9
رغم أن المطعم كان يعجّ بالناس أيضًا، إلا أنه لم يكن وقت الذروة، ولحسن الحظ، وُجد مقعد شاغر.
طلب يوستار غرفة جانبية صغيرة تكاد تكون مستودعًا، وأصرّ على الحصول عليها حتى إنه دفع مبلغًا إضافيًا، ولم تدرك لايلا أنه فعل ذلك من أجلها إلا بعد أن أغلق الموظف الباب وخرج.
“على الأقل أثناء تناول الطعام، يجب أن تشعري بالراحة انزعي القُبَّعة.”
قال يوستار، فنظرت لايلا إلى الباب المغلق لوهلة، ثم خلعت قُبَّعتها أخيرًا لم تكن الطاولة منخفضة فحسب، بل لم تكن نظيفة أيضًا، ومع ذلك، إذا قورنت بالغرفة التي خرجا منها قبل قليل، فيمكن القول إنها كانت مريحة إلى حد ما.
«ولا حتى عنكبوت.»
فكّرت لايلا.
“هل هناك طعام تحبينه؟”
سأل يوستار، فهزّت لايلا رأسها وكأنها تقول: “ما أغرب هذا السؤال!”، ثم حرّك هو الجرس مناديًا الموظف مجددًا فُتح الباب قليلًا وأطلّ منه الموظف برأسه.
“أحضر لنا حساء اليوم وطبق العشاء، لا حاجة إلى المشروبات الكحولية، بل احضر بدلًا منها كأسين من عصير فيه فواكه أو ماء نقي، إن وُجد.”
كانت لايلا تخشى أن يفتح الموظف الباب فجأة على مصراعيه، فينكشف وجهها لكل من في الصالة، لكن لحسن الحظ لم يحدث ذلك.
سجّل الموظف الطلب بسرعة على ورقة صغيرة، ثم أغلق الباب بعنف واختفى، بطريقة بدت جافة نوعًا ما.
“عادةً من يستأجر مثل هذه الغرف يكونون ممن يعقدون صفقات مشبوهة، لذلك لا يرغب الناس في التورّط معهم.”
أوضح يوستار استوعبت لايلا تفسيره، لكنها ترددت قليلًا: هل من اللائق أن تُظهر له أنها لم تنزعج من سلوك الموظف منذ البداية؟ أم من الأفضل أن تلتزم الصمت؟
ومع ابتعاد الغرفة الصغيرة عن ضوضاء الخارج، حصلت لايلا أخيرًا على فسحة للتفكير.
أغلب ما شغلها كان ما سيحدث لها بعد الآن كانت هذه المرة الأولى في حياتها التي تتساءل فيها عن مستقبلها، فكان شعورًا جديدًا وغامضًا في آنٍ معًا.
أما يوستار، فبدا أنه غارق في أفكاره بدوره، لكن لايلا لم تكن تملك أي وسيلة لمعرفة ما يدور في ذهنه.
وصل الطعام بسرعة يبدو أنهم قد أعدّوه مسبقًا ويقومون فقط بتسخينه عند الطلب لم يكن الخبز طازجًا، وقطع الخضار في الحساء بدت رخوة ومهترئة.
ورغم ذلك، ما إن شمّت لايلا رائحة الطعام، حتى اجتاحها جوع شديد.
“لم أرَ طعامًا كهذا منذ وقت طويل.”
ما إن قالت لايلا ذلك، حتى رفع يوستار رأسه ناظرًا إليها وهو يتذوّق ملعقة من الحساء.
كان قد لفّ شعره الطويل ورفعه إلى الخلف على شكل كعكة حتى لا يتدلى في الوعاء وغياب خصلاته الطويلة عن عينيها غيّر ملامحه بشكل ملحوظ.
وبعد لحظة من الصمت، قال يوستار:
“ما الذي تعنينه بالضبط بـ’طعام كهذا’؟ تقصدين أطباق اللحوم؟”
“نعم، صحيح أطباق اللحوم تحديدًا حين كانت أمي على قيد الحياة، كانت أحيانًا تطهو لنا أرانب أو حمام جبلي، لكنني لم أكن جيدة في الصيد.”
في الحقيقة، لم تكن المشكلة في الصيد بقدر ما كانت في معالجة الفريسة وتنظيفها، لكنها تعمّدت إغفال هذا الجزء.
لسبب ما، شعرت أن ابنة ساحرة مثلها قد يُفهم كلامها على نحو خاطئ غير أن يوستار بدا مستمتعًا بكلامها.
“إذًا عشتِ طوال تلك المدة على حساء الأعشاب، واليقطين، والجزر، والخس من الحديقة؟ مع الخبز الذي تخبزينه بأنفسك؟”
شعرت لايلا بأنه يمازحها، لكنه لم يكن مزاحًا مزعجًا… وأرادت أن تردّ عليه بذكاء، لكنها كانت تدرك جيدًا أنها ليست بارعة في هذا النوع من الكلام، لذا أجابت بصدق:
“في الخريف، كنا أحيانًا نصطاد بعض السمك تذكر الغابة التي التقيتُك فيها؟ خلفها يوجد وادٍ صغير.”
