تنفَّس العجوز شهيقًا متقطعًا، وكانت حدقتاه المعتمتان ترتجفان.
ذاكرته، التي كانت قد تلبَّدّت بالغيوم إلى حد شبه رمادي، سُحبت فجأة إلى عدة عقود مضت؛ إلى رجال يلوحون بالمشاعل مهددين، وإلى ليلة فوضوية حيث اختلط الجميع ببعضهم البعض فلم يكن بالإمكان معرفة من هو من، وهم يتقاتلون في خضم الفوضى.
“إذًا، ماذا حدث بعد ذلك؟”
قطع سؤال لايلا تفكير العجوز المترنح رمقه متسعًا كما لو أنه استيقظ للتو من حلم، رمق بعينيه ببطء قبل أن تظهر على شفتيه ابتسامة ضعيفة.
“لقد مات الطفل.”
ارتسمت على وجه يوستار خفوت من الحزن.
“وبعد حوالي شهر، حين لم يتمكن أهل فينتوسيس من مغادرة القرية، كانت تلك الأم التي فقدت طفلها قد أقدمت على صب الزيت وإشعال النار في عدة منازل تابعة لعائلة فينتوسيس لم يعرف أحد كيف تمكنت من التسلل إلى القرية دون أن يلاحظها أحد.”
“أشعلت النار…”
“حاولوا إطفاءها باستخدام البئر، لكن الأمر كان مستحيلًا كان ذلك في الشتاء، فالنيران كانت تنتشر والماء كان قليلًا في النهاية، اضطروا لجلب الماء من النهر… والنتيجة؟”
“لقد تصدى الناس لها.”
ابتسم العجوز بمرارة، وهو يهز رأسه
“نعم، هذا ما حدث هذه المرة كان شبّان هويرْهيس هم من منعوا أبناء فينتوسْهيس من الخروج ولو خطوة واحدة وفي النهاية احترقت اثنتا عشرة داراً، وقُتل واحد وعشرون شخصاً، بما في ذلك تلك الأم التي فقدت طفلها.”
كانت قصة مروعة لدرجة يصعب تصديقها، وارتجف جسد لايلا أمام تلك الشرور التي لا يمكن تصورها.
“لكن المشكلة الحقيقية حدثت بعد ذلك.”
عند كلمات العجوز، قَبَض يوستار ولايلا على حاجبيهما.
“ماذا تعني بذلك يا سيدي؟ ماذا حدث بعد ذلك؟”
“بعد حريق المنازل، أصبحت العلاقة بين هويرْهيس وفينتوسيس أكثر عداءً من ذي قبل وإذا التقوا صدفة، كان القتال حتميًا لكن القدر له سخريته، أو ربما أخطأ الحاكم سيرسيتا حين خلق البشر، من يعلن.”
ثم ضحك العجوز ضحكة خافتة، وكأن ما قاله بدا له مضحكًا على نحو ما.
“والأغرب من ذلك، أن شابًا من هويرْهيس وقع في حب فتاة من فينتوسيس.”
“إنه لأمر مذهل.”
هز يوستار رأسه معبرًا عن دهشته، وأغمض العجوز عينيه قليلاً كمن يؤكد حقيقة ما قاله.
“والشاب كان ابن عائلة فقيرة، أما الفتاة فابنة أخ الحاكم قد يبدو أن الفارق بينهما بسيط، إذ لم يكن أي منهما من طبقة النبلاء، لكن في ذلك الوقت، لم يكن الأمر كذلك وعندما فرّا معًا في ليلة مظلمة، تبادل القرويون اللوم حتى كاد الخلاف أن يتحول إلى حرب لا، بل كاد يحدث…”
انتقل بصر العجوز مجددًا إلى مكان بعيد، بعيدًا عن الشخصين الحاضرين.
كان نظره يعبّر عن شعور وكأنه قد انفصل عن الواقع تمامًا.
