「الآنسة بيانكي لم تُبدِ أيّ تحرّك. لقد تمّ تعزيز حراسة هيستر، لذلك عليك الدخول بطريقةٍ أخرى غير التي ذكرتها سابقًا.
بعد التلاعب بالوثائق المتعلّقة، سأتواصل معكم.」
كان قد قَلِقَ من خبر تشديد الحراسة، غير أنّ وجود فريدي في القصر الملكي لسيلفستر ومعه أيضًا معاونه، أتاح الفرصة للتلاعب بالوثائق.
كان سيار يعرف أنّ التحرّك في مثل هذه الظروف ليس أمرًا صائبًا، ومع ذلك خطّط للمخاطرة وزيارة أوليفيا.
“لقد مرّ وقت طويل من دون أن نلتقي.”
صحيح أنّ التحالف سينهار قريبًا، وحينها سيتمكّن من رؤيتها كثيرًا، لكن عندها ستكون مشغولة تمامًا.
قضية شقيقها، ونقمة شعب سيلفستر، كلّها ستسقط على عاتقها وحدها. ومن أجلها، هو يختار الآن هذه اللفتة.
“فيا، أنا وحدي من يمنحكِ هذه المراعاة. أنتِ تعلمين، أليس كذلك؟”
ضحكة سيار لم تنقطع.
كان استحضار صورة عينيها المندهشتين عند رؤيته يضاعف متعته.
غير أنّ وجهه بدأ يتجمّد عند تذكّره أوليفيا في آخر لقاء.
ارتجافها كما لو أنّه شيء مرعب، ونظراتها المليئة بالاشمئزاز، كلّها جعلته يشعر بالقرف كلّما تذكّرها.
اختفت الضحكة وحلّت محلّها قسوة باردة.
“لا يجب أن تكرّري رفضي كما فعلتِ في السابق.”
أطلق هذا التحذير الذي لن تسمعه هي أبدًا، ثمّ حوّل نظره نحو النافذة المحجوبة بالستائر.
“همم … لكن قبل أن أذهب، عليّ أن أتخلّص من تلك العيون. كيف أفعل ذلك يا تُرى؟”
تمتم وهو يتخيّل رجال فريدي الذين يراقبونه من خلف الستائر.
الحلول موجودة، لكن لا حاجة لإثارة ضجّة الآن.
فإلى أن يجد جيمس طريقةً جديدة، من الأفضل أن يظنّ فريدي أنّ له اليد العليا.
“صحيح … ما زال عليّ التظاهر بالانسجام معه.”
أعاد قراءة الرسالة التي في يده، ومسح عن وجهه ذلك الجمود، ثمّ بدأ يُدلْدل أنغامًا منخفضة ملأت الغرفة.
***
بعد أن أوصلت أوليفيا المعلومات حول السمّ، تمكّنوا من إنتاج ترياق مناسب.
وبفضله، تحسّنت حالة الأميرة أنتونيا بشكل ملحوظ.
لكن رغم تجاوزها مرحلة الخطر، فإنها لم تستعد وعيها بعد، و هذا ما أثار أصواتًا سلبية داخل سيلفستر تجاه هذا التحالف.
جلس فريدي يتأمّل في كومة من الوثائق التي وصلته خلال الأيام الأخيرة، وملامحه متجهّمة.
النبلاء لم يبدوا أيّ إرهاق، بل ظلّوا ينهالون عليه بالطلبات و الملاحظات المرتبطة بالتحالف، وكأنّهم يستمتعون بامتحان صبره.
لكن ما كان يُثقل صدره أكثر من ذلك، أمر آخر.
“سايمون، ما أخبار ولي العهد الثاني ووليّة العهد؟”
“سموّ وليّة العهد لم تخرج من جناحها منذ ذلك اليوم.”
منذ جلسة الشاي مع فريدي، حبست فايفيل نفسها في غرفتها، وكذلك فعل سيار.
لم يُظهرا أيّ تحرّكات تذكر.
أي أنّ جمع المعلومات عنهما صار بالغ الصعوبة.
فتّش فريدي في سجلّ تحرّكات أنتونيا قبل إصابتها، ليعرف متى تناولت الباروس.
لكن لم يظهر أيّ دليل قاطع.
فقد التقت فعلًا بفايفيل ، لكن بعدها أيضًا التقت بشقيقها أندرو، وحتى بإحدى بنات الأسر النبيلة اللواتي كنّ مقرّبات منها.
غير أنّ الآخرين لم يكن لديهم أيّ دافع لاغتيالها.
