بينما كانت لايلا في المكتبة، كان يوستار يتناول غداءً بسيطًا وهو يتلقى تقرير هيميرد المتعلق بحفل ميلاد أود.
كان الخبز المنتفخ على المقلاة الحديدية الساخنة يفوح برائحة الزبدة العطرة اللطيفة والمائلة للحلاوة، أما حساء الكريمة المطهوّ بالمحار النهري الذي لا يُصاد إلا في الشتاء، فكان يدفئ جوفه بلطف.
“انتهى اليوم اجتماع لجنة تخصيص ميزانية الديوان الداخلي، يا صاحب السمو الأمير يبدو أنّها أكبر من ميزانية العام الماضي سأبلغ وزير الإدارة بإرسال النسخة الموجزة إليك.”
“لم يكن ثمة داعٍ لتكبير حجمها.”
حدّقت هيميرد به كما لو كانت تتساءل عمّا إذا كان جادًا.
“هذا غير ممكن، يا صاحب السمو فهذا أول احتفال بميلاد جلالة الملك بعد زواجكم النبلاء الذين يفرضون نفوذهم في مختلف المقاطعات سيجتمعون جميعًا في القلعة الملكية، وبما أنّ خبر زواج سموّك قد انتشر، فسيجتمع عدد أكبر من الناس وقد أخذ الديوان الداخلي هذا بعين الاعتبار أثناء وضع الميزانية.”
حرّك يوستار الحساء بملعقته بخفة، ثم هزّ رأسه حركة قصيرة.
لم يكن راغبًا حقًا في جعل لايلا محطّ الأنظار، لكن… باستثناء الأحداث الصغيرة، فكما قالت ماركيزة هيميرد، سيكون من الصعب تجنّب الاهتمام في عيد ميلاد الملك الأول بعد زواجه.
“غير أنّ…”
وتلاشت نهايات كلماتها في تلك اللحظة، أنزل يوستار الملعقة التي كان يهمّ برفعها إلى فمه، ونظر إليها.
“غير أنّ ماذا؟”
“من غير الواضح ما إذا كان جلالته سيتمكّن من حضور حفل ميلاده أم لا.”
رمش يوستار بعينيه وأنزل الملعقة من يده ثم أطلق تنهيدة قصيرة وأسند ظهره إلى الكرسي لم تستطع هيميرد أن تُخفي مرارتها وهي ترى وجهه المليء بالقلق.
“في العام الماضي تمكّن جلالته من الظهور ولو بصعوبة، لكنني لستُ واثقًا من الحال هذا العام كما تعلمين، تتفاقم أعراض جلالته كلما أقبل الشتاء.”
همّت هيميورد بقول شيء لكنها أطبقت شفتيها في النهاية وكان ذلك اختيارًا حكيمًا، إذ سرعان ما غاص يوستار في أفكاره حول مرض أود، فانخفض مزاجه على الفور.
“…وماذا عن سيدة كريسيراد؟”
رفع يوستار نظره إليها بعد لحظة كان يحدّق فيها في الفراغ.
“بأي معنى تسألين؟”
“أسأل بصفتي من فرسان تنتينيلّا.”
ارتجفت أطراف أصابعه قليلاً. ولحسن الحظ، كان ذلك مخفيًا تحت مفرش الطاولة فلم تره هيميرد.
“إنها تبلي بلاءً حسنًا لو لم نعثر على لايلا لكان هناك جبل من الأمور التي لم أستطع حلّها.”
ارتجفت زاوية شفتي هيميرد بخفة.
“لا أظنّ ذلك ، لا شك أن وجود سيدة كريسيراد جعل بعض الأمور أكثر سهولة، إلا أنّ سموّك وحده حافظ على أمن سيرو طوال كل تلك السنوات دون الاعتماد على أحد.”
ابتسم يوستار بسخرية خفيفة.
لم تكن هيميرد تعلم.
هكذا فكّر.
لم تكن تعلم ماذا يجول في خاطره كلما واجه الـسينك، أو حين يقف أمام الظواهر الغريبة التي لا تنتهي. لو علمت، لربما انفجرت غضبًا عليه بكل صدق.
كان يتساءل أحيانًا عمّا إذا كانت جميع هذه المشكلات نابعة منه هو.
فمع أنّه نسي الأمر معظم الوقت، إلا أنّه في ليالي الشتاء الطويلة حين تمنعه الهمسات المشؤومة وتلك اللمسات التي تمرّ عند ياقة ثوبه من النوم، كانت الأفكار السلبية تتسلل إليه طبيعيًا كالألم الذي يتسرب عبر الجراح وكان من حسن حظه أنه لم يكن ذا طبع يستسلم للاكتئاب.
“لو كان لديّ قدرات كسيدة كريسيراد، لتمكنت من تقديم مساعدة أكبر لسموّك ”
كان صوتها منخفضًا وجادًا، يحوي مع ذلك مسحة خفيفة من الخجل والارتباك.
