عندما سمعت أوليفيا سؤال ديف، بدت متردّدةً للحظة، لكنّها هزّت رأسها بعد قليل.
“كلّ ذلك أصبح من الماضي، أليس كذلك؟”
بالطبع، لن تتحوّل الأيّام الصعبة التي مرّت بها إلى أمر لم يحدث، ولن تختفي كلّ التجارب التي عاشتها.
ومع ذلك، فقد أصبح كلّ شيء على ما يرام منذ اللحظة التي أدركت فيها أنّها هي من أحبّها فريدي، ذلك “السيّد المجهول” الذي هو فريدي نفسه، وأنّ بإمكانها البقاء إلى جانبه.
“وعلى الرّغم من أنّني لم أُظهر ذلك، كنتُ خائفةً من اقتراب اليوم الذي سأضطرّ فيه لمغادرة فريدي. لكن إن كنتُ أنا ‘ليف’، فلا داعي للمغادرة، أليس كذلك؟”
كان القلق الأكبر الآن هو ما إذا كان فريدي بخير.
تتذكّر أنّ سيار أطلق النّار واندفعت نحو فريدي، لكنّها لا تعرف ما حدث بعد ذلك، ممّا جعلها تشعر بالإحباط.
كأنّه قرأ أفكار أوليفيا، خفّف دايف من قلقها وقال: “لا داعي للقلق، فريدي بخير.”
تنفّست أوليفيا الصعداء عند سماع كلامه.
“هذا حقًا مريح.”
نظر ديف إلى أوليفيا ثمّ إلى السّماء، ثم عاد إلى موضوع الحديث الأصلي وسألها: “إذن، يا أوليفيا، هل تقولين إنّ كلّ هذا لا بأس به؟”
“سيصبح كلّ شيء على ما يرام.”
كان جوابها يقترب من اليقين.
قد لا تختفي كلّ الأمور التي مرّت بها بين ليلة وضحاها، لكنّها كانت تعتقد أنّ هذا اليوم سيصبح يومًا تستذكره يومًا ما.
وعندما يحين ذلك الوقت، ستتمكّن من الحديث عنه بابتسامة عريضة.
والأهمّ من ذلك، أنّها الآن ترى لحظاتها المستقبليّة مع فريدي أمام عينيها، فلا وقت لديها للحزن.
بدلًا من الانغماس في الماضي، كان من الأفضل أن تسعى وراء المستقبل مع فريدي.
“ومع ذلك، لابدّ أنّكَ أعددتَ الكثير من التّبريرات، فلنسمعها إذن.”
***
استمرّ شرح ديف لوقت طويل.
تحدّث ببطء ووضوح ليجعل أوليفيا تفهم، وبفضل شرحه، تمكّنت من استيعاب كلّ ما مرّت به.
نظرت أوليفيا إلى ديف، الذي كان يلتقط أنفاسه، واختصرت ما سمعت: “إذن، أنا وفريدي هما الرّوحان اللتان تلقّتا السّعادة والشّقاء في لاهوت سيلفستر، صحيح؟”
أومأ ديف برأسه مرّتين. نظرت إليه أوليفيا وسألته: “في النّهاية، هذا يعني أنّ معلّمي ضحّى بنا لتجنّب فنائه، أليس كذلك؟”
يا لها من طريقة لاختصار قصّة طويلة!
بهذا الشّكل، بدا ديف وكأنّه حاكم عاجز وأنانيّ.
ولم يكن ذلك خاطئًا تمامًا.
فالحاكم كائن يفنى إذا توقّف البشر عن الإيمان به. وفي النّهاية، لتجنّب الفناء، تسبّب في أن يمرّ أوليفيا وفريدي بتجارب هائلة.
“لكنّ العالم لم يسِر وفق خطّة معلّمي، وظهرت متغيّرات مثل الأمير سيار والأميرة فايفيل، فبدأ العالم ينحرف، صحيح؟”
كان من المفترض أن يسير العالم بسلاسة، لكنّ ظهور سيار و فايفيل، وهما كائنان خارجان عن توقّعاته، غيّر كلّ شيء.
كائنان خارجان عن مصيره.
هكذا كانا.
في ذلك الوقت، لم يُعر ديف اهتمامًا كبيرًا لهما، لكنّهما في النّهاية هزّا حياة أوليفيا وفريدي وقاداهما إلى الهلاك.
كانت لحظات مروّعة حتّى عند استرجاعها.
بما أنّ العالم قد اكتمل، لم يعد بإمكان ديف التدخّل. فالحاكم ينتمي إلى خارج العالم، وهو بذلك مستثنى من قانون السّببيّة. لكنّ البشر ليسوا كذلك.
البشر جزء من العالم، وبالتّالي يتأثّرون مباشرةً بقانون السّببيّة.
إذا تدخّل حاكم يعارض قانون السّببيّة مباشرةً، فمن الطّبيعي أن ينحرف العالم.
لذلك، لم يوقف ديف سيار و فايفيل، لكنّهما دمّرا العالم في النّهاية.
أومأ ديف برأسه، فخرج من فم أوليفيا تنهيدة مكتومة.
من البداية، كان هذا مجالًا لا يمكنها فهمه مهما فكّرت.
كان من السّخيف أن تكتشف أنّ كلّ ما حدث لها بدأ من خطأ صغير لشخص ما.
توقّفت أوليفيا عن التّفكير ونظرت إلى ديف.
بعد لحظة، سألته عن شيء لم تفهمه: “إذن، ما العلاقة بين المكان الذي جاءت منه رسائل فريدي، والمكان الذي كنتُ أعيش فيه، وهذا المكان الآن؟”
بناءً على شرح ديف، بدا لها أنّه من المستحيل أن يكون قد صنع عالمًا آخر.
