حين كان فريدي يخرج من قصر فايفيل، وقعت عيناه على شخصٍ ما.
ذلك لأنّ وجهًا بدا مألوفًا ظهر أمامه.
‘ذلك الشخص …’
لم يعرف ما الذي جاء بخادمٍ من جناح الأميرة إلى هذا المكان.
وقبل أن يتمكّن من الاقتراب أكثر، التقط الخادم إشارات وجوده فارتبك، وغطّى وجهه مسرعًا ليختفي عن الأنظار.
كان المشهد مُريبًا، لكنّ العيون المترصّدة كثيرة، فلم يستطع اللحاق به فورًا.
لذلك اكتفى فريدي بتثبيت ملامحه في ذاكرته، وقرّر أن يبحث عنه لاحقًا، ثم غادر قصر فايفيل.
***
في النهاية، تبيّن أنّ الوقت الذي أهدره مع فايفيل في جلسة الشاي لم يضع هباءً.
فقد تمكّن سايـمون والجواسيس المتخفّون من العثور على أدلّة ذات قيمة.
“بدا لي أنّ جلب الرسائل نفسها فيه مخاطرة، لذا نسخنا أكبر عدد ممكن منها.”
تناول فريدي ما قُدّم له وبدأ يراجع محتواه بعناية، فيما تابع سايـمون قائلاً: “من أصل عشر رسائل، نجحنا في نسخ سبع، لكنّ الثلاث الباقية لم نستطع جلبها.”
“السبب؟”
“دخل الخدم إلى جناح سموّ وليّة العهد لتنظيف الغرفة.”
“وهل تأكّدتم من مضمون الرسائل الثلاث؟”
“للأسف لا. اضطررنا إلى طمس الآثار بسرعة والخروج، فلم يتسنّ لنا التأكّد منها.”
أومأ فريدي.
حتى بهذا القدر، كانت النتائج كافية.
فالرسائل المنسوخة تضمّنت أوامر مباشرة صادرة عن المرسِل.
“لكن، لا نملك أيّ طريقة لإثبات أنّ مرسلها هو الأمير الثاني.”
وهذا ما لاحظه فريدي أيضًا.
المطالب كانت واضحة، أمّا هوية المرسِل فظلّت متعمّدة في الظلّ.
بهذه الحال، لم يكن ممكنًا اعتمادها كأدلة.
والأخطر أنّ مجرّد التشكيك في أمير من مملكة أخرى بلا سند قاطع قد يقود إلى أزمة دبلوماسية، و سيلفستر غالبًا لن تخاطر بهذا.
كان من الأفضل أن تحتوي الرسائل الثلاث المفقودة على ما يُدين “سيار” بالاسم.
لكن لا يمكن الانتظار مكتوفي الأيدي إلى ذلك الحين.
“ومنذ البارحة، هل خرج الأمير الثاني من جناحه؟”
“لا، لم يُسجّل له أيّ تحرّك. دخل غرفته وأغلق النوافذ وأسدَل الستائر بالكامل. لم يظهر أيّ خروج.”
“هل دخل عليه أحد؟”
“باستثناء الخدم الذين يدخلون لتحضير الطعام، لم يزره أحد.”
“ألا يُحتمل أن يكون قد تبادل شيئًا مع أولئك الخدم؟”
“احتمال ضعيف للغاية. فالداخلون كانوا خمسة على الأقل، ومن الصعب أن يوجّه أوامر مباشرة في مثل هذا الوضع.”
ظلّ فريدي يطرق بأصابعه على المقعد متفكّرًا، قبل أن يتّخذ قراره: “من الأفضل ألّا نُثير الشبهات أكثر في جهة وليّة العهدة. فلنركّز مراقبتنا على الأمير الثاني.”
صحيح أنّ كشف تورّط فايفيل كان بحد ذاته ثمينًا، لكن لم يحن وقت إظهار تلك الورقة.
فـ “سيار” يملك كثيرًا من منافذ الهرب، ولا بدّ من الإطباق عليه وعلى فايفيل معًا دون ترك أيّ مهرب.
“لنكتفِ لهذا اليوم.”
نهض فريدي عن الأريكة، ولوّح بيده.
فانسلّ الجواسيس من النافذة المفتوحة واختفوا.
انتظر سايـمون حتى اختفوا تمامًا، ثم التفت إلى فريدي الذي كان يُداري عينيه المنهكتين.
“سيدي ، هل تنام جيّدًا هذه الأيّام؟”
في تلك اللحظة، طفا في ذهنه السبب الحقيقي لحرمانه من النوم.
ذلك الكابوس المروّع، حيث يرى موت شخصٍ ما مرارًا.
فتقلّصت ملامحه وهو يتذكّر، ما جعل سايـمون يُلحّ أكثر: “متى كانت آخر مرّة غفوتَ فيها بعمق؟”
“…….”
“إن كنتَ تخشى التعرّض لشيء هنا، فدعني أحرس المكان. لكن جَرّب إغماض عينيك ولو قليلًا.”
أبدى فريدي انزعاجًا من إصراره.