والحقيقة أنّ هذه الكلمات ظلّت حبيسة صدرها لوقت طويل منذ اللحظة التي أحضر فيها يوستار لايلا إلى القلعة الملكية، ومنذ اللحظة التي أطاع فيها أمر ملك أود بالزواج منها دون اعتراض.
لكن يُوستار صدّ رغبتها الملحّة بابتسامة رقيقة حدّ القسوة.
“أنتِ تقدّمين لي مساعدة كبيرة أصلًا، يا ماركيزة هيميرد كما أنّ صورتك الحالية تليق بك أكثر أفضل من أن ترتدي الزي الرسمي وتقاتلي الوحوش.”
ثم واصل يُوستار تناول طعامه أما نظرات هيميرد التي ارتدت إليه فكانت تتأرجح بين ضباب من اللوم وفرح متناقض.
كانت مستعدة لفعل أي شيء من أجله.
فهي لم تخلف الوعد الذي قطعته لنفسها قبل أكثر من عشر سنوات، ولن تخلفه مستقبلًا.
سواء كان معه أيّ شخص، وسواء بقي بجواره من يبقى وكما قالت للايلا، لم يهمّها من يقف إلى جانب يُوستار.
لكن لايلا بالتحديد لم تكن مقبولة
لم تكن لتسمح بأن تتربع ساحرة ذات عينين حمراوين إلى جانب الرجل الوحيد الذي سيصبح ملكها.
***
كانت فروع تِنْتِينيلّا تُقام في العادة قرب مجرى نهرٍ كبير أو بحيرة واسعة، وذلك لأنّ المناطق التي تحوي رطوبة مائية تجتمع فيها كميات كبيرة من الطاقات المختلفة، بما فيها الطاقة السحرية.
أي إنّ الفروع كانت موزّعة في الأماكن التي يكثر فيها حدوث الـسِينك أو يُرجَّح حدوثه بدرجة عالية.
كان الفرع الخامس من تِنْتِينيلّا، كيرون، يقع عند مجرى سولاروس، أطول أنهار المملكة، في منطقة المصبّ حيث يلتقي النهر بالبحر.
وفي المواسم كثيرة الأمطار، كانت مياه النهر المتضخّمة تختلط بمياه البحر وتغمر الأراضي المجاورة، لذلك تكوّنت على أطراف النهر سُدود مرتفعة رُفِعت تربتها عمدًا.
وكان كيرون ينتصب كبرجٍ شاهقٍ فوق أعلى نقطة من ذلك السدّ، حتى إنّه كان يلوح من مسافة بعيدة.
“سيدي الرئيس!”
استدار الشاب ذو الشعر الأحمر على وقع صرير الحديد كانت وجنتاه منتفختين تكادان تنفجران من قطعة الخبز التي كان يقضمها للتوّ، وكان شعره الأحمر المضفور إلى الخلف يمنحه مظهرَ فتى في السابعة عشرة.
رفع رئيس فرع كيرون، فيليكس، رأسه وابتلع الخبز دفعة واحدة، ثم ضرب صدره بقبضته بضع مرات ونظر إلى أحد أفراد الفرع بطرف عينه.
“لا بدّ أنّك تتعمّد الظهور أثناء تناول طعامي، يا رايت هل لديك اعتراض على ما آكله؟”
“لـ… لا، بالطبع لا إنها مجرد مصادفة.”
تنفّس فيليكس ونزل من على مكتبه.
كان قصير القامة وصغير البنية مقارنةً بسنّه، مثل ميغيه أولغا رئيسة الفرع الثاني، غير أنّ ميغيه—بصوتها الرفيع وملامحها الطفولية—لم تكن تُرى إلا كفتاة صغيرة، بينما كان صوت فيليكس عميقًا وغليظًا، صوت رجل بالغ بكل معنى الكلمة.
“ما الأمر؟ تكلّم.”
“اختفى طفل آخر.”
تقطّبت حاجبا فيليكس.
“ثانٍ؟ كم مرّة يحدث هذا في هذا الأسبوع؟”
“القرية مقلوبة رأسًا على عقب.”
وكيف لا تكون كذلك؟ أمسك فيليكس جبينه وكأنه يعاني صداعًا شديدًا.
“هل هو فيشِس مرة أخرى؟”
“كلا، هذه المرّة من كوندون إنها القرية المحاذية لفِشِس من جهة الغرب.”
“اللعنة، لا يمكن فهم ما يجري على الإطلاق مهما شدّدنا الحراسة لا يظهر أي أثر لا بدّ أنه شبح، أليس كذلك؟”
مال رايت برأسه في حيرة.
“ألا يمكن أن يكون مخلوقًا متجسّدًا؟ فالأطفال المختطفون بلا نمط محدد فتيان وفتيات، مبصرون وأقلّ بصرًا، بلا أي تمييز.”
“إن كانت طاقة السِنك كافية، فستؤثّر حتى على الأطفال الذين لا يملكون حدّة بصر عالية لكن لم يُلتقط أي سِنك ضخم في هذه الأنحاء… أقرب واحد يقع خلف النهر، لكنّ ذلك ليس من نطاق اختصاصنا.”
