6
— لايلا.
— لايلا كريسلاد.
— استيقظي.
تنفّست لايلا فجأة وكأنها أُنتُشلت للتو من تحت الماء ومع امتلاء رئتيها، اللتين كانتا مشدودتين حدّ الألم، بالهواء، بدأت ملامح وجهها التي كانت متيبّسة في التحرك أخيرًا.
وبينما كانت تلهث وتدير رأسها، ظهرت لها ملامح يوستار كان قد أسند ظهره إلى جذع شجرة قديم، فيما كانت لايلا مستلقية على عشب ناعم بدا عليه بعض الإرهاق، غير أن ملامحه كانت هادئة.
“لقد استيقظتِ.”
“…هل أغمي عليّ؟”
أومأ يوستار برأسه مبتسمًا بلطف وعلى مفصل إحدى أصابعه المنحنية بلين، كان يرقد ذباب صغير.
“يبدو أنها المرة الأولى لكِ مع ’الإسقاط‘، أليس كذلك؟”
قطّبت رايلا حاجبيها.
“تقصد التلبّس؟”
“يشبهه، لكنه مختلف قليلًا التلبّس هو عندما يستعير الشبح جسد الوسيط، ويمكنه حينها الحديث بصوته، وقد يُظهِر الوسيط قُدرات لا يمتلكها عادة بسبب تأثير الروح مثلًا… أجل لو تم طعن وسيط في حالة تلبّس تام، فماذا سيحدث؟”
أجابت رايلا، وهي ترمش بعينيها مستلقية، وكأنها تزفر:
“إن كان التلبّس تامًّا كما تقول، فلن يحدث شيء إن طُعن الوسيط الجسد جسده، لكن السيطرة تكون للروح.”
ضحك يوستار.
“صحيح هذا هو التلبّس أما ’الإسقاط‘، فهو ليس تلبّسًا بالمعنى الدقيق هو أقرب إلى النظر في الذكريات الجوهرية للروح بحسب الطريقة ومدى التعاون، قد يكون الأمر شبيهًا بالتجسس على مذكرات سرية، أو مجرد قراءة إعلان معلق في الساحة العامة.”
تأملت لايلا قليلًا ثم قالت:
“إذًا لهذا استطعت رؤية ما حدث للطفل بين كان ذلك ’إسقاطًا‘.”
“صحيح عادة ما تكون التجربة صادمة في البداية.”
جلست رايلا ببطء، تشعر بالدوار.
“وماذا حدث بعد ذلك؟ أعني ’الربط‘… والشبح أيضًا…”
“آه، تم التعامل مع ذلك الربط اختفى تمامًا.”
شعرت لايلا بقلق غريب حيال قوله “تم التعامل معه” وتذكرت روح الصبي الصغير وهي تُسحب نحو يد يوستار كانت ممدودة بشكل غريب، كأنها شُدّت قسرًا، وكانت تتألم… كانت تصرخ…
وفجأة، عادت إلى ذاكرتها حادثة الغابة حتى في ذلك الوقت، قضى يوستار على أرواح أولئك الأطفال دون أن يرمش ثم أطعمهم شيئًا ما.
نهض يوستار.
“بفضلك، تمكنّا من حلّ الأمر بسهولة شكرًا لكِ، لايلا.”
وفي تلك اللحظة، رأت لايلا خلف كتفه دخانًا داكنًا خفيفًا يتلاشى لكن عندما رمشت، اختفى تمامًا.
لابد أن ذلك مجرد خداع بصري بسبب الظلام، فكرت لايلا وربما الطريقة التي أزال بها تلك الجوهرة لم تكن سوى خدعة بصرية أيضًا، أو أداة سحرية غريبة…
“هيا، لايلا انهضي ، سأوصلك إلى المنزل.”
نظرت لايلا إلى يده الممدودة أمامها لم يكن يرتدي قفازًا، رغم أنه كان يرتديه قبل لحظات، ولفت انتباهها خاتم غريب في إصبعه الأوسط.
حجر أزرق مقطوع على شكل سباعي، ربما ياقوت أو حجر آخر؟ بدا غير متوازن بعض الشيء، لكنه جذب قلبها بطريقة غريبة.
“ذلك الخاتم…”
رفع يوستار يده اليمنى أمامها.
“تقصدين هذا؟”
“ما نوعه؟”
لكن قبل أن يُجيب يوستار، توقفت لايلا فجأة عن السير عيناها الحمراوان اشتدّتا لمعانًا واشتعلا وهجًا.
كانت هناك نيران.
“لايلا!”
أخذ يوستار يركض خلفها بسرعة، بينما كانت لايلا تركض بجنون، وشعرها القصير المتدلي حتى كتفيها يتطاير خلفها.
