ارتخت قبضتها على الرسالة التي كانت تمسك بها.
لو سألها أحد عن شعورها بعد قراءة ما تجاهلته طويلًا، لما كان الجواب سوى الفراغ والخيبة.
كانت متأكّدة أنّ الرسائل التي أحرقتها وألقتها بعيدًا مليئة بنفس الكلمات المكرّرة.
‘ترى، هل كانت “ليف” في عالم ذلك الرجل المجهول تُجيب على كلّ رسالة من هذا النوع؟’
إن كان الأمر كذلك، فربّما لهذا لم تُهدَّد الأميرة أنتونيا، ولم يُتَّهم ريفر ظلمًا.
“آه… آه…”
تساقطت أنفاس متقطّعة من بين شفتي أوليفيا.
وأخيرًا اعترفت في نفسها.
صحيح أنّ إرادتها لم تكن حاضرة، لكنّ كلّ ما جرى وكلّ ما تبدّل كان قد انبثق من وجودها.
كلّ ما أرادته هو أن تفعل أيّ شيء لإنقاذ فريدي.
لكن لم يكن هناك شيء يمضي كما تشتهي.
أينما وُجدت، لم تجلب له سوى الأذى.
حين استيقظت هنا أوّل مرة، كان هدفها واضحًا: إنقاذ فريدي.
أمّا الآن، فقد بدا ذلك الهدف باهتًا، وكأنّه يتلاشى.
بل صارت تؤمن أنّه لو اختفت ببساطة، لكان فريدي أسعد حالًا.
دفنت وجهها بين كفّيها.
لم تنزل دموعها، بل تركت نفسها تجرفها تيّارات اللوم القاسية المتزاحمة في رأسها.
كان ذلك هو السبيل الوحيد للهروب في هذه اللحظة.
ومتى بدأت تلك المشاعر في الغرق، لم يبدُ لها أنّها ستطفو ثانيةً إلى السطح.
***
“الدوق هيستر؟”
رفع فريدي رأسه المرهق نحو مَن تجلس أمامه، ولم يلبث أن تذكّر.
إنّها ولية العهد ، فايفيل.
لقد رتّب بنفسه جلسة الشاي هذه ليُقيّد حركتها، وليتأكّد بنفسه من التحقيقات.
“أعذريني.”
قالت فايفيل بلهجة لطيفة وهي تراقبه: “تبدو مُتعَبًا. هل واجهت مشقّة في الإقامة بالقصر الملكي؟”
أجابها بابتسامة خفيفة نافيًا، رغم أنّه لم يكن بخير.
فقد ظلّت تطارده كوابيس الموتى.
كان يظنّ أنّها ستنتهي سريعًا، لكنّها استمرّت.
بل ازدادت وضوحًا، حتى صارت ملامح الشخص الذي يظهر فيها تتجلّى له شيئًا فشيئًا.
وأمس فقط، خُيّل له أنّه لمح لون شعره.
تذكّر خصلاته المتطايرة بهدوء قبل أن يبتلعه البؤس، فتغيّر وجهه بلا وعي.
لاحظت فايفيل ذلك و أمالت رأسها باستفهام. فسارع إلى ترتيب تعابيره، عائدًا إلى هدوئه المعتاد.
“أظنّكَ متعبًا من كثرة الأشغال، ومع ذلك قَبِلتَ أن تُمضي وقتكَ معي. يُسعدني ذلك.”
“أهكذا تقولين؟”
“منذ زواج التحالف، لم تتح لنا فرصة للحديث على انفراد.”
لم تُظهر فايفيل اعتراضًا على فتوره.
بل كانت مسرورة بقضاء هذه اللحظات الخاصّة معه.
فمنذ التحالف أبقى بينهما مسافة، لكنّه الآن دعاها بنفسه.
ولشدّة حماسها، لم تستطع أن تتفحّص عمق نيّاته.
ابتسمت وسألته: “برأيكَ، إلى أين سيمضي هذا التحالف؟”
“من يدري.”
لم يمنحها الجواب الذي أرادته، لكنه أيضًا لم يكن سيئًا.
لو قال إنّه سيُحافظ على التحالف أو يمدح فرنسا، لأثار غضبها، لكنّه لم يفعل.
“لو فكّرنا في سيلفستر … وفي الأميرة أنتونيا، أليس من الأفضل قطع العلاقة مع الدوقة؟”
“…….”
“لا تفهمني خطأ. إنّه مجرّد رأي، فلا تُرهق نفسك به.”
غلفت طلبها المباشر بغطاء يبدو وكأنّه حرص على المملكة والأميرة.
لكن فريدي لم يرَ فيه سوى سذاجة مغلّفة، فاكتفى بابتسامة ساخرة مكتومة.
لقد أراد إنهاء الحديث منذ زمن.
فهو لم يجد مع فايفيل سوى أحاديث فارغة مليئة بالعداء لأوليفيا.
