تمكّن يويستار من كبح شعور الضيق الذي تصاعد من داخله، ووضع يديه على خصره وهو يتفقد المكان حوله ثم فجأة، حرّر شعره الذي كان مربوطًا، وأمسك الحبل بين شفتيه وهو يهمهم بصوت خافت
“لايلا، هل تريدين فحص السيكر مرة أخرى؟”
أخرجت لايلا السيكر من جيبها وفحصته، لكن ذلك لم يجدي نفعًا.
منذ أن شعرت بشيء غير طبيعي، كانت تتحقق من السيكر كل ثلاث خطوات، ومع ذلك لم تتحرك الإبرة حتى الآن، وظلت ساكنة تمامًا.
أحيانًا كانت الإبرة تتلوى وكأنها على وشك الحركة، لكنها غالبًا ما كانت تعود فجأة إلى مكانها الأصلي بعد أن تدور دورة كاملة.
هزّت لايلا رأسها
“ما زال لا يتحرك.”
وفي هذه الأثناء، أمسك يويستار بشعره الطويل ببراعة ولفّه بإحكام إلى الخلف حتى ثبته عند مؤخرة رأسه يبدو أن الحبل وحده لم يكن كافيًا، فأخرج عصا ذهبية رفيعة ومدببة من جيب سترته، وغرزها بقوة في الشعر الملفوف لتثبيته.
لاحظت لايلا يويستار وهو يثبت شعره
“شعرك بهذا الشكل يبدو كرحّالة.”
ابتسم يويستار ابتسامة عريضة، وفجأة شعرت لايلا بأن شعورها بالقلق بدأ يتلاشى قليلاً ربما كانت ابتسامته تحمل هذا التأثير، أو ربما…
“قولك إنه رحّالة ليس خاطئًا تمامًا، أليس كذلك؟”
أضافت لايلا، وهي تعقد حاجبيها للحظة كما يفعل الأطفال حين يغوصون في التفكير
“أقصد الأشخاص الذين يتجولون بلا موطن ثابت يويستار، أنت لست حقًا من هؤلاء المتجولين.”
“همم… من الناحية العملية، ربما لكن الشيء المثير هو أنني دائمًا ما أشعر أنني متجول.”
“لماذا…”
ترددت لايلا عن استكمال السؤال وأغلقت فمها بدا لها أنها بدأت تفهم سبب قول يوستار ذلك.
عند التفكير في قصر سيرو الذي كان رائعًا لكنه يشعر أحيانًا بالفراغ وحتى القسوة، لم يكن غريبًا أن يشعر هكذا.
مكان لا يستطيع أحد فيه النوم بسلام ليلًا، حيث يعاني الجميع من كوابيس متساوية، ويستيقظون عند بزوغ الفجر وكأنهم ينجون منه.
“لكن الأمر المهم الآن ليس هذا… لايلا، كلامك صحيح، لقد ضللنا الطريق تمامًا لا ينبغي أن يستغرق الوصول إلى فينتوسهيس كل هذا الوقت، ومع ذلك، ما زالت فينتوسهيس هناك، واضحة كما نراها الآن. “
أشار نحو فينتوسهيس المغطاة بضباب شاحب كانت بعض الأسطح والمنازل تطفو فوق الضباب، تبدو كجمجمة طافية على مستنقع ضبابي.
أخرج يويستار بعض أدواته السحرية، لكن كما حدث مع السيكر، لم تكن مفيدة بعض الأدوات لم تعمل كأنها استنفدت طاقتها السحرية حتى السيكر ورانيغلو – العين السحرية التي استخدمها للبحث عن لايلا – لم يظهرا أي فائدة.
“إذا استمررنا في التجوال هكذا، سنصبح أبطال الشائعات الغريبة في هذه القرية.”
هزّت لايلا رأسها موافقةً، فهي لا تريد أن يكون مصيرها التجوال الأبدي في هذا الطريق المظلم والمرعب حتى تنهار.
“هل لا يوجد طريقة أفضل…؟”
سمعت لايلا صوت يوستار المنخفض، وفجأة ضمّت شفتيها بعزم بدا وكأنها تحاول كبح ما تريد قوله حقًا لم يغفل يوستار عن هذا التغيير، فرفع بصره نحوها مباشرة.
“ماذا تفكرين، لايلا؟”
رفعت لايلا بصرها نحوه بحذر، كما لو أن مجرد لفظ ما في ذهنها سيجعل يوستار يقفز مثل الأرنب المفزوع.
