ضحك يوســتار ضحكةً تنمّ عن شيءٍ من الإرهاق وهو يلتفت حوله.
على حافة الطريق التي انقشع عنها الضباب تراكمت أشياء رمادية باهتة.
بعضها كانت منقّطة بالسواد، وبعضها الآخر اختلط بالتراب فاسودَّ أو اصفرَّ لونه غير أنّ شيئاً واحداً كان مشتركاً بينها كلّها: كانت عظاماً بشريّة.
وكأنّه شرطيّ عثر على مسرح جريمة مزعجة، وضع يوســتار يدَه على خصره ونفخ على غُرّته فارتفعت للأعلى، ثمّ انحنى والتقط جمجمة كانت عند قدميه ليتفحّصها.
“لا آثار لصدمة قويّة.”
كانت لايلا تراقبه بهدوء وهو يفعل ما يفعل.
كان ينظر إلى الجمجمة كما يفعل الأطبّاء، بنظرة نصفها فضول ونصفها تفكير، وهو يحرّك العظم الذي أصبح منذ زمن بعيد صلباً وبارداً بين يديه.
“يبدو أنّهم تاهوا هنا وماتوا ميتةً طبيعيّة.”
أدارت لايلا نظرها من اليسار إلى اليمين، ثم زفرت زفرةً خافتة.
“لا بدّ أنهم بالعشرات ما نراه هنا فقط هكذا، لكن عدد الضحايا أكبر بكثير.”
قالت ذلك هامسةً ثم أضافت
“الآن فقط أفهم ما قصدتَه بقولك إنّ الأمر ليس هلوسة بل لعنة.”
“صحيح ليس أمراً شائعاً، لكن يحدث أحياناً أن تبقى لعنة معيّنة عالقة وتغطي السِينك أو لعلّ السِينك نفسه يستعمل تلك الطاقة عمداً ليختبئ…….”
خفض يوســتار صوته وهو يبدأ بالمشي.
تبِعته لايلا وهي تتأمّل بتأنٍّ النباتات اليابسة والعُلَّيق.
كانت هذه الأرض فيما مضى مليئةً بكاميليا مزهرة، وكرز، ووردٍ مزدوج الطبقات من الشرق، وزهور الفيلان، تعمّها الروائح في كلّ الفصول أمّا الآن، فما بقي منها لم يكن سوى أغصان ملتوية باردة كالعظام.
كان تجنّب الدوس على العظام أمراً شديد الصعوبة، فالعظام لم تكن على الأطراف وحدها، بل كانت متناثرة في وسط الطريق أيضاً.
تراءى للايلا أنّ بعض مواضع العظام بدا وكأنّ الكلاب البرّيّة نبشتها عندئذٍ راودها تساؤل مفاجئ هل تضيع الحيوانات هنا أيضاً؟
وفي الأثناء واصل يوســتار كلامه
“البحث في ظاهرة السِينك مستمرّ منذ زمن، لكن ما اكتُشِف قليل ولم يمضِ وقتٌ طويل على اكتشاف أنّ للسِينك إرادة، وأنّه أقرب إلى كائنٍ حيّ من كونه ظاهرةً ومع ذلك لا نستطيع تعريفه ككائن كامل…… رغم أنّ لديه رغبات.”
“إذا كان لديه رغبات، فينبغي عدّه كائناً حيّاً في رأيي.”
التفت يوســتار إليها قليلاً وابتسم ابتسامةً لطيفة.
“لو نظرنا إلى الأمر ببساطة، نعم لكن السِينك لا يتكوّن في أيّ مكان، ولا بأيّ شكل إنّه متناقضٌ إلى حدٍّ كبير كيف أقول…… طاقة كانت مجرّد مفهوم غير ملموس، ثمّ تتجسّد في شيء حقيقي.”
إذن فهو أقرب إلى كارثةٍ طبيعيّة، فكّرت لايلا شيء لا يُرى، ولا يُعرف قبل أن يُختبَر، ثم يظهر في الواقع على هيئةٍ ملموسة……
كانا على وشك دخول مدخل فينتوسهِس.
كانت عينا لايلا معلّقتين بالنقوش البارزة على أعمدة قصر فينتوسهِس البعيد، ولذلك لم تدرك في البداية أنّ يوســتار مدّ ذراعه ليعترض طريقها.
“آه!”
شهقت لايلا وقد أفزعها إيقافه المفاجئ عندها أدار يوســتار رأسه بوجهٍ صارم ورفع إصبعه إلى شفتيه.
“هس، لايلا أصغي.”
أطبقت لايلا شفتيها كطفلة مطيعة، وحبست أنفاسها وهي تصغي.
صدر صوتٌ خافت، كخشخشة بدا كصوت الريح، ولكن حين أنصتت جيّداً أدركت أنّه ليس كذلك.
كان هناك شيء يتحرّك بالقرب منهما.
