ارتجفت يد كاتبة الرسالة أثناء الكتابة، فجاءت الحروف مشوشة لدرجة أنّه كان من الصعب قراءتها إن أرخى القارئ عينيه قليلًا.
يبدو أنّها حاولت قدر المستطاع أن تكتب بخطّ سليم، لكن النتيجة لم تتجاوز خربشات طفل صغير.
「فريدي، أما أنا …
فقد تمنّيتُ ذات يوم أن تتغلّب على الألم وتواصل العيش.
وتمنّيتُ في يوم آخر أن تكون قدري.
لكنني الآن أعلم.
ذلك غير ممكن، ولن يكون كذلك أبدًا.
حين تلقيتُ أوّل رسالة منك، كنتُ في حيرة. لكنّني في الوقت ذاته شعرتُ بسعادة كبيرة.
ذلك الشعور ما زال حاضرًا في قلبي حتى الآن بوضوح.
كنتُ أستمتع بقراءة تفاصيل حياتك مع ليف، وحتّى حين تعتذر لي، كان ذلك يعجبني.
ليف أيضًا لا بدّ أنّها علمت الآن بحقيقة مشاعرك.
بمدى حبّك لها، وبمدى تقديرك لها. وبكم كنتَ تعتبر أوقاتكما معًا أثمن ما لديك.
هي الآن تعرف هذا الحبّ الكبير.
وإن لم تعلم … فلا بأس. ففي هذا العالم، يوجد على الأقل شخص واحد يعرف مقدار حبّك، وهو أنا.
وإن التقيتُ بها يومًا، فسأخبرها كل شيء بنفسي.
قد يحدث أن ألقاها قبلك، أليس كذلك؟
أعتبر ذلك ردًّا لجميل المشاعر الكثيرة التي منحتني إيّاها طوال هذه السنوات.
قد يكون من قلّة الحياء، لكن … إن حدثَ يومًا، إن كان هناك حقًّا يومٌ نلتقي فيه، فأرجو أن أكون أنا أوّل من يعرفك.
أن أسبق ليف في العثور عليك، وأن أحبّك بحيث لا تعود تتألم بهذا الشكل أبدًا.
أدرك أنّ هذا الكلام لا يليق أن أضعه مباشرةً تحت جملة (سأنقل لليف حبّك)، لكن ابتسم وتجاوز الأمر فحسب.」
كلّما اقترب من نهاية الرسالة، ازداد وجه فريدي تصلّبًا، وارتعشت يداه بعنف.
أمسك يده المرتجفة باليد الأخرى محاولًا كبحها، لكن بلا جدوى.
وفي الوقت نفسه، بات يدرك مصدر الرائحة المعدنية العالقة في الهواء.
「هل كان في الرسالة الثانية … حين قلتُ إن كان هناك شخص غريب يرسل إليّ رسائل، فسأطلق عليه النار؟
كنتُ أخيفك فحسب، خشيتُ أن يكون أحد ما يراقبك من حولك، لكن الحقيقة أنّني لا أجيد استخدام السلاح.
نعم، كانت مجرد جعجعة فارغة.
ثم أخبرني، أيعقل أن يسمح أحد لابنة بيانكي الحبيبة أن تمسك بشيء مرعب كهذا؟
لكن الغريب … أنّني رغم أنّني أمسكتُ بمسدس اليوم للمرّة الأولى، شعرتُ كأنني أعرف كيف أستخدمه.
كلام سخيف، أعلم.
لكن لعلها طبيعة الرسالة الأخيرة … إذ جاءت أفكاري مبعثرة، فيغمرني الخجل.
مع ذلك، أظنني كتبتُ كل ما أود قوله.
وداعًا، فريدي.
كنتُ سعيدة لأنني أحببتك طويلًا.
26 أيّار 1818م
من: أوليفيا بيانكي.」
ما إن أنهى فريدي قراءة الرسالة، حتى انفلت من حلقه صوت أجشّ وكأنّه مخدوش.
“أدِر السيارة.”
ارتبك السائق من الأمر المفاجئ، فالتفت ينظر إليه، ليرى وجهه الشاحب، فسارع إلى تنفيذ أمره من دون سؤال.
وفي الطريق عائدًا إلى هيستر، ظلّ فريدي يقرأ الرسالة، مرّة بعد مرّة.
لم يختفِ اسم “أوليفيا بيانكي” عن نهاية الرسالة مهما كرّر القراءة.
حين أدرك ذلك أوّل مرّة، خُيّل له أنّها مجرّد مزحة خبيثة من أحدهم.
لكنّ الذكريات التي لطالما حاول إقصاءها أخذت تتقاطر على ذهنه ببطء.
الرسائل التي بدأت تصله بعد زواجه من أوليفيا.
دموعها حين رأته للمرّة الأولى، وسؤالها إن لم يكن قد مات.
أسئلتها الغريبة في الكنيسة وفضولها الذي لم يهدأ.
تشابهها اللافت مع صاحبة الرسائل.
تشابه الخط، والعادات في الكتابة، والذوق.
كلّما فكّر أكثر، بدت له الفرضية المستحيلة وكأنها تكتسب شكلًا: أنّ صاحبة الرسائل ربما كانت قريبة منه طوال الوقت.
