ما إن تفرّق الناس المذعورون كأفواج من صغار العناكب، حتى خيّم في أرجاء المنزل الساكنة صوتُ شهيق دونوفان، يتردّد فيها على نحوٍ كئيب فشدّ يوستار قبضته أكثر على كتفه وهزّه برفق.
“تماسك نفسك، سيد دونوفان لديّ ما أسألك عنه هل رأيتَ أليس؟”
“رـ رأيتُ… لا، لا. تلك ليست ابنتي…”
وانهمرت الدموع من عيني دونوفان بلا توقف.
فأجبره يوستار على رفع وجهه، ثم ربّت بخفة على خده الذي غاص فجأة من شدة الإرهاق ومع صوت طَرق الخفيف، رفع دونوفان بصره إليه بعينين استعادت قليلاً من عقلها.
“لقد اختِطفت الآنسة لايلا، زميلتي، على يد أليس لا… على يد شيءٍ اتّخذ هيئة أليس رأيتُه متجهًا نحو فينتوسْهيس ما الذي يوجد في فينتوسْهيس؟ أخبرني بكل ما تعرفه.”
“فينتوسْهيس…”
تلوّن بؤبؤا دونوفان بالخوف وهو يتمتم.
“ذلك مكانٌ ملعون.”
“أعرف ذلك ولكنّي أسألك عمّا وقع هناك، ومن الذي أنزل اللعنة فإن كنتَ لا تعلم، فدلّني على شخصٍ قد يعلم الوقت ضيق.”
“الـ اللعنة تلك… لقد سمعتُ حكايتها منذ صغري فقط لكن لم يكن أحدٌ يصدقها… لا يمكن، لا يُعقل… إنها مجرد قصة قديمة لا أكثر…”
ولمّا عاد دونوفان إلى البكاء، لم يتردّد يوستار في زجره بصوت غاضب.
“بسبب تلك القِصّة القديمة وُضِعَت زميلتي في خطر! سواء كانت أسطورةً بغيضة أو حكاية غارغويل، لا يهم! إن كنت تعلم شيئًا، فأخبرني الآن حالًا. هيا!”
ارتجف دونوفان وقد استولى عليه الخوف من حِدّة يوستار، وخرجت منه شهقة مقطوعة شبيهة بفواقٍ مرتعب.
وظلّ يحدّق إليه مبهوتًا بوجهٍ مسحوقٍ تمامًا من الذعر، قبل أن يخفض رأسه ويقول بصوتٍ مخنوق بالبكاء
“نـ نحن… أنا وزوجتي… لقد حصلنا على أليس… في ذلك البيت الخالي في فينتوسْهيس…”
وانطلق من شفتي يوستار نفسٌ متعب، أشبه بزفرةٍ من الإحباط.
***
أخرجت أليس طبق الزينة الذي اسودّ لونه تمامًا، ثم رفعته ودارت دورة كاملة وسط الغرفة تطاير طرف تنورتها البالية مترنّحًا مثل بتلات ذابلة قبل أن يهبط من جديد.
“لم يكن مسموحًا لأحدٍ بالدخول إلى هنا لقد نهى خالي عن ذلك قال إن الأشياء القذرة التابعة لهويرْهيس، بل وحتى الهجناء الذين يعيشون في الخارج، لا يمكنهم دخول فينتوسْهيس بل كان بالكاد يسمح لهم بالاقتراب من القرية لكن هذا المكان… غرفة خالي السرّية… لم يكن عدد النساء من هويرْهيس اللواتي دخلنها بالقليل.”
انقبض حاجبا لايلا إذ لم تدرك ما تعنيه كلماتها فالتفتت إليها أليس وهي تطلق ضحكة حادّة وخفيفة لدرجة تُقشعر لها الأبدان.
“أيتها الساحرة الصغيرة الحمقاء ما زلتِ لا تعرفين ما هي شهوة الإنسان كان خالي رجلًا عظيمًا كان يظفر بنساء هويرْهيس الجميلات دون أن يلحظه أحد وأغلب الظنّ أنّ سيّد هويرْهيس نفسه كان يفعل الأمر ذاته يأخذ فتيات فينتوسْهيس سرًّا… ولعلّ زوجة خالي هي الأخرى قد زارت أحد القصور الخفية في هويرْهيس يومًا ما، من يدري.”
ثم انفجرت أليس ضاحكةً بضحكة عصبية وكأنها سمعت أطرف نكتة في العالم ورأت لايلا عندها أن أطراف أصابعها قد ازرقت واسودّت قليلًا؛ كأنها يدا جثة، أو شمعٍ قديم.
“حين كان خالي يغيب عن القصر أحيانًا، كنتُ أستولي على هذه الغرفة لم يكن يعلم لماذا أحببتها، لكن تخصيص غرفةٍ للقاءات السرّية من أجل ابنة أخيه الوحيدة لم يكن بالأمر الصعب عليه لقد جعلني أعيش هنا… كانت غرفةً جميلة جميلة لدرجة يعجز المرء عن تخيّلها الآن حتى ذلك السرير…”
كان السرير الملتصق بركن النافذة قد اسودّ كالفحم بدا كما لو أنه احترق، ثم بقي واقفًا محافظًا على شكله دون أن ينهار وفوقه تنسدل طبقتان أو ثلاث من خيوط العنكبوت الكثيفة.
