهو يحدّق في الفراغ. ثمّ رفع بصره إليها بعيون أشدّ برودًا من أي وقت مضى، يُمسحها بنظرة من أعلى إلى أسفل.
“لا شيء سيُهدّئني على ما يبدو.”
بصوت متقطّع، انتزعت أوليفيا كلمات من حلقها الجافّ: “لماذا … تفعل بي هذا؟”
“لماذا؟ هل حقًا تسألينني لماذا؟”
ضحك سيار ضحكة مجنونة.
كان وجهه في انعكاس الضوء المرتجف مرعبًا حدّ الاشمئزاز.
“فيا، ليس من حقكِ أن تسألي هذا.”
بلمعانٍ في عينيه، تقدّم نحوها ببطء.
“لقد أخبرتكِ من قبل.”
أكمل بصوت رطبٍ، لزجٍ، مُخيف: “منذ أن رأيتكِ أول مرة، قرّرتُ أن تكوني بجانبي.”
ارتجف جسد أوليفيا بعنف عند كلماته.
“وحين قررتُ ذلك، عليكِ أن تذعني.”
“…….”
“أما لو حاولتِ أن تختاري غيري، فسأقتل ذاك الشخص لأعيدكِ إليّ. لقد حذّرتكِ بهذا.”
في تلك اللحظة اختفى الخوف من عيني أوليفيا، وحلّ مكانه شيء آخر.
فجأة، تذكّرت من قتله سيار.
ذاك السبب التافه الذي رفعه ليقتل فريدي في عالمها.
والأدهى أنّها استطاعت بسهولة أن تستنتج أنّ هذا الشخص نفسه هو من قاد “السيّد المجهول” في عالم آخر نحو الدمار.
خرج من شفتيها صوتٌ واهنٌ، خافت: “آه…”
“أنتِ لم تعترضي حتى الآن، أليس كذلك؟ كنتِ موافقة ضمنًا على كلامي، صحيح؟”
توقف سيار وهزّ كتفيه وهو يطالبها بجواب. ابتسم وهو ينتظر ردّها، لكن فجأة تجمّدت ملامحه.
“ألم أقل لكِ … ألا تنظري إليّ بتلك النظرة مجددًا؟”
وحين اندفع نحوها بسرعة، راحت أوليفيا تتحسّس المكان بذعر.
أمسكت بالجرس الذي كانت تستخدمه لاستدعاء الخدم وهزّته دون تردّد، لكنّه لم يُصدر أيّ صوت.
ضحك سيار ببرودٍ وهو يتوقّف على بُعد خطوتين فحسب: “أتظنّين أنّني لم أُحضّر لذلك؟”
“لا تقترب أكثر.”
“ماذا تستطيعين أن تفعلي هنا؟ هذه الغرفة عازلة للصوت أكثر من اللازم. حتى لو صرختِ بأعلى صوتك، لن يسمعك أحد.”
أعاد لها حقيقة وضعها المرعب.
“ولن يكون من الصعب أن أُفقدكِ وعيكِ وأحملكِ بعيدًا.”
كان كلّ ما يقوله مقزّزًا، مقرفًا.
“ومع ذلك، كنتُ أتماسك احترامًا لكِ. لكن إن اخترتِ أن تتصرّفي هكذا، فلماذا أتحمّل؟”
ارتجفت يد أوليفيا وهي تُلقي الجرس، ثم أخذت تتحسّس الطاولة بارتباك.
كانت ترجو أن تجد أي شيء يُهدّد به هذا الرجل.
وفجأة اصطدمت أطرافها الباردة بكوبٍ زجاجي.
دون تردّد، التقطته وحطّمته بقوة على الطاولة.
تناثر الزجاج بصوتٍ حادّ، وبقيت في يدها شظيّة حادة.
قبضت عليها بقوة، فاندفع الدم من راحتها، لكنّها لم تشعر بالألم.
بالنسبة لها، كانت هذه القطعة بمثابة طوق نجاة.