قشعريرة صعدت من قدميه إلى جسده.
لم تكن بسبب حقيقة هويتها.
بل بسبب أمر آخر واضح: أنّ كاتبة هذه الرسالة قد ماتت في 26 أيّار 1818.
أي أنّ أوليفيا … قد أنهت حياتها بنفسها.
حين خطر له ذلك، أحسّ بقوة مجهولة تعتصر قلبه.
لم يعد يهمّه إن لم تكن هي أوليفيا التي يعرفها.
كل ما يهمّه الآن أن يرى بأمّ عينيه أنّ “أوليفيا” في هيستر بخير.
فقط بذلك يمكن أن يزول هذا القلق الجنوني.
ظلّ يترجّى وصوله بسرعة إلى هيستر وسط انهمار المطر.
***
كان سايمون منهمكًا في اختيار الرجال الذين سيتولون مراقبة الأربعة الباقين.
وبينما ينهي ترتيباته، وقف من مكانه، وألقى نظرة إلى النافذة.
كان المطر غزيرًا على نحو غير معتاد، والجو مظلمًا أكثر من العادة.
شعر بنذير شؤم يدفعه للإسراع.
في تلك اللحظة، اقتحم أحد الجواسيس الغرفة على عجل، يتبعه ماء المطر يقطر من ثيابه.
كاد سايمون يسأله عن السبب، لكن كلمات الجاسوس سبقته: “الأمير الثاني … اختفى.”
“… ماذا؟”
انحنى الرجل يشرح الموقف: “لقد حدث خلل في التوقيت بين من بقوا في الداخل ومن دخلوا متخفّين من الخارج. استغلّ الأمير تلك الثغرة واختفى.”
ضغط سايمون جبهته وتنهد بعمق.
لقد حذّرهم مرارًا من التهاون … لكن ما كان يخشاه قد وقع بالفعل.
“إن أخطرنا القصر الملكي، فسوف يُكشف أنّ الدوق لم يتبع أوامر جلالته.”
زمّ سايمون شفتيه: “اللعنة … لقد غادر صاحب السمو إلى القصر بالفعل.”
“لكن ما زال هناك رجال هناك، سيتسلمون الخبر.”
زاد الصداع في رأسه لمجرّد التفكير في إبلاغ فريدي، الذي كان أصلًا متوتّرًا قبل رحيله من هيستر.
وها هو الأمير الثاني يفلت من بين أيديهم.
الأمور تزداد سوءًا.
“حسنًا … واصلوا تعقّب الأمير. لا تدعوه يبتعد.”
“أمرك.”
لكن فجأة تجمّدت ملامح الجاسوس.
“حضرة المستشار … ألم تسمع شيئًا يتحطّم للتو؟”
أمال سايمون رأسه، وأرهف السمع.
لكنه لم يسمع سوى صوت المطر.
ومع ذلك، لم يستطع تجاهل كلام جاسوس اعتاد الإصغاء لأدقّ الأصوات.
أحسّ أنّ شيئًا خطيرًا قد وقع.
فأسرع هو والجاسوس ليتفقّدا الأمر.
***
تحت دوي المطر على النوافذ، فتحت أوليفيا عينيها المثقلتين.
لقد غلبها النوم بعد بكاء طويل، فانتفخت جفونها.
رفعت جسدها بتثاقل، وحدّقت قليلًا في الغرفة المعتمة، ثم في ثيابها الممزقة عن الراحة.
مدّت يدها إلى الجانب الآخر من السرير، لعلّها تجد أثرًا من دفء فريدي.
لكن لا دفء هناك.
كانت قد أملت، ولو قليلًا، أن يعود إلى جوارها. لكنه لم يفعل.
جفّت دموعها، لكن برودة صدرها لم تزل.
حاولت أن تُبعد تفكيرها عن فريدي.
ورأت أنّ الأفضل أن تبدّل ثيابها.
وقبل أن تنادي الخادمة، دُقّ الباب.
ظنّت أنّها آنّا أو أنجيلا، فسمحت بالدخول من غير تردّد.
لكن ما إن انفتح الباب قليلًا، حتى لاحظت أمرًا غريبًا: لم يتسرّب أيّ ضوء من الممرّ.
كان من المعتاد أن تبقى المصابيح مضاءة حتى وقت متأخر من الليل.
تقلّصت عيناها محاولة تبيّن الداخل.
وما لبثت أن أدركت أنّ القادم ليس من خادماتها.
فقد كان رجلًا ضخم القامة يقف عند المدخل.
“… من هناك؟”
سألت وهي مشدودة الأعصاب.
أطلق الرجل ضحكة قصيرة متقطّعة، وكان وقعها على أذنها مزعجًا.
ثم تنفّس ببطء، وقال بصوت متثاقل: “لقد كان عمل رجالي جيّدًا. .. وإلا لما تمكنتُ من الوصول إليكِ بهذه السهولة.”
ما إن سمعت صوته، حتى عرفت هويته.
لكنها لم تستوعب كيف وُجد هنا أصلًا.
فهو يفترض أن يكون في القصر الملكي …
إذًا … لماذا يقف سيار أمامها الآن؟
التعليقات لهذا الفصل " 85"