بدا جسده مجرد هيكل خارجي للعجوز، بينما روحُه قد انغمسَت في الماضي.
“كانت تلك الليلة مرعبة بحق…”
تلاشى صوت العجوز في نهاية حديثه.
***
قبل ستين عامًا تقريبًا.
كان شبّان فينتوسيس قد أعدّوا سكاكين حادّة وأدوات زراعية شحذوها جيداً، فحمّلوها على العربات مكدّسةً بعضها فوق بعض ولفّوا حول المشاعل قطع قماش منقوعة بالزيت وأشعلوها، وارتدَوا دروعاً بدائية الصنع من الخشب والحديد.
قال بعضهم إنه يجب أن يجرّوا الخيول من الإسطبل ويشربوا من دمائها، بحجة سخيفة تقول إن المحاربين القدامى كانوا يفعلون ذلك قبل الذهاب إلى الحرب.
“استمعوا جيدًا!”
صاح رئيس عائلة فينتوسيس، الذي فقد ابنة أخته، وهو يهز بطنه الممتلئ بينما كان يقف على حزمه من الحطب تحت وهج المشاعل المشتعلة، بدت وجوه الشبان شاحبة إلى درجة مخيفة، وكانت عيونهم محمرة لدرجة أنها لم تعد تشبه عيون البشر.
“سنذهب لنقضي على كل الأوغاد القذرين من هويرْهيس! هل فهمتم؟ لا يمكننا أن نعيش على نفس الأرض مع مثل هؤلاء الأشرار بعد الآن اعتبارًا من اليوم، هذه الأرض كلها لنا نحن، عائلة فينتوسيس!”
“لنطردهم!”
“لنُبعدهم!”
كانت المناجل والسيوف والمعاول تلمع لمعانًا خاطفًا تحت وهج النار.
كانوا مستعدين للانقضاض على هويرْهيس في أية لحظة، ليذبحوا كل من فيها دون أن يُبقوا خلفهم شخصًا واحدًا كان جوّ القرية مثقلاً بسحابة داكنة من نذر القتل.
“إذا قبضتم على ذلك الوغد الذي خطف ابنة أختي، فأتوا به حيًّا! سأجعله يتوسل طالبًا الموت ومن جاءني به فسأنعم عليه بقطعة من الذهب!”
يا تُرى، كم سيكون براقًا ذلك الذهب المدفوع مقابل الأرواح؟ وكم سيكون ثقيلًا؟ لقد كان الحقد حادًّا، والطمع صلب البنيان.
وبسبب هذا التحريض الداعي إلى الدماء، أخذ الناس يفقدون صوابهم شيئًا فشيئًا باتوا على يقين أنّ من يسكنون هويرْهيس ليسوا بشرًا، بل وحوشًا يجب اقتلاعهم من هذه الأرض.
في ذلك الحين، لم يكن الرجل شيخًا بعد ولم يكن حتى شابًا ناضجًا تمامًا، بل فتى في السابعة عشرة من عمره، لا تزال عليه سمات الفتى الصغير
ومع ذلك، فقد كان يمسك هو أيضًا بمنجل صُقلت حدّته بعناية كان أبوه قد وضعه في يده.
كان والده واقفًا إلى جانب ربّ الأسرة، يلوّح بمعولٍ ضخم رجلٌ كان كلما شرب الخمر صاح بأنّهم يجب أن يحرقوا هويرْهيس عن بكرة أبيها.
وكان الفتى يخشى ذلك العداء الذي كان يزداد التهابًا كل لحظة فلم تكن النيران مشتعلة في فينتوسْهيس وحدها.
فمن الجهة الأخرى، خلف قمّة ضيّقة من الأشجار، كان مجانين هويرْهيس هم أيضًا يطلقون صيحات مدوية وكانت أضواء النار المتصاعدة تتماوج كما لو أنها ستلتهم أسفل الجبل.
