شدّت أوليفيا قبضتها على القلم حتى ارتجفت يدها.
لكن تردّدها لم يدم طويلًا، وسرعان ما امتلأت ورقة الرسالة بخطّ يدها.
‘ما سيأتي لاحقًا، سأفكّر فيه لاحقًا. الآن لا أرجو سوى ألّا يرهق فريدي نفسه.’
وضعت النقطة الأخيرة، ثم سلّمت الرسالة مختومةً إلى العميلة رقم 4.
“رجاءً، أوصليها إلى فريدي.”
“مفهوم. وإذا كتب سموّه ردًّا، فسأعود بالطريقة ذاتها.”
أومأت أوليفيا برأسها، ثم اختفت العميلة من وراء النافذة المفتوحة.
تدفّق الهواء البارد عبر الغرفة، ومع أوّل لسعةٍ من نسيم الصباح، تجعّد وجه أوليفيا.
لكن السبب لم يكن البرد.
ولا كان التفسير الذي ستضطر لاحقًا لتقديمه لفريدي.
بل كان شيء آخر … صِلة ملعونة لم تنقطع منذ عالمها السابق: علاقتها بسيار.
فقد أدركت على الفور أنّ مصدر السمّ هو سيار.
فهو نفسه من استعمل ذلك السمّ في عالمها الماضي.
وبمجرّد أن قفزت الفكرة إلى ذهنها، انفجرت مشاعر مكبوتة في صدرها.
‘أيّ حقدٍ دفين يحمله تجاهي حتى يُصرّ على إيلامي بهذا الشكل؟’
منذ البداية كان يهاجم كلّ من حولها، كأنّه يقطع أطرافها واحدًا تلو الآخر.
وهذه المرّة، وقع سهمه على أنتونيا وريفر.
ذكرياته المؤلمة معها أخذت تنبش في جراحها القديمة.
وما لبثت أن غزتها فكرة مخيفة: ‘ماذا لو … في هذا العالم أيضًا، كان سيار سببًا في موت فريدي؟’
اهتزّت روحها خوفًا.
فهي التي عانت من سيوفه، والآن باتت ترتعد من أن تصيب طعناته فريدي.
كانت تعرف أنّ التفكير في هذه المخاوف لن يمنحها إجابة، لكن عقلها ظلّ يدور في دوامة مظلمة.
لا تدري كم مرّ من الوقت وهي واقفة هناك.
وحين بزغ الفجر، غمرت أشعّة الشمس غرفتها.
ومع أنّ المكان أضاء، فإنّ صدرها بقي حالكًا.
قلبها المحترق لم يشفُ، وانعكس ذلك على قسماتها المنطفئة.
حاولت أن ترسم ابتسامة، لكن بلا جدوى.
لقد تجمّد جسدها من مواجهة الريح الباردة طويلًا، حتى ازرقّت شفتاها وارتجف بدنها، دون أن تشعر بذلك حقًّا.
***
استيقظ فريدي فجأة على صوت ضوضاء وهو جالس على مكتبه.
ألقى نظرة مرهقة حوله، فرأى الكتب المبعثرة أمامه، كتبٌ عن الأعشاب الطبيّة كان سيار قد قرأها.
حين لمح من النافذة أنّ الليل لم ينجلي تمامًا بعد، أدرك أنّه غفا لحظة.
“هاه …”
مرّر يده بعصبية عبر شعره وهو يضغط على عينيه المنهكتين.
فالكوابيس التي رآها لم تكن عاديّة.
كان هناك فوهة بندقيّة موجهة نحوه.
امرأة ما اندفعت نحوه قبل أن ينطلق الرصاص، ووقفت أمامه، ثمّ اخترقت جسدها الطلقة بدلًا عنه.
لا يزال صوت الطلق يطنّ في أذنيه، ولا تزال حرارة الدم اللزج تلتصق بأنامله كأنّها حقيقة.
هو الذي لم يكن يحلم عادةً، ما الذي جعله يرى كابوسًا كهذا؟
لم يعرف حتّى مَن هي تلك المرأة، ولا متى وقع مثل هذا المشهد … ومع ذلك ارتجف جسده كأنّه يواجه ذكرى مدفونة.
‘أنا… خائف؟ ممّ؟’
لم يجد جوابًا.
غطّى عينيه بيده، وتنفس بعمق مرّات متكرّرة، منتظرًا أن تهدأ رعشته. ثمّ حاول أن يطرد الحلم من رأسه ويكمل مراجعة الكتاب.