“تعلمت طريقة من والدتي…”
رمشت عينا يوستار مرتين.
“أي طريقة تقصدين؟”
“سحر لإيجاد الطريق عند الضياع… لم تعلمني والدتي الكثير من السحر، لكن كان هناك شيء كهذا.”
“لماذا لم تخبريني بذلك منذ البداية؟”
عضّت لايلا شفتيها ونظرت إليه بنظرة غريبة مجددًا.
“سحر الساحرة لا يأتي دائمًا بنتائج جيدة لو كنت وحدي، لكنت جربت ذلك منذ اللحظة التي شعرت فيها بأن الطريق غير طبيعي لكن الآن…”
“لأنك معي، فلم يمكنني المحاولة؟”
أجابت لايلا في نفسها، فهي لم ترغب أن يسألها عن السبب ومع ذلك، لم ينجح كتمانها تمامًا.
“لماذا؟”
“كنت أعلم أنك ستسأل هذا، لذلك لم أجب.”
اعتقدت لايلا أن صوتها بدا كصوت طفلة متضايقة.
لكن يوستار لم يبدو مهتمًا بذلك، أو ربما لم يكن له علاقة، فابتسم فجأة بصوت مرح، منعش وغير متوقع وسط التعب والضباب المتكرر.
“بالطبع سأعيد السؤال هل تعتقدين أنني لن أكن فضوليًا إذا لم تجيبي؟”
أمعنت لايلا النظر في شفتيها، بينما نظر يوستار إلى وجهها المرتبك بين الاستياء والحيرة بابتسامة، ثم تراجع خطوة إلى الوراء.
“أريني، لايلا أرينا هذا السحر فالآن، الشيء الوحيد الذي يمكننا الاعتماد عليه هو سحرك.”
“ليس بهذه البساطة عندما علمتني والدتي هذا السحر، قالت…”
“تذكّري دائمًا أن ما قد يظهر لكِ قد لا يقتصر على الطريق فقط إذا حاولتِ البحث عن الشيء الذي ترغبين فيه فقط، فذلك يُعدّ طمعًا.”
تذكرت لايلا كلمات والدتها وكانت تعرف جيدًا ماذا تعني الأشياء الأخرى؛ قد يكون وحشًا، أو شبحًا مليئًا بالشر، أو ربما شيء أكثر سوءًا وخطورة لذلك…
“لايلا.”
قاطعتها كلمة يوستار فجأة، كأن شيئًا مفاجئًا وقع على خيط مشدود، فشعرت لايلا بالصدمة والارتباك في آن واحد.
“لا داعي للاهتمام بما قالت والدتك.”
توسعت عينا لايلا بدهشة بدا وكأنها تسمع همهمة والدتها في أذنها فجأة هل كانت هذه إشارة ألا تستمع إليه؟ أم…
“لايلا، هل تتذكرين اليوم الذي التقينا فيه أول مرة؟ كنت في منزلك، وقلت لك ألا تجلسي على تلك الأرجوحة.”
هزّت لايلا رأسه – “بالطبع أتذكر.”
أضافت ملامحها بعض التوتر
“كنت أود أن أسأل لماذا قلت ذلك.”
أومأ يوستار ثم وضع ذراعيه على صدره كما لو كان يقلّدها
“هل قالت والدتك إنها عزيزة عليها؟”
“بالضبط، كانت عزيزة على جدتها، وربما أيضًا على جدتها قبلها.”
“حسنًا، منذ زمن بعيد، كانت الساحرات اللواتي يربون بناتهم وحدهم يجلسو على تلك الأرجوحة، يمارسن الحياكة أو يقرأن الكتب…”
تدخّلت لايلا بين كلماته.
“ألا تظنّ أنّه لم يكن ليمارس الحياكة؟”
“يمكن القول إنّ ذلك ما أعنيه لعلّه كان يصنع صبغة خطرة، أو يقرأ كتبًا تتعلّق بالسحر الأسود على أيّ حال، لا بدّ أنّه كان يقضي وقتًا طويلًا على ذلك النحو والسبب في أنّ الحكايات الغريبة تقع كثيرًا حول الأشياء القديمة هو أنّ أفكار مستخدميها وأرواحهم تتشبّع فيهم ببطء شديد، طبقةً فوق طبقة تلك الأشياء تتراكم… بماذا أصفها؟ تتكدّس وتُضغط مثل عجينة فطيرة قديمة، وفيما بينها يبدأ العفن بالظهور خلسة وكان ذلك الكرسي على وجه التحديد في مثل تلك الحالة.”