إن لم أهرب فسأُقتل هكذا فكّر الفتى لم يكن يستطيع أن يرفع منجله في وجه إنسان ما فينتوسْهيس وما هويرْهيس؟ ولماذا يقتل أهلها بعضهم بعضًا؟ ولماذا تُسفك الأرواح وتُنهب الحياة؟
“إي، سايمن! إلى أين تظن أنك ذاهب؟”
أمسك الصوت الأجش بتلابيب الفتى الذي كان يحاول التسلّل بعيدًا كان صديقه يكبره بعام واحد فقط، لكنه أطول منه بشبر وأعرض كتفيه ، قبض سايمن على المنجل بقوة
“نحن على وشك أن نبدأ ما جئنا من أجله، وأردت فقط أن أذهب إلى المرحاض قبل ذلك.”
ثم رفع المنجل عاليًا متظاهرًا بالصلابة فضحك صديقه، الذي بدأ شَعر لحيته ينبت لتوّه، ضحكه خشنة تشبه ضحكات الرجال
“حسنًا، اذهب وأفرغ كل شيء قبل أن تتبول في ثيابك.”
أومأ سايمن برأسه وعاد الفتية يتجمعون في مركز القرية، يصرخون بالدم والموت والنفي.
كانت العربة المحمّلة بالأسلحة تُصدر صريرًا مزعجًا، والخيول القليلة—ونصفها يكاد يكون أجرب—كانت تُساق إلى الخارج وتُصدر شخيرًا عصبيًا من فزع الجو المشؤوم.
وبمجرد أن خرج سايمن من مرمى أبصارهم، انحنى وسحب جسده بين الشجيرات وهو يحبو بجنون.
وحين اعترضت طريقه كروم شوكية وأغصان حادة، كان يشقها بمنجله وخلال ذلك تمزقت يداه وذراعاه جروحًا، ولم يشعر بالألم ولا بدمه الذي يسيل.
هرب نحو الجبل، وتوغّل أكثر فأكثر في منحدراته، وظلّ يركض دون توقف. وعندما سقط من شدة الإرهاق، دون أن يعرف حتى أين وصل، كان قد ابتعد عن حدود القرية مسافة بعيدة.
نام فوق تراب متجمد وصلب، كالميت ممسكًا بمنجله المصقول إلى صدره.
وحين استيقظ، علم أنّ أهل فينتوسْهيس وأهل هويرْهيس قد تبخروا جميعًا خلال ليلة واحدة.
***
كان يتابع كلامه بتمتمة متقطعة، ثم خرج من فم الشيخ زفيرٌ قصير.
“لم يكن أحد يعرف ما الذي حدث أما أولئك الذين كانوا يعيشون قرب المنطقة المزدهرة… فقد استغربوا فقط سكون القريتين المفاجئ لعدة أيام، ثم عرفوا الحقيقة بعد ذلك بوقت وحين ذهب الناس إلى هناك، لم يجدوا أي أثرٍ للبشر لا، ليس البشر فحسب… لم يبق على قيد الحياة حتى كلب واحد لم يكن هناك أثرٌ لحرب، ولا لقتال، ولا لقتلى ، في الطريق الرئيسي للقرية تُركت الأدوات الزراعية الحادة كما هي، وفي البيوت بقيت الأمتعة وكل شيء في مكانه وكأن الناس تركوا كل شيء وراءهم… ثم طاروا إلى مكانٍ مجهول.”
“والجثث؟ ألم يُعثر على أي جثة؟”
هزّ الشيخ رأسه وهو ينظر إلى الأرض بعينين رطبتين.
“لم يكن هناك شيء لا شيء على الإطلاق لا جثث… ولا حتى شظية صغيرة من عظم ومنذ ذلك الحين، لم يجرؤ أحد من سكان المنطقة المزدهرة على الاقتراب من القريتين لكن لا بد دائمًا من وجود حمقى يدفعهم فضولهم الخطير.”
