دونوفان كان يُصفر وهو يزيل الأوساخ المتراكمة عن القدر الحديدي الكبير.
فهو في العادة لا يحتاج إلى إخراج القدر الضخم من مخبئه، إذ يعيش في أغلب الأيام مع ابنته أليس وحدهما، ولكن بما أنّ عددهم اليوم قد ازداد بشخصين، فمجرد التفكير في طبخ حساء سيجعل استخدام القدر الصغير ضربًا من المستحيل.
جمع دونوفان حفنة من القش اليابس وفرك بها القدر، وقد احمرّ وجهه حتى بدا كأنّه شرب الخمر وبينما كان يفركه عند بئر الماء، مرّ صديقه القديم توس، فرآه منشغلاً بتنظيف القدر فقال ممازحًا
“أدخلتَ رأسك في زواج جديد؟ تبدو مبتهجًا اليوم على غير عادتك!”
فما إن رفع دونوفان رأسه وحدّق فيه بنظرة خاطفة، حتى ردّ بجفاء
“زواج جديد؟ أيّ زواج! من ذا الذي يجرؤ على الزواج في مثل عمري؟ أنا بالكاد أعدّ الأيام التي تفصلني عن دخولي التابوت!”
ورغم أنّ كلامه كان هكذا، إلا أنّ مزاجه كان حسنًا بالفعل فمجرد وجود وجوه جديدة في حياته البسيطة والهادئة كان سببًا للبهجة.
ولأنّه كان يحب الناس بطبعه، وكان في شبابه حيويًا نشيطًا، فقد أحسّ وكأنّ قريبًا عزيزًا عاد بعد غياب طويل، وإن كان الضيوف لن يمكثوا إلا أيامًا معدودة.
رفع دونوفان القدر ليغسل الغبار العالق فيه بالماء البارد، ثم وقف وهو يئنّ من ألم الظهر فعندما كان أصغر سنًا، كان الناس يصفونه بأنه قويّ البنية، لكن السنين لم تكن لطيفة معه وعندما رآه توس يضرب أسفل ظهره بقبضته، نقر لسانه
“بهذه الحالة… كيف ستستمر؟”
“لا تقلق، لن أطلب منك أن تتولى رعايتي.”
ورغم أنّ دونوفان قالها ضاحكًا بنبرة توبيخ، إلا أنّ القلق لم يغادر وجه توس.
بل ظلّ يقف بجانبه وكأنّه يريد أن يقول شيئًا ويبحث عن طريقة لبدء الحديث رفع دونوفان رأسه مستغربًا وسأله
“ما بالك؟ هل لديك ما تقوله؟”
“لا… لا شيء مهم، فقط…”
ولكنّ تردد توس كان غير معتاد فوضع دونوفان القدر جانبًا، واستقام ينظر إليه مباشرة.
“لا شيء؟ مكتوب على جبينك أنّ في صدرك كلامًا قل ما لديك … لقد قطعتَ نفسي!”
حكّ توس لحيته الخشنة، ثم نظر إليه بطرف عينه.
“ذاك… همم… ليست إلا رواية سمعتها… كيف حال ابنتك هذه الأيام؟”
في تلك اللحظة، شحب وجه دونوفان فورًا فما إن سمع السؤال حتى لمع في ذهنه المشهد الذي تكرر قبل بضعة أيام أليس، بثياب شبه مرتّبة، تصعد وتنزل أعلى الدرج طوال الليل وهي تضرب الأرض بقدميها.
“أليس… لماذا تسأل؟”
فارتبك توس أمام نبرة دونوفان الخشنة المفاجئة.
“لماذا كل هذا الغضب؟ سألت فقط رأيتها في الدكان قبل أيام، فخطرَت لي…”
“ما معنى كيف حالها؟”
“ذاك… همم…”
تنفّس توس بعمق ومسح وجهه بحرج شديد.
“أنا فقط أنقل حديثًا، لا أكثر تعرف ذاك العجوز سِليك من القرية المجاورة…”
عُقدت حاجبا دونوفان فور سماع الاسم.
“ولماذا يَذكر أحدٌ اسم ذلك الوغد؟”
سِليك كان رجلاً ثريًا مُسنًّا من القرية المجاورة، يملك حقول قمح واسعة وعددًا من المحلات في السوق وكان الناس ينحنون أمامه، لكن ما إن يبتعد حتى يبصقوا خلفه ليس فقط لشخصيّته ، بل لأنّ أبناءه الثلاثة—لكلّ منهم أم مختلفة—كانوا مشهورين بسوء الخلق والفساد.