وعليه، كان يُحتمل أن تكون فايفيل هي المذنبة، لكن “تناول الباروس” وحده لا يكفي لإدانتها، فهو لا يُظهر أعراضًا محدّدة.
الوضع كلّه شكوك بلا براهين.
“آه …”
كان الأفضل لو تحرّك بنفسه، لكنّ العيون مُسلَّطة عليه من كلّ جانب.
النبلاء يترقّبون قرارات القصر بشأن التحالف مع فرنسا، ولمّا لم يُعلَن شيء بعد، تحوّلت أنظارهم نحوه وإلى قصر هيستر.
صحيح أنّ هذا قيّد حركته، لكنّه رآه في جانب آخر أمرًا مفيدًا.
فما دام الأنظار مركّزة على قصر هيستر، فإنّ حركة سيار أيضًا لن تكون حرّة.
ومع كلّ الإزعاج، لم يجد حلًّا أفضل.
لذلك صار سايمون وجواسيسه عيونًا وأقدامًا لفريدي.
ومع أنّه كان يتحرّق ليتحرّك بنفسه، فقد كان عليه الرضا بهذا الواقع.
راح يُربّت أصابعه على الطاولة بلا انتظام في انتظار التقرير التالي من سايمون.
“لقد تحرّينا بشأن الخادم الذي يعمل في جناح الأميرة، ولم نعثر على شبهة.”
“أه …”
“زيارته لجناح وليّة العهد كانت فقط لرؤية صديقة له هناك. ولم يُظهر أيّ سلوك مشبوه.”
“وماذا عن عائلته أو ديونه؟”
“لديه فرد مريض في أسرته، لكن راتبه في القصر يكفي لمعيشتهم، فلا داعي للقلق.”
أطلق فريدي أنفاسًا قصيرة، ومسح وجهه الكبير براحة يده.
لقد شعر من البداية أنّ ذاك الخادم يخفي أمرًا ما.
مجرّد إحساس.
ربما هو مجرد حساسية مفرطة … لكنه يعلم أنّ إحساسه لا يخدعه غالبًا.
فزاد عبوسه عمقًا.
أما سايمون فقد أدرك أنّ سيّده لن يهدأ ما لم يلاحق هذا الخيط.
وعلى الرغم من أنّه كان يتمنّى أن يتوخّى فريدي الحذر كي لا ينكشف هدفه، إلّا أنّه رأى من ملامحه أنّ القرار قد اتُّخذ.
وبالفعل، نطق فريدي: “سايمون، ضع رجلًا يراقب الخادم. إن التقى بوليّة العهد أو وليّ العهد الثاني، أبلغني فورًا.”
أجاب سايمون بجدّية: “حسنًا، سيدي. وهناك هذا أيضًا.”
قدّم له ملفًا آخر.
“نتائج التحقيق مع خدَم قصر هيستر.”
“هل انتهيتم من الجميع؟”
“التحقيق اكتمل بخصوص أنجيلا وجيمس فقط، أمّا الباقون فيحتاج وقتًا أطول.”
“كم سيستغرق؟”
“لا نعلم بدقّة. فالأسماء خارج العاصمة تتطلّب إرسال فرق، وقد يطول الأمر.”
موارد فريدي لم تكن غير محدودة.
رغم سرعة سير التحقيق، ظلّ القلق ينهش داخله.
“إذن، شدّدوا الحراسة الداخلية مع الخدم الذين لم يثبت عليهم شيء.”
“مفهوم. وماذا أيضًا؟”
“نظرات النبلاء ستمنع المتسلّلين من الخارج، لكنها لن تمنع المؤامرات داخل القصر. تأكّد من وجود حراسة لصيقة على زوجتي.”
سجّل سايمون ملاحظاته بدقّة ووعد برفعها إلى قصر هيستر.
انتظر ردًّا إضافيًّا، لكن الصمت طال.
وبعد دقائق، تحدّث فريدي مجددًا: “سايمون، مهما كنت حذرًا، قد تكون هناك عيون عليك. فكن دائم الانتباه.”
“سأضع ذلك في الحسبان.”
“حسنًا، يمكنك الذهاب.”
انحنى سايمون مودّعًا، ثمّ ألقى نظرة على سيّده.
كان فريدي منهمكًا في مراجعة الوثائق بعينين محمرّتين من الإرهاق.
لم يكن على هذه الحال قبل قدوم وفد فرنسا … كان يبدو أقوى بكثير.
حبس سايمون كلماته في صدره.
لا مكان للعواطف الآن. ما سينفع سيّده حقًا هو التحرّك و جمع المزيد من المعلومات.
التعليقات لهذا الفصل " 78"