“كان مكانًا رائعًا لممارسة الحب.”
تمتمت لايلا التي كانت تصغي لحديثها
“إذن عشيقك هو الذي كان يتسلّل إلى هنا أليس كذلك؟”
“نعم، قال إنه يحبّني قال إنني لا أُستبدَل بأي شيء في العالم… وإنه لن يتخلّى عني أبدًا كنتُ أرسم صورته هنا مرارًا وتكرارًا بالطبع كنت أغطي اللوحات بقماش مطرّزٍ محتشم عندما يدخل خالي أو زوجته لكن خلفه… كان دائمًا وجهه، ذاك الوجه الذي يوقظ رغباتي ما كانوا ليعلموا أبدًا لم يخطر ببالهم قط، أن في غرفتي… في هذه الغرفة الجميلة… كان جسدُ ذلك الرجل القذر من هويرْهيس، عاريًا، مُعلَّقًا في مواضع عدّة.”
“سمعتُ أنكما هربتما معًا إذن لماذا قتلتم كل أهل القرية؟”
نظرت أليس إليها وكأن الأمر يبعث عليها التسلية.
“أيتها الساحرة الصغيرة، من أين سمعتِ هذا الكلام؟”
“أجيبي عن السؤال فقط.”
“يا لها من فتاة شديدة الطباع كنتُ أُوصف بذلك أيضًا… حين كنت صغيرة جدًا.”
كانت أليس تمرّر أصابعها على الشمعدان الذي أوشك على الانهيار، ثم همست قائلة
“هل جربتِ الحبَّ يومًا، أيتها الساحرة؟ أم رغبتِ في أحد؟ أغلب الظن أنك لم تفعلي لقد سمعتُ أن الساحرات الحقيقيات متحررات من تلك القيود يجب أن يكون ذلك صحيحًا… ليظلّ مصيرك هادئًا فالحبّ بناءٌ هشّ، كبيتٍ مُقامٍ على الرمال أدركتُ تلك الحقيقة بعد فراري معه بأقل من أسبوع.”
كانت تداعب الشمعدان كأنها تراه شيئًا عزيزًا، ثم فجأة قبضت على عنقه بأصابعها الهزيلة وما هي إلا لحظة حتى تفتت الشمعدان الذي ظلّ متماسكًا رغم أنه فقد لونه—انهار كما تنهار غصونٌ فاسدة.
توترت لايلا أكثر، مراقبةً كل حركة من حركاتها دون أن ترفّ لها عين إن كانت أليس بشرًا عاديًا، فكانت لايلا مستعدة للاحتماء بالقتال أما إن لم تكن…
—”يا لايلا، استمعي جيدًا لا يمكن للبشر أن يقاوموا قوة الأشباح أبدًا فلا تنظري في أعين أيّ شيء منها لا تدعيها تنظر إليك.”
لكن يا أمي، فكرت لايلا الآن… لم يعد لنصيحتك أي نفع.
وانقبض وجهها كما لو ابتلعت شيئًا مرًّا.
أخفضت أليس بصرها إلى يديها السوداوين وهي تقول بهذيان
“كان يجهل الكثير… الكثير جدًا بل إن دجاجةً في قنّها تعرف أكثر منه، بلا شك لقد ترك هويرْهيس لأول مرة في حياته، والتقى بأناسٍ كثر خارجها، فامتلأ حماسًا وانبهارًا ثم استولى قلبه على امرأة أخرى تركني بكيتُ وتوسلتُ إليه، لكن لا فائدة همس لي مرارًا بأنه يفضّل الموت على رؤية شروق الشمس من دوني … لكن اتضح أنها كلماتٌ قالها تحت دفء السرير فقط حين علم أنّ هناك كثيرات غيري يمكن أن يحتضنهّن، أصبح أبرد من صقيع الشتاء.”
تركها الرجل تتوسل باكية، وحزم أمتعته سرًا وهرب ليلًا تحوّل النزل الصغير الذي كانا يختبئان فيه من أعين الناس—الذي خُيِّل إليها أنها وجدت فيه مسكنها الحقيقي—إلى كابوسٍ ضيّقٍ مظلم.
واصلت أليس حديثها.
“بكيتُ… بكيتُ حتى كدت أموت في تلك اللحظة، قال لي صاحب النزل شيئًا قال إن الرجال كلهم على تلك الشاكلة لا داعي للحزن ولا للخوف لكنني كنت حزينة وخائفة كنتُ لا أزال في العشرين من عمري فقط ولم أكن أعرف شيئًا ظننت أنه لا بد لي من العودة إلى خالي وطلب الصفح منه كنت سأُصفَع على وجهي، لكن لم يكن بوسعي فعل شيء آخر…”
أخرجت من بين الحليّ التي كانت قد خبّأتها سرًا بعضها، ودفعت بها لصاحب النزل أجرةً للمبيت، ثم مشت عبر الطريق الجبلي عائدة إلى فينتوسْهيس.