وأشار بعصاه نحو اللافتة القائمة في منتصف مفترق الطرق كانت أصابعه المتجعدة ترتجف.
“كان هناك بعض الشبان الذين اختفوا هكذا تمامًا أثناء تجوالهم هنا لا أحد يعرف إن كانوا قد هربوا… أم أنهم تبخروا حقًا، لكنهم على أي حال لم يعودوا قط وعندما انتشرت تلك الشائعات، بدأ المزيد من الحمقى يتوافدون بعضهم عاد، وبعضهم لم يعد.”
“وماذا قال أولئك الذين عادوا؟ هل زعموا أنهم رأوا شيئًا؟ أو أنهم مرّوا بتجربة غريبة؟”
أنزل الشيخ عصاه واتكأ عليها، ثم أطلق أنفاسًا متقطعة.
“الذين عادوا… لم يعودوا أحياء حقًا كانت أرواحهم قد فارقتهم رغم أن أجسادهم بقيت حيّة أصبحو كالبلهاء كيف لهم أن يشرحوا شيئًا أصلاً؟ لكن… في بعض الأحيان، كان يظهر شخصٌ يزعم أنه ظلّ يدور ويدور في نفس المكان هنا معظم هؤلاء كانوا من العابرين، من الرحّالة الذين يمرون بالمنطقة يبدون كأنهم تائهون في الجبال لثلاثة أو أربعة أيام، وحين يصلون إلى القرية يبدأون بالتذمر: لماذا يوجد كل هذا العدد من الطرق المتشعبة؟”
“هل كانوا بخير؟”
كان هذا السؤال من لايلا هذه المرة حدّق الشيخ فيها لحظة بملامح تبدو مذهولة، ثم أجاب
“على الأقل… كانوا بخير حتى لحظة دخولهم القرية أما ما حدث بعد ذلك، فلا أحد يعرف.”
وبعد أن أنهى كلامه، حرّك وجنتيه الغائرتين قليلًا، ثم أمسك بعصاه بقوة واعتدل واقفًا ولما شعر بنملة تزحف على كاحله، نفضها بضربة خفيفة، ثم نظر إلى الاثنين من أعلى
“حين رأيتكما تخرجان من تلك القرية، ظننت للحظة أنكما شبحان من الماضي، ولهذا أطلت الحديث لكن لا تستخفّان بكلام شيخ عجوز فأنا شخصٌ عاش في وكر أولئك المجانين سبعةَ عشر عامًا، فصدقاني مهما كان ما يوجد في تلك القرية، ومهما كان ما حدث فيها… لا تنبشا فيه، واتركاه وشأنه إنها قرية ملعونة وبالطبع… هذا ليس غريبًا على ما فعلوه.”
ثم اختفى الشيخ على طول الطريق مستندًا إلى عصاه قبل أن يتمكنا من إيقافه ، نظرت لايلا إلى ظهره المنحني بذهول، ثم التفتت إلى يوستار.
“أظن أنني أدركت الآن ما كانت تلك النباتات المستقلة التي رأيناها منذ قليل.”
نظر إليها يوستار.
“أتنسبينها إلى ذلك العاشق الذي قيل إنه هرب؟”
“أليس هذا منطقيًا؟ فقد كانت مثالية لتسلق القصر سرًّا.”
حدّق يوستار مرة أخيرة في الطريق الخالي الذي اختفى فيه الشيخ، ثم نفض سترته ونهض نهضت لايلا بدورها.
“قصة القريتين متشابكة أكثر مما توقعت لكنني أظن أنني عرفت سبب عدم اكتشاف أي تزامن كلام ذلك الشيخ ذكّرني بشيء.”
نظرت إليه لايلا وفي وجهها تساؤل.
“وما ذاك؟”
حرّك يوستار شفتيه قليلًا، واتخذ ملامح من يتذوق شيئًا مُرًّا، ثم نظر نحو فينتوسْهيس.
التعليقات لهذا الفصل " 60"