تردّد تُوس
“ذاك… ابنه الأكبر متزوج منذ زمن، لكن يبدو أنّه لا ينجب، ويشاع أنّ العلاقة بينه وبين زوجته ليست جيدة العجوز سِليك يقول إنّ السبب هو مزاج زوجة ابنه الحاد، ثم يقول… بما أنّ أليس طيبة الخلق رغم… رغم هيئتها… فربما…”
دُوِيَّ صوتٌ عالٍ لقد ركل دونوفان القدر، فاصطدم بحافة البئر قفز توس فزعًا، وحتى المارة التفتوا مذعورين.
“هل تريد أن تموت اليوم على يدي؟!”
لوّح توس بيديه بسرعة.
“لا! فكّر بالأمر فقط… ذلك العجوز يملك مالًا كثيرًا وما المشكلة لو أصبحت زوجة ثانية؟ ثم إنّ العلاقة بينه وبين زوجة ابنه الكبرى سيّئة، فلعلّه يجعل ابنه يطلّقها… ويدخل أليس زوجة أولى…”
“اذهب واهذِ بهذا الجنون في بيتك! أن أزوّج ابنتي لذلك الوغد الحقير؟ لأشنق نفسي قبل أن أفعل! وإن تجرّأت وكررت هذا الكلام أمامي مرة أخرى، فسأقذفك في البئر رأسًا على عقب!”
هرب توس مذعورًا وبقي دونوفان يلهث غضبًا قبل أن يلتقط القدر بيد واحدة ويعود إلى منزله.
وعندما وصل، كانت أليس قد عادت ولم تكن قد نزعت الوشاح الذي يغطي وجهها بعد.
“أبي! أين كنت؟”
نزعت أليس قبعتها ذات الحجاب، فنظرت بين وجه والدها المحتقن والقدر في يده بعينين متسعتين.
“لماذا أخرجت هذا القدر؟ ولماذا وجهك هكذا؟ هل حدث شيء؟”
وشعر دونوفان بأنّ قلبه يُعتصر كادت دموعه تتفجر، لكنه تماسك.
وما إن نزعت أليس قبعتها، حتى ظهر أولًا نصف وجهها المشوَّه—كأنه قد تعرّض لحرق شديد، وكأنّ النار أذابت الجلد من أعلى إلى أسفل ثم تركته يتجمّد على تلك الصورة المفزعة.
أمّا النصف الآخر من وجهها فكان ناعمًا خاليًا من أيّ أثر، وهذا ما كان يؤلم دونوفان أكثر؛ إذ راوده مرارًا أنّه لو كانت قبيحة بالكامل، لكان وقعُ ذلك أهون على قلبه.
“أبي…”
اقتربت أليس منه بخوف، ولمسَت ظهر يده فتنبه وأخذ يشهق قليلًا.
“لا شيء هل كان عملك شاقًا اليوم؟”
“لم أفعل سوى التقاط القمح ، لم يكن مرهقًا لكن… لماذا غسلْت القدر الكبير؟”
“آه… جاءنا ضيوف يبحثون عن مكان للمبيت فأحضرتهم بالقوة تقريبًا كما تعلمين، لدينا غرف فارغة.”
فأطلقت أليس صوتًا خفيفًا وضاقت عيناها، وتلوى الجزء المشوَّه من وجهها بحركة غريبة.
“أبي… كان يجب أن تنظف البيت أولًا سيهرب الضيوف من الفوضى.”
“لن يجرؤوا على الهرب! ما داموا وقعوا في يدي.”
“فهمت… إذن غسلْت القدر لأجلهم؟ أين هم الآن؟”
التفت دونوفان نحو الباب.
“لا أعلم … حان وقت عودتهم.”
“ليس في هذه القرية ما يُرى… هل هم سياح؟”
“لا إنّهم فرسان من تِنْتينيلّا لم أرَهم من قبل فقط اسمع عنهم وهل تعلمين ؟ ربما يساعدونك.”
رمشت عين أليس السليمة، وارتجفت الأخرى قليلًا خلف طبقات الجلد المتصلّدة.
“يساعدونني… في ماذا؟”
سألت أليس أما دونوفان، فقد لم يلحظ كم كانت تعبيرات وجهها غريبة، إذ كان منشغلاً بوضع القدر على الطاولة الخشبية في المطبخ.
“أنتِ…”
بدأ دونوفان بالكلام ثم توقف فجأة.