“مذهل لا تجيدين الصيد لكنك تعرفين الصيد بالأسماك؟”
“إذا وضعت فخًّا مائيًّا، فالأمر يصبح بسيطًا.”
أومأ يوستار برأسه.
“فخ مائي، سمعت عنه لكنني لم أرَ واحدًا من قبل يقال إن السمكة يمكن أن تدخل إليه ولكن لا تستطيع الخروج، أليس كذلك؟ أعلم المبدأ، لكنه لا يزال يدهشني كل مرة أسمع به.”
نظرت إليه لايلا باستغراب.
“أنت حقًا… ما هويتك؟”
كان يوستار قد قطع قطعة من الخبز وغمّسها في صلصة الطبق اللحمي، ثم مال برأسه قليلًا.
“ألم أُخبرك من قبل؟”
“أعلم أنك فارس تابع لتنظيم تينتينيلا لكن…”
تلاشت كلمات لايلا، فابتسم يوستار ابتسامته المعتادة التي لا تحمل نية سيئة.
“تعتقدين أنني أخفي شيئًا، أليس كذلك؟”
لم تُجب لايلا والحق أنها كانت تعتقد ذلك، لكن الاعتراف به صراحةً منحها شعورًا غريبًا، كأنها تُسيء إليه بلا مبرر، أو كأنها تختار عمدًا طريقًا متعبًا مليئًا بالحواجز…
شعور بالذنب بلا دليل، وانقباض داخلي كلسعة شوكة في الفم.
ربما لا ينبغي لي أن أسأله أكثر من هذا.
فكّرت لايلا بل شعرت وكأن هناك شيئًا داخلها يُحذّرها أو يضغط عليها.
أنا فضولية، لكن يبدو أن الوقت لم يحن بعد لمعرفة الحقيقة إذًا فلننتظر…
ننتظر؟ إلى متى؟ ولماذا؟
قالت لايلا فجأة:
“أنت غريب نوعًا ما هل هذه العبارة تُعتبر وقاحة؟”
ارتسمت على شفتي يوستار ابتسامة خفيفة تحمل في طياتها شيئًا من المكر.
“يعتمد على الشخص، لكن بالنسبة لي لا بأس عمومًا، ما الذي جعلك تقولين إنني غريب؟ بأي شكل؟”
أثناء بحثها عن كلمات مناسبة، ضغطت لايلا بطرف شوكتها على قطعة من اللحم لم تستطع تمييز إن كانت من خنزير أم بقرة.
ولاحظت حينها أن الطبق نفسه مكسور من طرف، والشوكة قد تقشّر طليها وامتلأت بالخدوش وراودها إحساس غريب بأن هذا المشهد يشبهها نوعًا ما… مما منحها شعورًا بعدم الارتياح.
قالت لايلا:
“من الصعب شرح الأمر، لكن… كيف أقولها… أشعر أنك تُشوش أفكاري لا، بل أنت تُشوشها فعلًا أنا متأكدة من ذلك.”
ازداد تعبير يوستار غرابة بدا وكأنه ممثل بانتومايم لم يقرر بعد إن كان عليه أن يضحك بصوت عالٍ أم يتخذ موقفًا جديًا وجامدًا.
[ بانتومايم : هو فن التمثيل الصامت ، مثل تمثيل قصص باستخدام تعابير الوجه ، وحركات الجسد دون التكلم ]
كأنما يتساءل: ما نوع الأداء التالي الذي سيخدع الجمهور بالكامل؟
قال بصوت خفيض يحمل شيئًا من الدعابة:
“هذا ما يقوله من يقعون في الحب، في العادة.”
رغم نبرة المزاح، إلا أن صوته كان رقيقًا وأنيقًا بما يكفي لأن يجعل أي فتاة عادية تحمرّ خجلًا.
لكن لايلا لم تحمرّ بل نظرت إليه بجمود دون أن تتفوه بكلمة.
ضحك يوستار بخجل، ثم ارتشف رشفة من مشروبه كان قد أضاف إليه القليل من الليمون، على ما يبدو، لكنه لم يكن لذيذًا.
“كنت أمزح لا تبدين ممن وقعوا في الحب من أي ناحية نظرنا إليك.”
أجابت لايلا فورًا:
“سواء كانت مزحة أم لا، لا فرق فأنا لا يمكنني الوقوع في الحب على أية حال.”
“ومن قال هذا؟”
“أمي.”
قالتها وكأنها تقصّ شريطًا بقاطع حادّ، ثم أخذت رشفة من مشروبها هي الأخرى. لم يكن لذيذًا كذلك.