وكيف يمكن أن يطيقها وهو يعرف مشاعرها تجاه زوجته؟
لكن فايفيل شعرت باضطراب في قلبها.
‘هل سينتهي وقتنا هكذا؟ بعد طول انتظار؟’
فحاولت بأيّ وسيلة إبقاء الحديث حيًّا.
“ما جرى مع الأميرة … جعل وجود بعثة فرنسا في القصر مزعجًا.”
ثم رمقته نظرةً عميقة: “لا بدّ أنّ الدوق أيضًا يجد لقاء الدوقة أمرًا ثقيلًا؟”
“ولِمَ يكون كذلك؟”
“آه … صحيح. بعد الحادثة لم تلتقيا أصلًا، فلا وقت لتشعر بالضيق.”
غير أنّه بدا غير راغب في متابعة الموضوع، فغيّرت مسار كلامها سريعًا.
“على أيّة حال، بعد أن يُسوّى الوضع، ستزور القصر الملكي أكثر من قبل، أليس كذلك؟”
“إن استدعاني جلالة الملك، فسآتي.”
“أتمنّى أن تقيم فيه أطول، كما كنتَ في صغرك.”
استحضر فريدي الماضي للحظة، لكنه لم يجد فيه سوى فراغ.
فقد كانت طفولته زمنًا من الفقدان والتشرّد في القصر، زمنًا قاسيًا بلا ذكريات عزيزة.
“القصر فارغ من الناس، ويبعث في النفس وحشة.”
همست فايفيل وهي تمرّر يدها على كفّه فوق الطاولة.
فانقبض وجهه، وسحب يده بعيدًا بصرامة.
بقيت يدها معلّقة في الهواء، بلا شيء تمسكه.
لكنّها تابعت مبتسمة، وكأنّ شيئًا لم يكن: “الدوق أيضًا أسرتي. في مثل هذه الأوقات، أليس وجود العائلة ضروريًّا؟”
“…….”
“ثمّ إنّك بلا عائلة أخرى. لا تُثقل على نفسك.”
تفتّحت عينا فريدي على حقيقتها.
الآن فقط فهم سبب كراهيتها لأوليفيا، ولماذا حاولت الإطاحة بها.
كانت مشاعرها عكرة، ملتصقة به بلا نقاء.
بدت له قذرة ومقزّزة، إذ تُظهرها هكذا أمام قريب زوجها.
في تلك اللحظة، وصله إشعار من رجاله أنّ التحقيقات انتهت.
فنهض قاصدًا الانصراف.
ولاحظت فايفيل عزمه، فغامت عيناها الرماديتان.
“أتدري يا دوق؟ قبل خطبتي إلى أندرو، وصلك طلب زواج مني.”
“حقًّا؟”
“لم تكن تعلم إذن.”
“لم يكن الزواج في بالي يومًا، فلا بدّ أنّي رفضت بلا تفكير.”
تجمّد وجهها.
تردّدت قليلًا ثم تساءلت بمرارة: “إذن، لماذا قبلتَ سريعًا زواج التحالف مع فرنسا؟ كان بوسعنا نحن أن نقدّم مثله.”
“من يدري.”
أدرك فريدي أنّ أيّ كلمة قد تُستغلّ.
ومع ذلك، لم يشأ ترك مجال لرغبتها في إزاحة أوليفيا.
فقال بلهجة محسوبة: “أظنّني وقعت في حبّ زوجتي منذ أن رأيت صورتها لأوّل مرّة.”
ظلّت تحدّق فيه لحظة، وكأنّها لم تفهم.
ثمّ، حين استوعبت، ارتجفت شفتاها بقوّة.
ابتسمت ابتسامة هشّة وقالت: “أظنّ أنّ وقت لقائنا انتهى.”
“اتّفقنا. سأغادر الآن.”
“… حسنًا، عد سالمًا.”
انحنى لها بانضباط، وغادر بخطوات حازمة لا تعرف التردّد.
وبعد أن مضى وقتٌ على خروجه، لم تتمالك فايفيل نفسها.
ارتعش جسدها وأطاحت بفنجان الشاي البارد.
تحطّم الكوب متناثرًا تحت الطاولة.
أثار الصوت العالي هرولة الخدم خلف الباب.
“سموّ الأميرة! هل حصل شيء؟”
تطلّعت إليهم بعين باردة، ثم أجابت بصوت هادئ دافئ: “لقد أسقطتُ الكوب عن طريق الخطأ. تفضّلوا، نظّفوا المكان.”
دخل الخدم سريعًا وجمعوا الشظايا بعناية، دون أن يشكّ أحد في أنّ الأميرة قد هشّمت الكوب غضبًا.
كلّ ما راودهم هو القلق إن كانت قد جرحت يدها.
التعليقات لهذا الفصل " 76"