أدرك متأخرًا أنّه لم يسبق له أن تحدث بصراحة مع أليس عن المشهد الذي شاهده في الليل.
رمق دونوفان ابنته بنظرة مترددة، كما فعل مع توس عند البئر، متحيرًا بين القلق والخوف.
“وجهك… أعني…”
“وجهي؟”
“نعم… همم… فرسان تِنْتينيلّا قادرون على القيام بأشياء غريبة بالسحر، أليس كذلك؟ ولذا سألتُك كنوع من التجربة، وقالوا إنهم يريدون أن يروك… فكّري في الأمر، أليس لو تحقق ذلك، ألن يكون رائعًا؟ أنتِ…”
“أبي.”
توقف دونوفان فجأة عن الكلام، وكأن الكلمات قد علّقت في حلقه في تلك اللحظة فقط أدرك أنه لم يستطع النظر مباشرة إلى وجه أليس لم يحدث له ذلك منذ ولادتها…
التقى بنظرة ابنته، وشعر بالارتباك الشديد، كما لو كان يواجه شخصًا غريبًا تمامًا على الرغم من أنّه رآها يوميًا طوال عشرين عامًا، إلا أنّ شعورًا قويًا بالريبة اجتاحه
هذا ليس ابنتي…
“لماذا تكذب عليّ؟”
ابتلع دونوفان ريقه، وشعر بصداع يكاد يسحق رئتيه بعد لحظة، أدرك أنّ ما يسيطر عليه هو الخوف—خوف حاد وكبير، يجعله يتمنى أن يهرب فورًا إلى الأفق البعيد.
“يا صغيرتي…”
“لماذا تكذب؟ أبي، هل تخجل مني؟ أنا… أنا…”
صدر صوت طقطقة مفاجئ شعر دونوفان بشكل غريزي بما كان مصدره تذكّر حادثة سقوطه من شجرة وهو طفل، حين كسر ذراعه وصدرت أصوات مدوية في جسده قبل أن يشعر بالألم كان الصوت الذي صدر عن أليس يشبه ذلك الصوت، بل وتكرّر عدة مرات.
“أليس! أليس!”
انفجر دونوفان بالصراخ، لكن لم يكن قادرًا على الكلام مع تصاعد الصوت، انثنى جسد أليس وانقلب، كأنّها تحوّلت إلى كائن غريب.
كانت أليس ترتكز بأطرافها على الأرض، فيما انقلب جسدها حتى أصبح بطنها إلى الأعلى، ورأسها مرفوعًا إلى الخلف بصورة غير بشرية ثم انفتح فمها على مصراعيه، كأنّه كيس ممزّق شُقّ بعنف، وقد امتلأ عن آخره بأسنان بيضاء متراصة تمتد حتى سقف حلقها.
“كنتَ تخجل مني! كنتَ تريد موتي! كنتَ تدعو كل يوم أن تموت ابنتك! رائع! رائع! رائع! كنتُ أعلم أنّك هكذا! كنتُ أعلم!”
انبثقت الرغوة من فم أليس المفتوح، ولم يتمكّن دونوفان من إطلاق صرخة واحدة.
تحركت أطراف أليس التي تلمس الأرض بسرعة مثل أطراف العنكبوت، وأصدر حركتها على الأرض صوتًا يشبه خدش السطح.
ثم تحركت أليس عبر الباب الخلفي كما تتحرك حشرة مائية على سطح الماء.
وقف دونوفان فاقدًا للوعي، وكان العرق البارد ينهمر منه كما لو كانت السماء تمطر، ولم يكن حتى مدركًا لذلك
***
“انتظري لحظة، لايلا.”
توقفت لايلا عند سماع صوت يوستار، وأدارت رأسها بتعبير جاد.
كان وجهاهما محمرًّا، كما لو أنّهما تحرّكا بعنف قبل قليل، وكانت وجنتاهما وأنوفهما محمرة، وقطرات العرق تتصبّب على جلدهما.
تنفّس يوستار بجهد، ثم نظر حوله.
“أعتقد أنّه قد حان الوقت للاعتراف بذلك، أليس كذلك؟”
ابتلعت لايلا ريقها، وأدارت نظرها إلى الجهة المقابلة.
ومن بين الضباب الكثيف الذي نزل ليغطي الرؤية، رأت ظلًا ضبابيًا وطويلاً كان ذلك لوحة إرشادية عند مفترق الطرق.
التعليقات لهذا الفصل " 61"