لكن بصره وقع على ظرف ورديّ مألوف.
ظنّ في البداية أنّه جواب من أوليفيا، لكنّه سرعان ما تذكّر: لو كان منها، لكانت العميلة رقم 4 تنتظره أمام النافذة.
إذًا ، لم يكن سوى تلك الرسالة المعتادة التي تصله دائمًا.
ارتسم ظلّ خيبة عابرة على وجهه، قبل أن يفتحه.
「إلى فريدي العزيز ،
كيف كان يومك؟
هل واجهت إزعاجًا أو همومًا؟
آمل أن يكون يومك هادئًا بخلاف أيّامي …
لقد عمّت الفوضى بسبب قضيّة التسميم الأخيرة بين النبلاء.
في البداية اعتقد الجميع أنّهم ماتوا بالتهاب رئوي، لكن تبيّن أنّهم جميعًا قُتلوا بالسمّ.
كان أمرًا مرعبًا.
والمزعج أكثر أنّ جميع الضحايا كانوا قد تقدّموا بخِطبتي من قبل.
لذا راجت شائعة قبيحة: من يرسل لي طلب زواج ، يموت.
… لم أذكر ذلك سابقًا لأنّني، مثل الجميع، ظننت أنّها وفيات طبيعيّة.
لكن الحقيقة ظهرت: إنّه تسميم.
وطالبت العائلات المكلومة بتحقيق فوري.
لحسن الحظ، تبيّن أنّ السمّ ليس له علاقة بعائلتي، فزالت الشبهة، لكن سمعتنا قد تلطّخت بالفعل.
السمّ مؤلّف من مزيج نادر: عشبة باروس من المناخ الحار، وعشبة كونا من المناطق الباردة.
شيء يُفترض أن يُستخدم للشفاء صار أداة للقتل.
يا له من ابتكار وحشيّ.
… ربّما لا تحبّ سماع قصص مظلمة كهذه.
لكن مزاجي في الآونة الأخيرة يغرق في الكآبة، ولا أعرف السبب.
قد يكون لأنّ رسائلك تغيب، أو لأنّ أيّامي تتشابه.
عذرًا، لقد أرهقتك بتفاهاتي.
أعدك أنّ رسائلي القادمة ستكون مليئة بالفرح فقط.
لأنّ سعادتي الحقيقية تكمن في أن تكون سعيدًا.
18 سبتمبر 1817، في منتصف الخريف. 」
جمّد فريدي مكانه للحظة وهو يقرأ، ثم أسرع يقلب صفحات الكتب.
حتى توقّف عند مقطع يصف الباروس والكونا، تمامًا كما في الرسالة.
لم يتأكّد بعد إن كان هذا هو السمّ ذاته، لكنّه تشبّث بالخيط الوحيد الذي يملكه.
وما كان منه إلّا أن ينهض ليبلغ الطبيب فورًا.
وقبل أن يخطو بعيدًا، طرق أحدهم نافذته.
حين فتحها، وجد العميلة رقم 4 عائدة من هيستر.
“يا صاحب السموّ، سلّمتُ الرسالة كما أمرتم. وهذه هي رسالة الجواب من سموّ السيّدة.”
تردّد فريدي لحظة قبل أن يأخذها. ثمّ فتحها في الحال.
انتشرت رائحة مألوفة، رائحة خفيفة تذكّره بأوليفيا.
ومع كلّ سطرٍ مكتوب بخطّها الدائريّ اللطيف، ارتسمت ابتسامة هادئة على وجهه.
لكن لم تمضِ لحظات حتى تغيّر وجهه إلى الصرامة.
「… ابحث في أمر الباروس و الكونا.
سأخبرك لاحقًا من أين علمت.
حين تعود إلى هيستر، سنناقش كلّ شيء.
لكن الآن، الأهمّ أن تتعافى صاحبة السموّ الأميرة. 」
تجمّد فريدي وهو ممسك بالرسالة.
ثم عاد ببطء إلى مكتبه، بسط الورقة الوردية أمامه، وزفر نفسًا متهالكًا.
“هاه …”
الآن، لم يعد الأمر مجرّد معرفة أوليفيا عن الأعشاب.
بل إنّ خطّها، طريقتها في رسم الحروف، حتّى عادة إطالة الكلمة الأخيرة …
كلّها متطابقة مع الرسائل الأخرى التي تصله منذ البداية.
التعليقات لهذا الفصل " 72"