أومأ يوســتار إليها يسألها إن كانت تسمع وحين هزّت رأسها، شدّ تعابيره أكثر، ومدّ يده نحو مقبض سيفه.
راقبته لايلا وهو يقبض على المقبض صامتاً، ثم فتّشت في حقيبتها الجلدية عن أداة سحريّة يمكن استخدامها.
“يوســتار، أنا……”
“هس.”
قالها مجدداً، فالتصقت لايلا بظهره وهي تحدّق من حولها بحذر.
اشتدّ صوت الخشخشة كان شيءٌ ما قريباً جداً منهما، بل وكأنّه يقترب أكثر فأكثر كان يدور حولهما كان من الواضح أنّه يحاول تشتيتهما.
ركض حيوان؟ لا، هزّت لايلا رأسها لنفسها لا يصدر أيّ حيوان مثل هذا الصوت……
“أترى أنّه مخلوقٌ شيطاني؟”
همست لايلا.
شعر يوســتار ببرودةٍ حجريّة قاسية تنبعث من جسمها الملتصق بظهره شعر بالندم: لم يحظَ بوقتٍ كافٍ لتدريبها لو علم أنّ هجوماً جسديّاً كهذا قد يقع…… لكنه طرد ذلك الندم سريعاً لا فائدة منه الآن.
ثمّ سحب سيفه بصمتٍ وبرقٍ، وأخذ وضعية القتال وقال دون أن يلتفت
“الاحتمال كبير لا يشبه ذئباً شاردًا ولا كلباً بريّاً.”
ثمّ ابتسم فجأة ابتسامة مازحة
“وربما يكون فهداً مجنوناً.”
انطلق صوتُ خشخشةٍ من الشجيرات، وكانت سرعة وحركة الجسم لا تتناسبان مع فهدٍ على الإطلاق
سبقَ أن شاهدت لايلا فهدًا على سفح جبلٍ قريب من القرية.
كانت أنثىً مسنّة، ورغم تقدمها في السن، كانت سريعة جدًا، لكن وزنها عند انقضاضها وقطع الهواء كان يُشعر به بوضوح
“لو كان فهداً حقيقياً لكان فهداً جائعاً مسعوراً.”
“وهو خفيف جدّاً بالنسبة لذلك، أليس كذلك؟”
هزّت لايلا رأسها.
قالت ذلك رغم علمها أنّه لا يراها، لكنها كانت بحاجة إلى الشعور بأنّها تتواصل معه.
ثم تتابعت أصوات تكسّر الأغصان: طق… طق… طق… كانت قريبة جدًا منهما، خلف الضباب.
“إنّه على يسارك يا يوســتار.”
فأجاب بصوت خافت
“أعلم ، سأقطعه ما إن يظهر.”
انخفضت وضعية سيفه أكثر كان مستعداً للانقضاض وقطع كلّ ما يظهر أمامه إلى نصفين.
عندها حدث الأمر.
“يا إلهي!”
دوّى صوتٌ حادّ فجأة، فكادا الاثنان أن يصرخا فزعاً.
وظهر من خلف الضباب ــ الذي عاد فجأة يثخن الجوّ ــ ظلّ يتمايل.
“لا تقتربوا.”
صرخ يوســتار محذّراً وهو يلوّح بسيفه.
لكن الظلّ اقترب أكثر، ثمّ خرجت منه امرأة قصيرة القامة قليلاً عن لايلا.
ما إن رأى يوســتار وجهها حتى انفصلت شفتاه عن بعضهما بذهول، وكذلك فعلت لايلا حين خرجت من خلفه فقد خطرت ببال الاثنين صورة دونوفان في اللحظة نفسها.
كلماته المريرة كأنّها شقّت الضباب وعادت إلى آذانهما
—لقد وُلِدتْ منذ البداية مختلفة عن الناس…….
كان نصف وجه المرأة قد ذاب وتجمد على هيئة حمم بركانيّة مشوّهة لم يكن ذلك جرحاً لاحقاً، فالنصف الآخر من وجهها كان نظيفاً على نحوٍ لا يصدّق، مما جعل المشهد أكثر رعباً.
أشعر وكأنّ لقاءنا معه كان قبل مئة عام، فكّرت لايلا وتذكّرت فجأةً طلبه منها
ابنة تتصرّف بغرابة كلّ ليلة وقد علمت لايلا فوراً أنّ المرأة أمامهما هي ابنة دونوفان تلك.
“ما الذي تفعلانه هنا؟ هذا المكان خطير على كلاكما……”
تردّدت قليلاً ثم مسحت نظرها عليهما من أعلى إلى أسفل وقضمت شفتها.
“لكن يبدو أنّكما لستما شخصين عاديّين.”
تردّد يوســتار وهو يقبض على سيفه الذي لمع بياضه عبر الضباب، ثم أعاده إلى غمده ببطء ونظر إليها مليّاً.
