فتحت لايلا عينيها وهي مغطّاة بالجراح لم تكن تعلم متى فقدت وعيها، ولا أين هي الآن.
لكن ما إن أدركت أن الغبار الرملي الخشن الذي يلامس خدَّها يدخل إلى أنفها وفمها مع كل شهيق، حتى انتفضت جالسة كمن لُدِغَ.
كان المشهد كله رمادياً لم تقتنع بأن عينيها ليستا في خطأ إلا بعد أن فركتهما مراراً.
كل ما حولها كان رمادياً الأثاث الذي لا بد أنّه كان يستقبل الضيوف ذات يوم بطابع من الأناقة والغرور، السجاد والستائر المعلّقة، وحتى الثريا الضخمة التي تعلّق عليها عشرات الشمعدانات.
“أووه…”
عندما نفضت يدها المتسخة كأنها مغطاة بالرماد، شعرت بألم يجعل فروة رأسها تقشعر على ما يبدو فقد التوت يدها اليسرى وهي تُسحَب، إذ كان رسغها ينبض بالآلم قبضت لايلا على رسغها المرتجف بقوة وهي تتفحص ما حولها.
وفجأة شعرت بالغضب يتصاعد في صدرها كان غضباً اندفاعياً جعلها ترغب في ركل كل ما تراه أو تحطيمه.
وربما كان كل ما تراكم في داخلها طيلة تلك المدة قد وجد أخيراً دافعاً لينفجر الألم، الحيرة، والخوف.
“اخرُج!”
صرخت لايلا بكل ما أوتيت من قوة نحو المشهد الرمادي الفارغ. بقي صوتها صدىً هزيلاً سرعان ما تلاشى. وقد أثار ذلك غضبها أكثر.
“اخرج! اخرج حالاً!”
عندها سمعت صوت شيء يمرّ بخفّة.
كان الصوت قادماً من جهة الدرج الى يمينها من دون أن تفكر، ركضت لايلا باتجاهه قبضتها المرتجفة كانت مشدودة حتى انغرزت أظافرها في راحتها.
ما ذاك؟ أخذت لايلا تفكر وهي تصعد الدرج قفزاً درجتين وثلاثاً في كل مرة هل كانت تلك أليس؟ أم شيئاً يشبه أليس فحسب؟ هل ما زالت أليس الحقيقية موجودة أصلاً؟
لماذا الآن بالذات؟
كان صوت شيء ضخم يزحف على الأرض يقترب ثم يبتعد مراراً شعرت لايلا وكأنها تُسخَر منها وبرغم غضبها، انتابها قشعريرة من ذلك الصوت.
كان الصوت صوت احتكاك جلدٍ بشري عارٍ بشيء ما تذكرت لايلا هيئة أليس التي رأتها في الغابة، حين كانت ممددة كالعارضة وعلى نحو غريب، منبسطة على الأرض كالعنكبوت.
“اخرجي! أظهري نفسك!”
رنّ صوت لايلا مجدداً في الممر الفارغ، ثم تشتت في الفراغ.
وحين أدركت أن الصوت قد اختفى، كانت قد لاحظت أنها دخلت غرفة أحدهم.
كانت تلك الغرفة أيضاً قد فقدت كل لون، وباتت رمادية بالكامل وعلى خلاف الأثاث العتيق والقطع القديمة، علّقت على الجدران لوحات رديئة التنفيذ.
“كنتُ أُعجب بهذه الغرفة في ما مضى.”
استدارت لايلا بسرعة، ملامحها متشنجة وعدوانية.
كانت أليس أو بالأحرى، شيئاً يتخذ هيئة أليس.
على الأقل لم تكن الآن تزحف على أربع، إلا أنّ ذلك لا يعني أنها آمنة.
“من أنتِ؟”
سألت لايلا، فرفعت أليس زاوية شفتيها السليمة بابتسامة مائلة.
“أنا أليس.”
“لا تكذبي.”
“لا، حقاً… وإن أردتِ الدقة، فأنا لستُ كياناً مماثلاً لها تماماً لكنّني أنا وهي نتعايش في الجسد نفسه؛ عندما أنام أنا، تستيقظ أليس، وعندما تنام أليس، أستيقظ أنا هل تفهمين هذا، أيتها الساحرة؟”
هذه المرة ارتسمت ابتسامة على فم لايلا، لكنها لم تكن كاملة كانت غاضبة من نفسها لأنها عاجزة عن السخرية منها بكامل قوتها السبب الخوف.
“سمعتُ عن أمثالك.”
