“لن يمرّ وقت طويل قبل أن تعود الاعتذارات والتعويض المناسب على اعتقال صهري علنًا. غير أنّ الجاني الحقيقي لم يُقبَض عليه بعد.”
“… الجاني الحقيقي هو.”
أراد ريفر أن يقول إنّ سيار متورّط في هذه القضيّة، غير أنّ كلمات فريدي سبقته.
“نعم. ما أتوقّعه هو الأمير الثاني، وكذلك وليّة العهد.”
خرج اسمان، أحدهما متوقَّع والآخر لم يخطر ببال أحد.
اتّسعت عينا ريفر من الدهشة، لكنّه سرعان ما تماسَك وأخفى ملامحه، ثم أومأ برأسه.
“لكن ليس لدينا أيّ دليل، وهذا ما يُتعبنا الآن. لذلك، إلى أن يحين ذلك، هل يمكن لصهري أن يبقى هنا كمتّهم رئيسي؟”
حرّك ريفر شفتيه متردّدًا على طلب فريدي. في مثل هذا الموقف، كان يكفي أن يُبلّغه بالأمر فحسب.
لقد وقعت مصائب كثيرة بسبب حكمه المتسرّع، وكان فريدي يتجاوز طاقته أصلًا.
ومع ذلك ظلّ فريدي يطلب منه الأمر بوجهٍ مفعم بالاحترام. إزاء هذا الاعتبار، أومأ ريفر مرّتين برأسه.
“إن كان في ذلك نفع، فلا بدّ أن أوافق.”
“أشكرك. لن يطول الأمر قبل أن أجد الدليل وأقبض على الجاني الحقيقي.”
نهض فريدي وريفـر من مقعديهما في الوقت نفسه.
تفحّصا الغروب من وراء النافذة، ثم نظرا إلى الساعة.
“حان وقت طعامك قريبًا إذن. سأتركك الآن.”
“أشكرك على وقتك.”
خطا فريدي بضع خطوات نحو الباب، ثم التفت قائلًا بصوت خفيض: “وبالمناسبة، زوجتي بخير.”
“حقًّا؟”
“خشيتُ أن تكون قد أجهدت نفسها مؤخرًا، فنصحتُها ألّا تزور القصر في هذه الفترة. فلا تحزن لذلك كثيرًا.”
ارتسمت ابتسامة لطيفة على فم ريفر عند سماع ذلك. لم يُحوِّل نظره عن فريدي وهو يجيب: “يطمئنّ قلبي حين أعلم أنّ الدوق يهتمّ بفيا.”
كانت كلماته مشوبة براحة لم يشعر بها من قبل.
أومأ فريدي إشارةً إلى أنّه سمع.
“… إن جدّ جديد في الوضع، فسأعود إليك.”
بعد أن خرج، أسند ريفر يده إلى خصره وأطلق زفيرًا قصيرًا.
ثم حرّك رأسه يمنةً ويسرة وهو يستعيد الحوار الذي دار مع فريدي للتوّ.
***
في اليوم التالي، وجدت أوليفيا نفسها أمام عشرات الرسائل المتراكمة وصحف اليوم.
رغم أنّ معظم خدم قصر هيستر حاولوا التستّر على حادثة محاولة تسميم الأميرة، إلّا أنّ تلك الأخبار وصلت إليها على أيّ حال.
لم ترَ ذلك بعينيها، لكن كان واضحًا أنّ الناس الغاضبين من الحادثة بدؤوا يتجمّعون أمام بوابة القصر.
صحيح أنّهم لم يتجرّؤوا على الدخول، غير أنّ تجاهلهم لم يكن ممكنًا.
تنفّست أوليفيا تنهيدة خفيفة وفتحت الرسائل بهدوء.
أغلبها حملت رغبةً في معرفة موقفها من الوضع.
كان من دعاها يرغب بلقائها مباشرة، لكنّها لم تُجب بالموافقة على أيّ دعوة.
فالخروج في مثل هذا الظرف لم يكن ملائمًا.
بعد أن رفضت آخر دعوة، حوّلت نظرها إلى الصحيفة. لا شكّ أنّ العائلة الملكيّة في سيلفستر تُحاول كبح المعلومات …
لكن يبدو أنّها لم تتمكّن من إيقاف الشائعات المتسربة.
لم تُذكر تفاصيل دقيقة، لكن انتشرت مقالات تزعم أنّ شخصيات مهمّة من فرنسا متورّطة في الحادثة.
مجرّد التفكير في العواقب القادمة أوجع رأسها.
غمغمت وهي تقبض جبينها من الألم، حين سمعت مجددًا صوت اصطدام بشبّاكها كما في الأمس.
فتحت النافذة، فدخلت “المرسلة رقم 4” إلى غرفتها.
بعد تحيّة سريعة، سلّمتها رسالة أمر فريدي أن توصلها.
لكن على عكس الأمس، بدا على وجهها بعض التردّد، إذ تذكّرت ما كتبته في رسالتها الأخيرة له.