نسي يوستار طعامه تمامًا، وأسند ذقنه إلى كفه ناظرًا إلى لايلا بفضول ظاهر.
“وأنتِ، لايلا… أي نوع من الأشخاص تعتبرين نفسك؟”
“لا أظنك تسأل لأنك تجهل الجواب… أليس كذلك؟”
“بل أجهله فعلًا، ولهذا أسأل.”
تحركت يد لايلا التي كانت تمسك الشوكة قليلاً كانت الشوكة تنزلق ببطء كأنها تهمّ بالتقاط حبة بطاطس مهروسة أكثر من اللازم، لكنها توقفت عند حافة الطبق بإصدار صوت خافت.
“أمي كانت تقول إن الساحرات لا يحتجن للوقوع في الحب، لذا فهن لا يستطعن أن يحببن.”
في تلك اللحظة، انطلق صوت ضحكة مفاجئة لقد كان يوستار هو من ضحك.
“هل هذا القول مضحك إلى هذه الدرجة؟”
“من يدري القول بأن المرء لا يستطيع الحب لأنه لا يحتاج إليه… إن كان كلام والدتك صحيحًا، فكيف وُلدتِ أنتِ؟”
قالت لايلا بجدية:
“قالت إن الحب ليس ضروريًا للتكاثر وأنا أتفق معها في ذلك، رغم أنني لا أعرف الكثير.”
“يا له من تعبير مباشر ومثير للاهتمام أن لا يحتاج المرء إلى الحب، أوافق على هذا لقد سمعت أيضًا أن الساحرات حافظن على أنسابهن بهذه الطريقة لكن هذا لا يعني أنهن غير قادرات على الحب الأمران لا يمكن اعتبارهما مترادفين.”
ومع نهاية كلامه، رمش بعينيه بشكل خفيف مازح استخرجت لايلا من كلماته سؤالاً آخر أثار فضولها، لكنها قررت ألا تطرحه الآن.
***
بعد أن أنهيا وجبتهما، تجوّل الاثنان قليلاً في شوارع المساء التي بدأت تزدحم بالناس، ثم عادا إلى النُزُل.
كانت آلم قدم لايلا قد هدأت بعض الشيء، لكنها أدركت الآن أن امتلاء المعدة لا يزيل التعب بل إن ثقل جسدها بعد الأكل جعلها تشعر بإرهاق أكبر وكان لديها أيضًا مشكلة أخرى.
“لايلا، ما بك؟ هل أنتِ بخير؟”
لاحظ يوستار أنها بدأت تُنزل رأسها شيئًا فشيئًا تحت غطاء الرداء، فسارع إلى دعمها وسألها بقلق. كانت لايلا قد رأت من بين الناس بعض الظلال السوداء الغامضة والمبهمة، فأخفضت بصرها مجددًا.
بعض تلك الكائنات لم تلحظ وجودها ومضت، لكن بعضها الآخر اقترب منها كثيرًا حتى وصل إلى طرف أنفها.
كان رجل منتفخ العين إلى حد أن عينه الوحيدة المتبقية غطت نصف وجهه، يلاحقها بنظراته المثبتة عليها بإلحاح، حتى إن لايلا لم تستطع رفع رأسها.
حبست أنفاسها وهي تكافح الشعور بالغثيان، وهمست بصوت خافت:
“…إنهم كُثر… ألا تشعر بهم؟”
“آه، تعنين الأرواح؟ نعم، أشعر بهم وجودي بجانبك يجعل الأمر أوضح من المعتاد… بل ويمكنني رؤيتهم، وإن لم يكن بشكل واضح تمامًا، لأني لا أرتدي المونوكل الآن هل تشعرين بالإعياء؟ هل أُقلّك على ظهري حتى النُزُل؟”
هزّت لايلا رأسها نفيًا، فكاد غطاء رأسها يسقط، لكنها أمسكت به بسرعة.
“أنا بخير أظن أنني أستطيع المتابعة على هذه الحال لكن، بجانبي…”
في تلك اللحظة، اقترب الرجل الذي كان يتبع لايلا إلى أن أدخل عينه الوحيدة الضخمة إلى أسفل وجهها مباشرة شهقت لايلا دون أن تشعر وتوقفت في مكانها.
دارت عينه المنتفخة بشكل دائري، ثم حدّقت مباشرة في وجه لايلا بدا وكأنه على وشك الكلام، ففتح فمه، فرأت داخله حفرة مظلمة ممتلئة بأسماك فاسدة متحللة.
وقبل أن تنطلق الصرخة من فم لايلا، سُمع صوت يوستار:
“اعذريني.”
وفي تلك اللحظة، شعرت لايلا بأن أطراف قدميها قد انفصلت عن الأرض وارتفعت في الهواء.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 منتدى المانهوا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 منتدى الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 9"