نظرت أليس إليها نظرة تملؤها الرغبة والفضول، وربما السخرية تجاهلت لايلا ذلك قدر ما استطاعت وشدت قبضتها.
“أولئك الذين يتطفلون على أرواح الرضع الذين يتسللون إلى رؤوسهم كالدود، ليستولوا على أجسادهم… تلك الحثالة.”
قهقهت أليس فجأة كانت ضحكة طائشة إلى حد الابتذال ،وفي الوقت نفسه طفولية حدّ البراءة ارتجفت لايلا، إذ أحست كأن شيئاً يضغط على أحشائها من الداخل.
ثم رفعت أليس بصرها نحوها، ولكن حين فتحت فمها للكلام، خرج صوتها ناعماً ومنساباً كالماء، بلا أي حدّة.
“نعم، كما قلتِ أنا مدينة لهذه الصغيرة لم يكن ذلك بموافقتها طبعاً لكن والديها أغضباني فأخذتُ الثمن.”
“أيُّ هراء هذا؟”
ابتسمت أليس بخفة، وفي تلك اللحظة بدأ نصف وجهها المشوّه وكأنه عاد سليماً تماماً رمشت لايلا بدهشة، فعاد الوجه إلى شكله القبيح.
“قلتُ: ما الذي تعنينه؟”
ساد المشهد الرمادي سكونٌ تام، ثم دخلت أليس إلى داخل المكان بخفة تشبه خطوات الراقصات؛ كانت تدندن لحناً خافتاً، وتمشي على أطراف قدميها بخطوات رشيقة كأنها ترتدي حذاء راقصات.
وقفت أمام لوحة لرجل عارٍ، وأمسكت طرف الإطار بأطراف أصابعها.
كان الرجل في الصورة مستلقياً على الأريكة بثقة، لا يستر جسده سوى شال رقيق ينسدل من كتفه عبر صدره.
تابعت لايلا النظر إلى أليس بقلق، تخشى أن تقبّل تلك اللوحة المغطاة بالغبار.
ولم يكن ذلك مستبعداً، فالنظرة التي رمقتها بها أليس كانت نظرة عاشق حقيقي لا ريب فيها.
بعد أن حدقت طويلاً في اللوحة
“سأحكي لك حكاية قديمة، أيتها الساحرة حكاية تعود إلى زمن بعيد، قبل ولادتك بوقت طويل جداً يمكنك الجلوس والاستماع واحرصي ألا تجلسي فوق عنكبوت.”
***
بعد أن سُحِبت لايلا بعيداً، أخذ يُوستار يعدو بأقصى سرعته نحو القرية.
والمثير للسخرية أنه ما إن عاد إلى الشوارع المزدحمة بالناس حتى بدأ جهاز السيكَر بالعمل مجدداً وكأن شيئاً لم يكن وكذلك الحال بالنسبة لبقية الأدوات السحرية.
وبينما هو يتحقّق من جهازه، عضّ على أسنانه بقوة حتى سُمع لها صرير، واندفع باحثاً عن بيت دونوفان.
غير أنّ المدخل كان قد غصّ بأعداد كبيرة من الناس شقّ يُوستار طريقه بينهم عنوة، متجاهلاً شكاوى الذين دفعهم أثناء مروره، إذ لم يكن لديه وقت ليسمع أحداً.
ولمّا دخل المنزل، رأى دونوفان جالساً على الأرض محدّقاً في الفراغ كمجنون فقد وعيه بالعالم ، تسلّل إلى صدر يُوستار شعورٌ ثقيل بنذير شؤم.
“السيد دونوفان.”
وقبل أن يقترب منه، اعترضته امرأة في منتصف العمر.
“من أنت؟ لم أرَك هنا من قبل! لا تقترب من دونوفان إنه ليس في حالته الطبيعية!”
“ما الذي أصابه؟”
“نحن أنفسنا لا نعرف، ولهذا نحن في هذه الحال الطبيب ذهب ليجلب دواءً من الجبل، لكن يا لَلعجب! هل كُسِر رسغه وهو يقطف الأعشاب؟ لا نعلم لماذا يتأخر هكذا لقد سمعنا صرخة مرعبة، وحين جئنا وجدنا دونوفان ملقى على الأرض كان فمه يفيض بالرغوة كالمصاب بتشنّج، فظننتُ في تلك اللحظة أنه قد مات بالفعل “
وازداد قلب يُوستار اضطراباً وهو يسمع روايتها فقد انطبقت تماماً صورة دونوفان المذهول على تلك الهيـئة التي رآها لأليس في الغابة.