وبشكل أدق، كان من الممكن للفرع الخامس أن يتولّى الأمر أيضًا، لكن رايت ابتلع كلامه.
فقد كان يعلم أنّ توجيه أي ملاحظة صريحة لفيليكس في مثل هذه الحالة—وخصوصًا وهو منزعج ولم يُكمل طعامه—لن يجلب له ردًا لطيفًا.
“لكن، مجرد أنه ليس من نطاقنا لا يعني أننا نقف مكتوفي الأيدي اللعنة، لا أريد التوسّل إلى ذلك الكائن الثرثار.”
كان ذلك الثرثار هي ميغيه أولغا، رئيسة فرع هاباشكا (الفرع الثاني) وكان بين فيليكس وميغيه عداوة شديدة، فكلاهما ذو طبع ناري، وكلاهما لا يتردّد في قول ما يجب وما لا يجب قوله.
“ألا ينبغي أن نرفع تقريرًا إلى سموّ الأمير؟”
خرج من فيليكس زفير طويل.
“لا يروق لي هذا أيضًا أن نركض إلى المقرّ الرئيسي لنشي بهم دون أن نحدّد أصل المشكلة… إذن لماذا نملك فروعًا أصلًا؟ فلينصبوا أجهزة استشعار السِنك في كل مكان وانتهى الأمر.”
كان فيليكس صاحب كبرياء شديد، وكان يمقت اللحظات التي يشعر فيها بالعجز ولم يكن أمام رايت، الذي يعرف طباع رئيسه أكثر من غيره، إلا أن يغلق فمه وينتظر قراره بصبر.
وأخيرًا تكلّم فيليكس.
“تلقي ملاحظة من السيد يوستار أفضل بكثير من طلب المعونة من هاباشكا ارفع التقرير إلى سِرْسيتا.”
تنفّس رايت أخيرًا وقد ظهر الارتياح على وجهه.
“سأذهب حالًا، يا فيليكس.”
عاد صوت صرير الحديد مبتعدًا.
ألقى فيليكس نظرة ضجرة على قطعة الخبز التي بقي نصفها مقضومًا، ثم رماها بعصبية في سلة المهملات.
***
“لقد وعدتِني بنصف ساعة فقط، أحقًا تفعلين هذا بي؟ كنت على وشك إرسال حرّاس القصر للبحث عنك بعدما لم أعرف أين اختفيتِ!”
انحنت لايلا برأسها متعبة من ثرثرة ميل التي لا تنتهي وحين فعلت ذلك، فزعت الوصيفة التي كانت تقفل العقد من خلفها، فأسرعت تفتح المِغلاق من جديد؛ إذ كادت تخنق عنق لايلا من شدة الذعر.
“لكنني عدت قبل غروب الشمس.”
“صحيح أنّ النجوم قد ظهرت في السماء، لكن المهم أنكِ ستتناولين العشاء سموّ الأمير قال إنه ما إن تحضر السيده كريسْراد فسوف يصل فورًا.”
“وهل بلّغتِه؟”
“بالطبع سيلا ذهبت بالفعل لإعلام سموّ الأمير.”
اليوم أيضًا سأبدو كخنزيرة صغيرة مكتنزة، فكرت لايلا.
كان الفستان المصنوع من حريرٍ أسود لامع، والمطرّز بخيوطٍ فضية وألماس، مناسبًا للايلا وللموسم أيضًا
وبعد أن وضعت التاج الدقيق الصغير، وقرطيه المطابقين، والعقد المنسجم معهما، ألوان ضوئية متعددة تلمع على وجنتيها كلما لامسها الضوء.
كان يوستار ينتظرها عند الممر المؤدي إلى غرفتها، حيث تتدلّى لوحة جدارية ضخمة وتقف نقوش بارزة قديمة.
لقد أصبح ذلك المكان، منذ وقتٍ ما، أشبه بموقع الموعد الخاص بين يوستار ولايلا كلما قرّرا الخروج معًا للتنزّه أو لتناول الطعام، كان مَن يصل أولًا ينتظر الآخر هناك دائمًا.
ولمّا خرجت لايلا برفقة ميل، ابتسم لها يوستار ابتسامة لطيفة ولما رأت المشبك الزخرفي مثبتًا على أحد جانبي شعره المصقول بعناية كعادته، شعرت لايلا بنبضة دافئة تخفق في صدرها بلا سبب واضح.
“لقد وضعتَ دبوسًا للزينة.”
قالت لايلا، فازدادت ابتسامة يوستار عمقًا لم تستطع لايلا أن تصرف نظرها عن أطراف أصابعه المرتّبة وهي تعبث بهدوء بجوهرة الدبوس.
“هل يليق بي؟ خطر في بالي أن أجرّبه مجددًا بعد مدة طويلة كنت أضع مثل هذه الزينة كثيرًا في الماضي.”
التعليقات لهذا الفصل " 71"