أومأ ديف برأسه عند سماع سؤالها وتابع: “… أردتُ تحمّل مسؤوليّة خياراتي.”
كان وجهه يعكس شعورًا عميقًا بالذنب و التّأنيب.
“لذلك، أضفتُ عالمًا آخر خلف العالم المحطّم. أردتُ التّكفير عن ذنبي تجاهكما بأيّ طريقة. ربّما أردتُ أيضًا أن أشعر بالرّاحة وأنا أراكما تعيشان من جديد.”
كان صدق ديف واضحًا في كلّ كلمة يقولها.
كان من الملحوظ مدى شعوره بالأسف تجاه أوليفيا وفريدي.
“بالطّبع، بما أنّه عالم لا يفترض أن يوجد، تدخّل قانون السّببيّة. ولهذا السّبب وصلت إليكِ رسائل ‘السيّد المجهول فريدي’.”
قال ديف إنّه لم يتخيّل أن يحدث شيء كهذا.
ولهذا، لم يتمكّن من التعامل مع ما كان يحدث لأوليفيا.
عندما سألته أوليفيا في البداية إن كان بإمكانها استقبال “رسالة بعد ثلاث سنوات”، لم يرَ ديف أنّ ذلك مشكلة كبيرة.
لكن، لعدم تمكّنه من التّخلّص من قلقه، غادر ليتحقّق من الأمر.
في غيابه عن جانب أوليفيا، استمرّت الرّسائل بالوصول، وردّت هي على رسائل “السيّد المجهول” بإخلاص.
ربطت الرّسائل بينهما، وفي النّهاية، أحبّت أوليفيا فريدي كما كان مقدّرًا.
وكان من الطّبيعي أن تيأس من موت من أحبّته.
“حتّى الأمر الذي قمتُ به بنيّة التّكفير عن ذنبي تجاهكِ انحرف.”
وفي النّهاية، اختارت أوليفيا الموت بنفسها.
كانت النتيجة أكثر بشاعة ممّا سبق.
وكان ذلك، مرّة أخرى، بسبب خيار ديف.
لقد كرّر الخطأ ذاته مرّتين.
“في تلك اللحظة، شككتُ في وجودي، وقرّرتُ أن أحرّركما من هذا الإطار الظّالم والبائس.”
ومع ذلك، ظلّ ما يستطيع ديف القيام به محدودًا. فإذا تدخّل بشكل قسريّ، قد تموت أوليفيا وفريدي.
لكن، بعد فترة وجيزة، أدرك أنّ هناك فرصة.
لقد قلّ تدخّل قانون السّببيّة بشكل ملحوظ.
“كان سبب تقلّص تدخّل قانون السّببيّة هو موتكما.”
قال ديف إنّه بعد أن أدرك هذه الحقيقة، عاد إلى الزّمن بعد زواج أوليفيا وفريدي مباشرة، حيث بدأت كلّ الأقدار تتشابك.
منح أوليفيا ذكرياتها السابقة ضمن حدود لا تتدخّل فيها السّببيّة، فتمكّنت من حلّ مشاكلها مع فريدي بمرونة.
وأعطى فريدي الرّسائل التي كتبتها أوليفيا، ليساعده على إدراك مشاعره بشكل أسرع.
“لذلك، رسائلي …”
أدركت أوليفيا أخيرًا سبب وجود رسائلها هنا.
كما فهمت أنّهما كانا يجتهدان تحت السّطح ليجدا مصيرهما وفق تصميم ديف.
“إذن، إخباري بكلّ هذا يعني…”
“نعم، لقد عاد كلّ شيء إلى مكانه الصّحيح.”
قال ديف إنّ العديد من الأقدار التي لم تكن أوليفيا تعرفها قد تغيّرت.
أخبرها أنّ كلّ ما مرّت به، سواء بثبات أو بشجاعة، لم يذهب سدىً.
“والأهمّ، أنّ السّعادة والشّقاء اللذين منحتهما لكما قد اندمجا في هذا العالم بعد ثلاث حيوات.”
كان هذا يعني أنّ أوليفيا وفريدي لن يواجها مشاعر متضاربة أو يفقدا السّيطرة على عواطفهما بعد الآن.
“ستتمكّنان، مثل أيّ أرواح عاديّة، من الشّعور بالسّعادة أحيانًا وبالشّقاء أحيانًا أخرى، وستعيشان حياتكما.”
“هذا حقًا مريح.”
“كلّ ذلك بفضلكما.”
انحنى ديف بصدق نحو أوليفيا وحيّاها.
“أشكركما على سماعكما لخياراتي الجاهلة والأنانيّة، ولأخطائي.”
إذا سأل ديف عما إذا كانت تلومه، فالإجابة كانت لا.
صحيح أنّه كان نقطة البداية لكلّ الأحداث، وأنّ أوليفيا وفريدي عانيا بالكامل بسبب خياراته.
لكن، أليس من الإهدار أن تقضي وقتها في لومه وكرهه؟
والأهمّ، أنّ أوليفيا كانت قادرة على مسامحته فقط لأنّها حصلت على فرصة لتحبّ فريدي من جديد.
“لا أعرف بماذا يفكّر فريدي، لكن أودّ أن أقول هذا:”
“….”
“لقد كافحتَ بجدّ، يا معلّم.”
عند سماع تعزية أوليفيا، أطلق ديف ضحكة خافتة وهو يحني رأسه.
كان يتلقّى التعزية من إنسانة! لم يكن ذلك لائقًا، لكنّه كان مريحًا نوعًا ما.
التعليقات لهذا الفصل " 104"