كانت تعلم أنّ فريدي، بطبيعته الهادئة، لن يصرخ أو يهدّد، لكنّه سيطلب منها حتمًا التوضيح، ولذلك حاولت تجهيز نفسها.
حين هدأ خفقان قلبها، فتحت أوليفيا الرسالة.
وكان ما بداخلها موجزًا وبسيطًا.
فريدي يشرح الوضع الراهن: الحوار مع الملك يسير بإيجابية ، وريفر سيُبرّأ قريبًا.
كما أنّ كلماته ظلّت رقيقة مليئة بالاهتمام بقلقها.
قرأتها مرارًا، من البداية إلى النهاية، دون أن تجد فيها أيّ تلميح مخفي أو لهجة مختلفة.
لم يكن فيها أدنى إشارة إلى سؤالها عن علاقتها بـ باروس أو كونا، ولا حتى شكٌّ تجاهها.
قبل لحظات كانت تتساءل كيف ستقرأ رسالته، لكن الآن، سؤال آخر شغلها: لماذا لا يسألني عن شيء؟
زادها ذلك اضطرابًا فوق اضطرابها.
وبعد أن التقطت أنفاسها، التفتت إلى المرسلة وسألت: “هل قال فريدي شيئًا آخر أو طلب تبليغًا إضافيًّا؟”
فكّرت المرسلة قليلًا، ثم أجابت بما أوصاها فريدي أن تنقل: “آه، قال صاحب السموّ إنّ عودته إلى قصر هيستر ستتأخّر قليلًا.”
“… كم تقريبًا؟”
“أسبوعًا أطول مما كان متوقّعًا.”
كان ذلك كلّ ما خرج عن توقّعها.
“وهل لم يترك أيّ سؤال خاص لي؟”
هزّت المرسلة رأسها نفيًا.
أعادت أوليفيا نظرها إلى الرسالة.
“وهل طلب منّي ردًّا؟”
“لم يذكر شيئًا من ذلك.”
شعرت بطَعم مرارة في فمها.
فالرسالة صيغت بدقّة لا تدعو إلى أيّ ردّ. وفي ظلّ هذه الظروف، لم يكن يليق أن تُثقل كاهله وهي تعرف انشغاله.
أخفت مشاعرها وأمرت المرسلة: “مفهوم. لا حاجة لردّ اليوم، يمكنكِ العودة.”
وحين غادرت كما جاءت بصمت، جلست أوليفيا إلى مكتبها ممسكةً الرسالة. ثم سحبت ورقة جديدة وأمسكت بقلمها، وبدأت تدوّن ما استجدّ من أحداث.
كانت تُقارن ما جرى بما ورد في رسائل “الرجل المجهول”.
1. ليلة الزفاف
2. بيت دوق يال
3. تحسين العلاقات
“….”
4. محاولة تسميم الأميرة أنتونيا
ثم صنّفت أيّ تلك الأحداث كان بفعل تدخّلها وأيّها وقع من دون قصدها.
وبينما تُراجع بدقّة، تذكّرت حدثًا لم يرد قط في رسائل الرجل المجهول: الرسالة التي وصلت إلى سيار بعد تأجيل زيارة بعثة فرنسا.
إدراكها لذلك جعلها تهبّ واقفة، خارجة من غرفة النوم الزوجية.
ارتبك أحد الخدم وسارع للحاق بها: “صاحبة السموّ! إلى أين تذهبون؟”
حاول إلقاء شال على كتفيها، لكنّها لم تُجب وتوجّهت مباشرة إلى مكتبها.
بدأت تبحث عن رسالة سيار التي أُرسلت إليها. كانت شبه متأكّدة أنّها لم تحفظها رسميًّا، فقد كانت غير رسميّة.
أحدثت فوضى في المكتب تقلب الأدراج بلا اكتراث، إلى أن عثرت أخيرًا على رسالة سيار الأخيرة.
ظلّ الختم الشمعي سليمًا، فمزّقته دون تردّد، وقرأت ما بداخلها بسرعة:
[ إلى محبوبتي فيا.
ما زلتِ لا تجيبينني.
لقد قيل لي إنّك تتلقّين رسائلي، فهل لا تقرئينها؟
أم أنّك تخشين أن يكتشف الدوق رسالتك إن كتبتِ؟
لقد قلتُ لكِ من قبل، إن كتبتِ فقط، فستصلني رسالتك. لديكِ مكتب منفصل ، فليس عسيرًا أن تردّي.
لماذا لا تُبدين أيّ فعل؟
ألا تشعرين أنّي أصبر عليك؟
لقد حذّرتك ألّا تتجاهليني.
أما يقلقك أمر عائلتك في فرنسا؟
أنتِ أدرى بأن حتى بيانكي الجبّارة يمكن أن تُحاصَر.
إن تجاهلتِ رسالتي وكلامي مرّة أخرى، فحينها …
لا أعلم ما قد أفعله.
لتكن هذه آخر محاولة للتمرّد.
آمل حين نلتقي قريبًا، ألّا يكون بيننا إلّا حديث سار.
استقبليني بضحكةٍ على وجهك]
التعليقات لهذا الفصل " 75"