“أتقصد أنّ شيئًا سيئًا كان عالقًا بداخله؟”
مرّر يوسْتار طرف أصابعه بخفّة على وجنته.
“لم يكن كذلك منذ البداية، بطبيعة الحال لكنّ كثيرين جلسوا على ذلك الكرسي في تلك السنوات الطويلة، وهل يُعقل أنّهم لم يفكّروا إلا بالأمور السعيدة؟ ثم إنّ الأشياء السلبية تُمتَصّ أسرع من غيرها سواءٌ في الكائنات الحيّة، أو في غير الحيّة أنتِ تعرفين هذا المبدأ.”
“نعم، أعرف.”
آنذاك فقط فهمت لايلا سبب قوله تلك الكلمات تردّدت قليلًا في أن تخبره عن الحلم الغريب الذي رأته قبل أيام، لكنها سرعان ما تخلت عن الفكرة بسرعة.
“أما عن سبب طرحي لهذا الموضوع، يا لايلا … فهو أنّك تبدين ما زلتِ مرتبطة بوالدتك فمع أنّ والدتك لم تعد في هذا العالم، إلا أنّكِ —في بعض الأحيان— لا تزالين تعيشين فقط بوصفكِ ابنتها هل تفهمين ما أعنيه؟”
كانت على وشك أن تجادله قائلة إنّ ذلك أمر طبيعي، لكنها ما لبثت أن أسقطت تلك الفكرة.
كان محقًّا بعيدًا عن تأثير الديسِبْتَر… كان عليها أن تصبح كيانًا مستقلًا هذا المكان ليس ريجِيكوس، ولايلا لم تعد ابنةَ ساحرة، بل أصبحت ساحرة بذاتها وكان أمامها ما يجب القيام به.
أمور أخرى غير قطف الفطر، فكّرت لايلا.
“تراجع قليلًا يا يوسْتار.”
أدرك يوسْتار أنّ نبرة لايلا اختلفت قليلًا عمّا كانت عليه قبل لحظة.
وحين ابتعد خطوتين أو ثلاثًا، أومأت كما لو أنّ ذلك يكفي ثم كشفت عن ساعديها بطيّ كمّي معطفها العسكري، فأظهرت معصمًا أبيض نحيلًا كجذع نرجس.
“ماذا ستفعلين؟”
سأل يوسْتار، وبدا في صوته نصف فضول ونصف قلق رمقته لايلا بطرف عينٍ تتلألأ بلون أحمر، ثم هزّت كتفيها بخفّة.
“علينا إيجاد الطريق كما قلتُ لك.”
ثم مرّت بإبهامها على معصمها وعلى نحو مدهش، انفتحت شقّة حمراء على جلدها، وبدأ الدم يقطر منها قطرات غزيرة.
حدّق يوسْتار بها في ذهول، ثم فتح فمه حين رأى قطرة دمٍ من دم لايلا تنفذ إلى باطن الأرض وتتحرّك من تلقاء نفسها كالأفعى.
ذهبت الأغصان تهتزّ وتُصدر خشخشة خفيفة.
أسقطت لايلا مزيدًا من الدم على الأرض، ثم غطّت الجرح براحة يدها رسمت قطرات الدم المتحرّكة دائرةً حمراء، ثم تشابكت داخلها في خطوط متعرّجة صنعت شكلًا غريبًا.
“الذي يحيط قدميّ هو حذاء إنغلْرود والذي أمامي حقلٌ من شوك النَّصِيرأسرِع يا إنغلْرود… إلى أين ستقودني؟”
وحين همست بتلك التميمة، بدأت الخطوط الحمراء تتحرّك وتتغيّر من تلقاء ذاتها.
وبينما كان يوسْتار يراقب المشهد، شعر فجأةً باضطراب غريب في جوفه كان لديه إحساس بأنّ تلك الخطوط قد تنقضّ عليه في أي لحظة…
وعندها سُمع صوت خفيف يصدر من مكانٍ ما شعر ، طرف شعر لايلا القصير يتحرّك قليلًا كأنّ نسيمًا مرّ به، ثم انشق الضباب الذي كان يحيط بهما من كل الجهات، وتفرّقت كستارٍ يُسحب جانبًا.
التفت يوسْتار إلى اليمين وقد اتّسعت عيناه من الدهشة فالمنطقة التي كانت قبل لحظة فقط غابةً، أصبح فيها الآن طريق واضح وكان مدخل فينتوسْهيس قريبًا جدًا… ثم—
التعليقات لهذا الفصل " 62"