فقد كان مقتنعًا أنّ كوابيسه ليست سوى انعكاس لفرط توتّره، وأنّه متى حُلّت الأزمة، ستزول معه.
تجاهل سايـمون، وتوجّه إلى مكتبه ليُراجع الوثائق.
أطلق سايـمون أكثر من تنهيدة قصيرة، ولحق به وهو يحاول لفت انتباهه: “سيدي، أرجوك، الإفراط في الإجهاد سيضرّ بك—”
لكن فريدي لم يلتفت إليه.
وقف جامدًا أمام المكتب، شاخصًا إلى شيء هناك.
خشِي سايـمون أنّه أغشي عليه واقفًا، فسارع نحوه.
إلّا أنّ عينيه اتّسعتا حين رأى المشهد: كومة هائلة من الرسائل تغطي المكتب.
إنّها نفس الرسائل التي وُجّهت إلى فريدي منذ زواجه من أوليفيا. لكنّ الفارق أنّ عددها الآن بلغ العشرات، يكفي لملء الطاولة.
“ماذا …؟”
تلعثم سايـمون، مأخوذًا بالكَمّ المذهل.
حتى فريدي نفسه لم يُخفِ دهشته، إذ إنّ الرسالة التي كان من المفترض وصولها اليوم وصلت بالفعل صباحًا.
خلال أكثر من نصف عام، كانت الرسائل تصل بانتظام في أوقات محدّدة، لم يسبق أن تخلّفت أو تعدّت النمط.
فكيف اجتمعت دفعة واحدة بهذا الشكل؟
وفوق ذلك، ما زال المُرسِل مجهولًا.
لا خَطّ يد أوليفيا ولا أيّ علامة منها ظهرت.
والآن تنهال بهذا الشكل؟
هل يُعقل أن لا علاقة لزوجتي بها؟
فالكمّ كان ضخمًا لا يُكتب في بضعة أيّام.
يبدو أنّه جُمع خلال أشهر.
لكن أوليفيا، وهي في هيستر، لا يمكن أن تكون كاتبته.
قطّب جبينه، ومدّ يده إلى إحدى الرسائل ففتحها.
تمزّقت بخفّة، وقرأها بتركيز.
لحسن الحظ، لم تحتوِ على شيء خطير.
كالعادة، المرسِل بدا مرحًا ومشرقًا، وتاريخ الرسالة يتبع مباشرة رسالة الصباح.
فتح رسائل أخرى، فلاحظ أنّ التواريخ تسلسلت لتغطي بقية أيّام سبتمبر، ثم الشهر الذي يليه، بل والذي بعده أيضًا.
“هل استمرّت الرسائل بالوصول؟”
كان سايـمون يظنّ أنّها انقطعت منذ أن أمر فريدي بالكفّ عن البحث.
لكن يبدو أنّها لم تنقطع قط.
والأغرب أنّ فريدي بدا مألوفًا جدًا مع طريقة التعامل معها.
“سايـمون.”
“نـ-نعم؟”
“أحضِر حقيبة كبيرة تكفي لحملها جميعًا، وتكون مزوّدة بقفل. لا أريد أن تُفتح عشوائيًا.”
“حالًا!”
خرج سايـمون على عجل، تاركًا فريدي وحده بين الرسائل.
ظلّ يُرتّبها في صمت، وهو عاجز عن تفسير سبب تراكمها المفاجئ.
جلس إلى مقعده، ممسكًا بإحداها، وظلّ على حاله حتى عاد سايـمون.
***
كانت ستائر غرفة سيار مُسدلة بإحكام، فلا يتسرّب منها الضوء.
على السرير، أطلق ضحكة خفيفة، سرعان ما تحوّلت إلى قهقهة عالية.
مراقبة رجال فريدي له لم تكن متوقَّعة، لكنّه لم يعد يكترث.
و أنتونيا التي لم تمت فورًا كانت مفاجأة، غير أنّ الوقت في صالحه.
فذلك السمّ لا علاج له، ولن يكتشف أحد أنّه مزيج من عشبتين.
ثمّ إنّه لا يوجد دليل يربطه بموتها المرتقب.
وما دامت شبهة ريفر لم تُرفع، فإنّ موت الأميرة سيُلصق به الجرم حتمًا.
أي أنّ الخطة قد نجحت.
لكن ما يُبهجه أكثر من ذلك هو أنّ نهاية التحالف باتت قريبة.
سمعة أوليفيا تغرق في سيلفستر ، ولن يبقى أمامها سوى العودة إلى فرنسا.
مع أنّ الحقيقة أنّها لن تذهب إلى هناك أصلًا، بل إلى بلدٍ آخر معه.
ها قد لاحت النهاية حقًا.
“هاه، فيا … كم طال الانتظار”
لم يبقَ سبب واحد ليكبح سعادته.
صحيح أنّ مراقبة فريدي له مزعجة، لكنّه قادر على تحمّلها.
فالأهم أنّ الرسائل التي كتبها جيمس وصلت إليه كاملة، بلا خطأ.
أخرج سيار الرسالة التي جاءه بها جيمس في زيارته البارحة، وفتحها مجددًا مبتسمًا.
التعليقات لهذا الفصل " 77"