لقد رآها فكّر يُوستار لا… لقد رأى ذلك الشيء الذي يسكن داخل أليس، وهو الذي جعل دونوفان على هذه الحال.
“تنحّوا!”
وبدا أن الطبيب قد وصل أخيراً، إذ علا صوت الهمهمة عند المدخل.
صرخت المرأة، تلك التي كانت تمنع يُوستار قبل قليل، معاتبةً الطبيب ومتسائلةً عن سبب تأخره، فيما كان يُوستار قد أدرك السبب؛ الطبيب كان شيخاً طاعناً في السن، وإحدى ساقيه تبدو عاجزة تقريباً.
اقترب الطبيب مترنّحاً نحو دونوفان، ثم سقط جالساً قربه أخرج من حقيبته بضع حبوب صلبة وحاول إدخالها في فمه.
“دونوفان! أفق! أحدهم يساعدني على فتح فمه!”
“سأتولّى ذلك.”
تقدّم يُوستار نظر إليه الطبيب، مستغرباً مظهره الغريب، لكنه تنحّى ليفسح له المجال.
كان فم دونوفان منطبقاً بإحكام، كأنه خُيِّط بخيوط حرير سميكة؛ حتى وهو فاقد الوعي تقريباً، ظلّ يضغط بأسنانه بكل ما بقي فيه من قوة.
أمسك يُوستار بشفتيه ودفعهما للأعلى والأسفل حتى ظهرت الأسنان، ثم وضع أصابعه في الفراغ الضيّق بين أسنانه الأمامية، وحدّق في وجه المريض.
“السيد دونوفان، عليك أن تستعيد وعيك وإلا فسوف يتحطم فكّك.”
في تلك اللحظة حدّق الطبيب بيُوستار وقد اتّسعت عيناه دهشة، وكأنه استشعر ما سيفعله.
وقبل أن ينطق بكلمة، انتزع يُوستار فكّ دونوفان بقوة وبلا تردّد صدر صوت فرقعة واضحة عند موضع المفصل، لكن دونوفان بدا غير شاعر بالألم إطلاقاً.
“ضعه الآن.”
قال يُوستار ذلك ببرود، فارتبك الطبيب للحظة ثم أدخل الحبوب في فم دونوفان وأغلقه مجدداً ودفع رأسه إلى الخلف، فبدأ الحلق يتحرك صعوداً وهبوطاً.
“ما هذا الدواء؟”
“إنه دواء يعيد الوعي فوراً نستخدمه لإيقاظ المغمى عليهم وهو الآن في حكم المغمى عليه، لذا لا ضرر من التجربة لكنني حقاً لا أفهم ما الذي جرى حتى أصبح هكذا لا شيء يهزّه عادةً.”
“إذن لا بدّ أنه أمر لا يُستهان به.”
قال يُوستار ذلك وظن الطبيب أنه يمزح، لكنه كان مخطئاً تماماً.
ظلّت صورة أليس لا تفارق ذهن يُوستار لو رأى أيّ أب ابنته على تلك الهيئة، لانهار قطعاً… والحق أن عدم توقف قلب دونوفان كان معجزة بحد ذاته.
“ه… هاه!”
ارتجّف جسد دونوفان فجأة، ثم انحنى بقوة وهو يسحب نفساً حاداً وما إن رأى يُوستار عينيه ترتجفان باضطراب، حتى أمسك بكتفيه.
“السيد دونوفان، هل تعرفني؟”
نظر إليه دونوفان نظرة تائهة، وارتعشت عيناه بعنف، ثم غطّاهما طيف رقيق قبل أن تنهمر الدموع مثل شلال متدفّق.
وتشبث دونوفان بقميص يُوستار وهو يختنق بالعبرة.
“أ… أليس… هه… أنقذ… أنقذ ابنتي ابنتي…”
تدخّل الطبيب قائلاً
“ما الذي تقوله؟ ما الذي حدث لأليس؟”
ظلّ يُوستار يحدّق في دونوفان ببرود شديد وشفتيه مطبقتين، ثم استدار ببطء ليخاطب الحشد المتجمهر أمامه.
“لديّ ما أتحدّث به مع السيد دونوفان، فابتعدوا جميعاً قليلاً.”
“ومن تكون أنت حتى—”
قاطعهم يُوستار
“اسمي يُوستار هايونموريك جلالة الملك الشرعي، أود هايونموريك، هو شقيقي الأكبر الوحيد لذا سأقولها مرة واحدة فقط ابتعدوا جميعاً.”
التعليقات لهذا الفصل " 64"