وفي طريقها، هاجمتها موجة بكاء لا يمكن كبحها، كلما تذكّرت تلك الليالي العميقة التي كانت تركض فيها معه وتشدّ يده نسيم الريح، وحلاوة الريق اليابس على لسانٍ جاف من الخوف والفرح المختلطين…
وعلى مرّ يومين كاملين من التعب والوهن، وصلت إلى أسفل الجبل الذي يمكن منه رؤية فينتوسْهيس كان الليل قد حلّ، والقمر معلّق في السماء.
لكن شيئًا ما كان غريبًا في أجواء القرية لم يكن الأمر مقتصرًا على فينتوسْهيس وحدها، بل حتى هويرْهيس كذلك مشاعل مشتعلة في أماكن متفرقة، ورجال يرفعون أدوات الزراعة وكأنها أسلحة حرب، متجمعين في الساحة ويصرخون بشيء ما.
إنهم يستعدّون للقتال أدركت ذلك رغم إرهاقها ولا شك أنّ السبب هو هي ورجلها.
لأن الاثنين هربا معًا، أصبحا كل طرف يلقي باللوم على الآخر واصبحوا يريدون القتل والانتقام… ولن ينتهي الأمر إلا بعد أن يُباد أحد الطرفين تمامًا.
“عندها فكرتُ أن اختفاء الجميع سيكون أفضل.”
وما إن راودها ذلك التفكير، حتى التفَّ حولها فجأة دخانٌ أسود كثيف صرخت من شدّة الرعب، إلا أنّ لم يكن احدًا يسمع صراخها وحده طائر بومٌ صغير كان جاثمًا على غصنٍ قريب خفق بجناحيه مذعورًا وطار مبتعدًا بسرعة.
اندفع الدخان إلى عينيها، وأنفها، وحلقها نهش جسدها الجريح ونهبه كما لو كان يمزّقه من الداخل وفي اللحظة التي كانت فيها حياتها توشك على الانطفاء، صرخت بكل أحزانها.
وقالت إنّ هذا الألم لا يمكن أن تتحمّله وحدها.
وطلبت منهم… أن يقتلوا الجميع.
استدارت أليس نحو لايلا كان نصف وجهها الذي كان مشوّهًا قد عاد سليمًا.
“حين اختفت تلك الحرب السخيفة، أصبح المكان هادئًا أخيرًا أحيانًا يأتي بعض البشر الأغبياء ويثيرون الضوضاء… لكنني كنت أستطيع التعامل معهم بقوتي لكن والدا هذه الطفلة… لست أعلم هل كنتُ غافلة؟ لقد دخلا إلى هنا، إلى هذا المكان بالضبط… حيث تقفين الآن… وهنا ارتكبا فعلًا وضيعا فعلًا لا يمكن غفرانه.”
وقفت لايلا مذهولة بحق، تحدّق في وجه أليس كان وجهها السليم—ذاك الوجه اللطيف الذي كان سيكون وجه أليس الحقيقية لو لم تُصَب باللعنة—غريبًا ومخيفًا.
وأخيرًا تمكنت من فهم ما قصدته أليس فهمًا كاملًا.
“إذن لعنتكِ انتقلت إلى أليس إلى الطفلة التي لم تولد بعد لأنهما مارسا الحب هنا.”
“بالضبط لقد انتقلت إلى تلك المرأة، والدة الطفلة وما إن حملت، حتى عرفت فورًا أنّ ما في أحشائها فتاة وعرفت أيضًا أنّ شيئًا مخيفًا سيقع فكانت تبكي كل يوم تبكي وتبكي حتى فقدت عقلها وهربت من البيت.”
وبقي دونوفان وحده، يحدّق في طفلته المولودة حديثًا وهي تبكي في المهد، يغمره الاضطراب.
حتى التفكير في البحث عن زوجته لم يستطع فعله فمجرد النظر إلى وجه الطفلة المشوّه كان يجعل خيالات مرعبة تتلبّد في رأسه كغيوم سوداء.
كان يرتجف كلما وقع بصره على الوسادة اللينة المحشوة بالقش لم يتوقف ذلك الاندفاع العميق في داخله… الرغبة التي تلحّ عليه بأن يُنهي معاناة تلك المسكينة.
“لقد فكّر في قتل ابنته كل يوم، لكنه في النهاية لم يستطع ذلك لأن ذلك الرجل كان يفتقر إلى الشجاعة ولهذا عاشت أليس حياتها كلّها وسط السخرية لكن لو لم أكن موجودة… لكانت تلك الطفلة قد شنقت نفسها منذ زمن بعيد.”
التعليقات لهذا الفصل " 65"