مدّت يدها الممسكة بالزجاج نحو سيار، الذي لم يكن يبعد سوى بضع خطوات.
“فيا؟ ما الذي تفعلينه؟ يدكِ تنزف!”
كان اهتمامه بجرحها أهم عنده من كونها تهدّده.
أسرع ليمسح قساوة ملامحه، مُحاولًا أن يُلين صوته: “فيا، ما قلته قبل قليل كان غضبًا فحسب.”
لكنها لم تتحرك.
“لن آخُذكِ بالقوة. صدّقيني.”
وعيناه ملتصقتان بيدها الدامية.
“سأعود إلى فرنسا وأجد طريقة لأعيدكِ إليّ. إلى أن يحين ذلك الوقت، ابقي هنا فحسب.”
“…….”
“فضعي هذا الخطر جانبًا، أريد أن نفترق الليلة بسلام.”
خطا خطوة متردّدة نحوها، فقبضت أوليفيا على الشظيّة أكثر، فاندفع الدم بغزارة.
“فيا!”
توقّف مذهولًا وهو يتوسّل إليها.
وحين رأت وجهه الشاحب، أدركت ما عليها أن تفعل.
هناك طريقة أضمن من مجرد تهديده.
وبلا تردّد، رفعت الزجاج الحاد إلى عنقها.
ولمّا لامس بشرتها، سال خط رفيع من الدم.
“توقفي حالًا، فيا!”
صرخ سيار وهو عاجز عن الاقتراب أو التراجع.
أبقت أوليفيا على يدها ثابتة، والدم ينضح من يدها وعنقها، ملوّنًا فستانها.
ومع أن وعيها أخذ يتلاشى، تمسّكت بالقرار.
في تلك اللحظة، نادا أحدهم من الخارج: “يا صاحب السمو! يجب أن نرحل فورًا. لقد فشلت الخطة. والدوق قد عاد…”
نظر سيار إليها متردّدًا، لكن لم يُقدم خطوة واحدة نحوها.
فمواجهة فريدي خطيرة، وأسوأ أن تدفعها إلى فعل أكبر.
“سأعود قريبًا.”
قالها و غادر الغرفة.
وما إن اختفى حتى ترنّحت أوليفيا وسقطت.
تهشّمت الشظيّة من يدها على الأرض، وتبعتها ساقاها المنهارتان.
سمعت صراخًا بعيدًا، وخُيّل لها أنّ الخدم يندفعون نحوها، لكنّها لم تستطع إبقاء عينيها مفتوحتين.
واخترق الزحام شخصٌ أسرعهم، ارتمى إلى الأرض واحتواها بذراعيه.
كان صوته المرتعش يصرخ بها، لكن أذنَيها لم تلتقطا شيئًا.
الدفء المختلط برائحة الدم التي أحاطت بها ذكّرتها بآخر رسالة لذلك “السيّد المجهول”.
***
فقدت أوليفيا وعيها، لتجد نفسها أمام مشهدٍ بدا حلمًا.
كانت صور عالمها القديم تطفو أمام عينيها، فتحدّق بها بلا حراك.
لم تلبث طويلًا حتى استنتجت أنّها آخر شذرات ذاكرتها.
كان اليوم 20 مايو 1818.
اليوم الذي عادت فيه أوليفيا إلى بيت آل بيانكي بعد حادثٍ أليم في سيلفستر.
ولكي تُنقل إلى غرفتها، حملها ريفر بنفسه، بحذر شديد.
“فيا، عدنا إلى البيت. استريحي الآن.”
كان قد سمع أنّها تعافت، لكن حين رآها بنفسه، كانت مختلفة تمامًا عمّا بلغه.
لم تنطق بحرف، أنفاسها بطيئة متقطّعة، عيناها خاوية كالميتة.
شعر ريفر بمرارة الذنب.
لو لم يقترح عليها تلك الرحلة إلى سيلفستر، لما وقعت في الحادث.
ولما تُركت مع هذه الآثار المدمّرة.
التعليقات لهذا الفصل " 86"