“وأنتِ؟ هل أنتِ بخير؟ ما الذي تفعلينه هنا؟”
“أنا ألِيس أعيش في القرية الواقعة أسفل الجبل أحيانًا آتي إلى هذه المنطقة لجمع الأغصان، لأستخدمها حطبًا لكنّي سمعت صوت حديث، ولما تجولت هنا وجدتكما موجودين هل كنتم تائهين تبحثون عن الطريق؟”
شعر يوســتار فجأة بقشعريرة تسري في جسده لم يعرف السبب اسم أليس بدا له غريبًا بطريقة ما.
حتى وهو يعلم أنّها ابنة دونوفان، لم يستطع أن يبعد عن نفسه شعور الحذر لم يستطع تجاوز الحذر رغم أنّها واقفة أمامه كبشرية.
“آنسة ألِيس… هل أنتِ حقًّا ابنة السيد دونوفان؟”
“هل تعرفونني؟”
أومأ يوســتار برأسه.
“لقد سمعتُ عنك من والدك في الحقيقة، نحن الاثنان قررنا الليلة أن نقيم في بيتكم.”
ارتعشت نصف وجه ألِيس المشوّه تحرّكت شفتاها بالكاد بشكلٍ يشبه التشنّج، ثم ابتسمت الشفة النظيفة على النصف الآخر ابتسامةً خافتة.
“آه، فهمت أنتم ذلك الثنائي، أليس كذلك؟ القادمون من تينتينلا؟ والدي قد حدثني عنكم وفي الحقيقة، كنتُ هنا أجمع الأغصان لأعدّ عشاءكما لقد غسلتُ وعاءً كبيرًا جدًا، يكفي لطهي أي شيء.”
كرّر يوســتار كلامها بنبرة تحمل معنىً غامضًا.
“أي شيءٍ حقًا؟”
ابتسمت ألِيس أكثر.
“نعم، يمكن طهي أي شيء دجاج، طائر الحجل، البط أو الخنزير، وربما البقر أيضًا! وحتى الساحرات يمكن طهيهن، هل سمعت عن مثل هذه القصص القديمة؟”
عند كلماتها الأخيرة، سحب يوســتار سيفه فورًا بسرعة تكاد تخفي يده عن الأنظار
لكن حركة ألِيس كانت أسرع منه بكثير صوتٌ هشّ ارتطم، وتحرك جسدها الملتوي بشكل مقلوب كالعنكبوت، وزحف على الماء كما لو كان ينزلق.
“يوســتار!”
عند سماع صرخة لايلا، لوّح يوســتار بسيفه نحو الأسفل، لكنه لم يصب سوى خصلة من شعر ألِيس بخفة شديدة.
كانت أسنانها الحادة الكثيفة تمسك بطرف حذاء لايلا.
ثم سحبتها وأخذتها بعيدًا داخل الضباب الكثيف في فينتوسهِس ودوّت صرخة حادّة، أشبه بصوت غراب أجهش بالحزن، لتضطرب الأودية ومسارات الغابات بأكملها.
—أنا من يملؤه الكراهية!
—أنا من يشعل النيران!
—أنا من يقتل ويميت!
كانت تلك صرخة ألِيس لم يجد يوســتار فرصة لتتبع الصوت بعينيه، فاندفع مسرعًا عبر الضباب محاولًا الإمساك بألِيس، أو بالأحرى بمحاولة إنقاذ لايلا التي كانت تُسحب معها.
لكن كلما ركض، كلما ابتعدت ألِيس ولايلا بسرعة أكبر.
“لايلا!”
صرخ يوســتار.
في تلك اللحظة، أصبح الضباب كثيفًا كالغيوم السوداء، محاصرًا إياه تمامًا ثم سُمِع صوتٌ آخر
—أنا من خُدع حتى الموت!
كان الصوت قريبًا، كأنّ أحدهم يهمس بشفتيه قرب أذن يوســتار.
لوّح يوســتار بسيفه في اتجاه الصوت دون أن يلتفت، لكن لم يكن هناك شيء ولم تعد صرخة لايلا تُسمع، وساد الصمت في كل الاتجاهات.
بدأ الضباب يزول.
بدأ الضباب يزول. أدرك يوســتار أنّه قد خرج من الضباب ووجد نفسه متجهًا نحو الخارج من مفترق الطريق، وظهر له أنّه قد ترك خلفه كل من فينتوسهِس وهويرهيس
حين أدار رأسه، وجد أنّ فينتوسهِس لا يزال مغطّى بالضباب، ولا يظهر منه سوى سقف القصر الأعلى الرمادي.
“اللعنة!”
انطلقت لعنة من فم يوســتار نظر إلى لافتة مفترق الطريق، ثم ركض في اتجاه القرية.
التعليقات لهذا الفصل " 63"