كان منزلها يحترق.
ينبعث منه دخان كثيف أسود كالكابوس، ولهيب أحمر يشبه ألسنة الشياطين يلعق سماء الليل المشؤوم في ليزيكوس.
ركضت لايلا غير آبهة بالخدوش التي خلفتها الأغصان على وجهها وتوقفت عندما سمعت صوت سقوط أحد الأعمدة.
“ها هي هناك!”
صرخ أحد سكان القرية الذين كانوا يحيطون بمنزلها المحترق، وهو يحدق بها بنظرة شرسة.
وعندها فقط، أدركت لايلا أن جميع سكان ليزيكوس جاؤوا ليحرقوا منزلها رأتهم يحملون المشاعل والمناجل، وأدوات حادة كأنها سكاكين محاريث شُحذت نهاياتها.
ليقتلوني فكّرت لايلا.
كانت وجوههم ملطخة بالسخام، تعكس ضوء النيران، فبدت حمراء كالدم وتذكّرت لايلا ما كانت تقوله لها أمها دومًا.
لايلا ، إن الشياطين…
— للشياطين وجوه تشبه ألسنة اللهب.
“أيتها الساحرة! أعيدي إليّ طفلي!”
“أحرقوها حية!”
تطايرت الحجارة نحوها لم تصب أيٌّ منها لايلا ، لكن عدائية القوم كانت مروّعة.
بدوا وكأنهم على وشك رميها في ألسنة اللهب في أي لحظة، ليستمتعوا بعويلها ويتراقصوا على صراخها كما لو كان أنغامًا.
“ما الذي تفعلونه بحق السماء؟!”
صرخ يوستار، فالتفتت إليه أنظارهم الغاضبة دفعة واحدة البعض منهم رفع منجله مهددًا، لكن البعض الآخر بدا مترددًا قليلًا.
“تلك الساحرة هي من قتلت الأطفال!”
صرخ رجل وجهه محمر، مشيرًا إلى لايلا فوقف يوستار أمامها يحجبها عنه، وابتسم ابتسامة هادئة.
“أنتم مخطئون. لم تكن لايلا من قتل الأطفال.”
“كفّ عن الهراء! من غير تلك الساحرة يفعل أمرًا كهذا؟ لا بد أنك شريكها! أيها الشيطان الذي يبيت مع الساحرة!”
كادت لايلا أن تتقدم، غير قادرة على تحمّل هذه الشتائم، لكن يوستار أوقفها بحركة خفية بالكاد تُلاحظ.
“آسف إن خيبت ظنكم، لكنني لست شيطانًا أنا مجرد إنسان عادي.”
“اصمت أيها الكذاب!”
أمسك الرجل بحجر كبير، لكنه قبل أن يتمكن من رميه، انبثقت فجأة من تحت قدميه نباتات سميكة خشنة.
“م… ما هذا! آاااه!”
هاج جسد الرجل الملتف باللبلاب وارتجفت يده، ثم سقط الحجر من يده على الأرض حدّق الناس بوجوه ملؤها الرعب، مشهرين أدواتهم الزراعية أكثر وهم يوجهون أصابعهم نحو لايلا.
“إنها ساحرة! هذه من فعل الساحرة!”
“أحرقوها فورًا!”
في تلك اللحظة، لم تعد لايلا قادرة على التحمل، فصرخت بصوت عالٍ من خلف يوستار:
“لم أفعلها أنا!”
قال يوستار:
“كلامها صحيح ما حدث للتو، أنا من فعله لا تقلقوا، ليس سحرًا شيطانيًّا أو ما شابه، بل هو مجرد أداة سحرية تُستخدم في صيد الوحوش.”
كان سكان قرية ريجيكوس الصغيرة والمعزولة يجهلون كل ما يتعلق بالوحوش أو الأدوات السحرية ورغم أنهم كانوا قد سمعوا بها من قبل، إلا أنهم لم يتخيلوا أنها حقيقية فعلًا.
وبينما كان القرويون مترددين، كانت نيران بيت لايلا تواصل الاشتعال بلا رحمة انهارت العوارض الخشبية، ولم يعد السقف مرئيًا وفجأة تذكرت لايلا كرسي والدتها — ذلك الكرسي العتيق الذي كان يصدر صريرًا مزعجًا لمجرد الجلوس عليه.
قالت والدتها إنها أنجبتها عليه، وهناك أيضًا ودّعت الحياة من المؤكد أن ذلك الكرسي قد احترق بالكامل، تمامًا كما السرير القديم، ومهد الطفل الذي لا يُعرف عمره، والأعشاب المجففة، وتلك الكتب القليلة…
قال يوستار:
“الأطفال الذين ماتوا في هذه القرية، أولادكم، لم يكونوا ضحايا لايلا، بل ضحايا شبح سينك أنتم من خلق هذا الشبح الطفل الميت، بين… لا بد أنكم تعرفون من هو.”
بدأ الاضطراب يسري بين الحشود أطلق البعض صرخات، وكاد بعضهم أن ينهار من الصدمة والد تومي، الذي كان يحمل منجلًا مسنًّا حتى لمع، صرخ وهو يجهش بالبكاء:
“ما هذا الهراء الذي تقوله! إذا كنت تريد الموت مع تلك الساحرة، فسأحرقك معها!”
تقدّم غاضبًا بخطى ثقيلة، وكلما لوّح بذراعه، انطلق صوت الهواء وهو يُمزّق بواسطة نصل المنجل، وأقدامه المغطاة بحذاء جلدي بالٍ كانت تثير الغبار في كل خطوة.
لم أعد أتحمّل ، فكّرت لايلا لا يمكنني الاحتمال أكثر…
عاد الألم الذي ظنّت أنه اختفى، وغرز أنيابه في أعماق جسدها كان أشبه بلدغة أفعى، وصرخت لايلا من شدته:
“ابنك هو من قتل بين!”
تجمد جسد الرجل الذي كان على وشك أن يهوي بالمنجل نحو يوستار كما لو تحوّل إلى حجر شهق بعض الحاضرين، والنيران التي حولت منزل لايلا إلى رماد بدأت تلتهم العشب والأشجار وكأنها تبحث عن ضحية جديدة.
قال الرجل، ووجهه مشدود وعيونه جاحظة:
“ما… ما الذي تُهذي به، أيتها الساحرة القذرة؟! ماذا قلتِ عن ابني؟! تجرؤين على اتهام ابني؟!”
رفعت لايلا عينيها الحمراوين وحدّقت فيه بقوة.
“أنت تعرف أكثر من أي أحد أن هذا ليس افتراء حين عُثر على جثة بين، أخبرك تومي بكل شيء وأنت، لكي تخفي الحقيقة، رميت جثتي الطفلين كما يُرمى اللحم الفاسد وأنتم أيضًا… أنتم جميعًا كنتم تعرفون، لكنكم آثرتم الصمت! بينما كانت الحيوانات تنهش أحشاءهم، أنتم عجزتم عن تقبّل أن أبناءكم ارتكبوا جريمة قتل!”
شحبَت وجوه الناس، سواء من كانوا يعلمون بالحقيقة أو من لم يكونوا يعرفون خنقهم الارتباك الذي تسلل بينهم، حتى إن لايلا شعرت بالغثيان من ذلك المشهد.
كراش! — صوت جدار آخر ينهار، كان آخر ما تبقى من منزلها لهب النار تراقص فوق وجهها، وكانت عيناها المتسعتان توحيان بأن لعنة ما ستنفجر منهما في أي لحظة.
“أخرجوا من هنا فورًا إن لم تغادروا جميعًا، فسأرميكم في تلك النيران بنفسي أنا ساحرة، ولدي القدرة على فعل ذلك.”
تراجع أحدهم خطوة إلى الخلف ويبدو أن تلك الخطوة كانت كإشارة إطلاق، فصرخ الناس وتفرّقوا يركضون في كل الاتجاهات.
حتى والد تومي، الذي كان أشدهم غضبًا، كان أول من اختفى بين أشجار الغابة، ولم يبقَ أمام يوستار ولايلا سوى بقايا المنزل المحترق ولسان اللهب الذي ما زال يتلوّى.
حدّقت لايلا بذهول في منزلها المحترق لم تكن تحبه، لكنها كانت تعتبره كل شيء لها منذ لحظة ولادتها وحتى الآن، كان ذلك البيت هو عالمها الوحيد.
قال يوستار:
“تعالي معي، لايلا.”
قهقهت لايلا بمرارة وقالت:
“إلى أين؟ لا يمكنني العيش في أي مكان كما ينبغي أنت تعرف السبب بسبب هذا الشعر… وهذه العينين.”
“لقد أخبرتك عيناكِ جميلتان، ومميزتان وأنا بحاجة لهاتين العينين ساعديني، أرجوك.”
مدّ يده اليمنى نحوها وفجأة، راود لايلا ذلك الإحساس الغريب مرة أخرى — رغبة ملحة في اتباعه، شعور راسخ بأنها لا تريد أن ترفضه شعور كالمسمار المغروز في صدرها.
لم تجب، بل مدت يدها بتردد وأمسكت بيده.
وذلك الدفء الفاتر الذي انساب منها، قبض عليها بشدة.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 منتدى المانهوا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 منتدى الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 6"