دخل الاثنان إلى مدخل هويرْهيرس كانت لايلا تعبث بالشارة المثبّتة على صدرها وهي تحدّق في المشهد المهجور بلا حراك.
“بدأت أفكّر… لعلّ الذهاب إلى فينتوسْهيس كان أفضل.”
“حتى لو ذهبنا إلى هناك لراودك الشعور نفسه، يا لايلا.”
لكنّه فهم جيداً سبب قولها ذلك فما إن بدأت تظهر أسقف ونوافذ البيوت عند مدخل القرية حتى بدا كل شيء مشحوناً بانطباعٍ مزعج.
“البيوت ما تزال متماسكة نسبياً يبدو أنّه مضى عليها ما لا يقل عن عشر سنوات بلا سكّان.”
وقد وافقته لايلا الرأي.
فمنذ اللحظة التي يكفّ فيها البشر عن السكن، تبدأ البيوت بالاضمحلال بسرعة.
ينمو العفن والإِسْفِنْج على الجدران والأرض، وتتسرّب الرطوبة الكثيفة فتجعل العوارض الخشبية تتآكل يهبط السقف وتتشقق النوافذ، ومع غياب من يقوم بصيانة المكان، لا يمر عامان أو ثلاثة حتى لا يبقى سوى أثر باهت لما كان يوماً بيتاً.
لم يكن ذلك ظاهرة غريبة، ولا عبثاً من الأشباح، بل كان قوة الزمن الطبيعية.
غير أنّ بيوت هويرْهيس ،وإن كانت تصدر أصواتاً موحشة وتبقى فارغة، إلا أنها لم تنهَر كما في الخرائب وكأنّ شيئاً غير مرئي يحافظ عليها قائمة.
اقتربت لايلا من أقرب بيت ولامست الجدار الخارجي.
“إنه بارد جداً.”
“ألِأنّه من حجر فقط؟”
هزّت رأسها نافية
“لا أظن أنّ هذا السبب وحده جرّب أنت أيضاً.”
ثم أمسكت بمعصمه وسحبته لتجعله يلمس الجدار انكمش طرف أصابعه للحظة من المفاجأة، ثم بسط يده ببطء وقد ارتسمت على وجهه ملامح ذات معنى.
وما إن لامست راحة يده سطح الحائط الحجري الخشن حتى دوّى في رأسه صوت يشبه صفير ريحٍ حادّ ارتجف يوستار وسحب يده فوراً.
“أرأيت؟”
لم يُجب يوستار سريعاً، لكن ملامحه وحدها كانت كافية لتُثبت صحّة قولها.
تراجع خطوة عن البيت، ثم رفع رأسه ينظر إلى السقف الذي ما زال محتفظاً بشكله.
كان بين العوارض الخشبية عشب نابت وحشائش متشابكة، إضافة إلى أعشاشٍ مهجورة تركتها الطيور… لا أكثر ومع ذلك كان ينبغي أن يكون السقف قد تعفّن وزال منذ زمن بعيد.
تمتم يوستار وكأنه يخاطب نفسه
“ما السبب يا ترى؟”
دهشت لايلا في سرّها، فقد شعرت بأنّه متوتر قليلاً لم تره في حياتها يضطرب أمام شيء، لكن هذه القرية كانت تُربكه على غير عادته.
“هناك شيء ما ما يزال هنا.”
“روح؟ أم بقايا ضغينة؟”
“ربما ، وربما كلاهما لكنّه ليس شيئاً واحداً إنه ضعيف وصغير… لكنه متعدد كأسراب النمل تماماً.”
كان كلامها غريباً بقدر ما كان مؤثّراً هزّ يوستار رأسه محاولاً نفض شعوره المريب.
“حسناً… أسراب نمل إذن قولك هذا يبعث بعض الطمأنينة فعلى الأقل يمكننا أن ندوسها.”
غير أنّهما رغم تجوالهما في هويرْهيس لم يعثرا على شيء يُرى بالعين.
سار الاثنان أولاً عبر الطريق الرئيسي، يفتّشان البيوت واحداً تلو الآخر.
كانت الجدران جميعها مبنية من الحجر كما رأيا عند المدخل، ومع كل محاولة للمسها كان نفس البرد الغريب ينتقل إلى اليد ورغم أنّ الشمس كانت ما تزال في السماء، إلا أنّ داخل كل بيت كان شاحباً ومظلماً.
“انظري هناك، يا لايلا.”
رفعت رأسها إلى حيث كان يشير، فرأت قصرًا صغيرًا كان مشيّداً على بقعة أكثر ارتفاعاً من بقية البيوت، ومحاطاً بسياج حسن الصنع وكانت الجدران مغطاة بنبات متسلق اللبلاب.
“يشبه منازل أمراء الإقطاع أرأيت الشرفة في القمّة؟ كان يمكن لمن يقف هناك أن يرى القرية كلها.”
وضعت لايلا يدها فوق عينيها لتحجب عنها أشعة الشمس.
كانت الشرفة الأمامية نصف دائرية، وخلفها نافذة طويلة تُفتَح من الجانبين وكما في البيوت الأخرى، لم تكن هناك أي نافذة مكسورة.
كان القصر يبدو مهيباً، ذا هيبة باردة تشبه معبداً متجهمًا لا يقبل الانهيار وبينما كانت ترفع بصرها نحو الجدار الحجري القاسي أشارت لايلا نحو الشرفة.
“أنظر هناك اللبلاب.”
“لبلاب؟ إنه يغطي الجدار كله.”
“لا، أنظر جيداً إلى جهة الشرفة، يا يوستار.”
كان الموضع الذي أشارت إليه مختفياً خلف عمود زخرفي بارز وما إن تقدّم خطوتين حتى رأى ما تعنيه.
“لقد تجدّلت الأغصان عمداً.”
“يمكن تسلقها للوصول إلى الأعلى لا بد أنّ أحدهم صنعها عمداً… لكن لماذا؟”
“ربما كان ذلك لأجل لقاءٍ سرّي لعلّ أحد أصحاب القصر كان يستدعي عشيقته الجميلة إلى هنا ليلتقيا خفية، بعيداً عن أعين زوجته.”
احمرّ وجه لايلا قليلاً، ثم تجمّد تعبيرها فجأة كأن الغضب استولى عليها ورأى يوستار في هذا التحوّل السريع شيئاً طريفاً، لكنه أدرك أن الوقت غير مناسب للمداعبة.
أنهيا طوافاً كاملاً في هويرْهيس ،دون أن يحصلا على أي شيء ذي قيمة لم يكن هناك سوى بيوت فارغة وحدائق يابسة تحتاج إلى الحرث لكن المشكلة الأكبر كانت شيئاً آخر.
قال يوستار وهو يقبض على السيكر
“ما زال لا يتحرّك.”
فالأداة السحرية التي ترصد الـسينك بقيت صامتة تماماً كانت الإبرة ترتعش قليلاً ثم تعود إلى الجمود، والمسافة إلى السينك لم تُقاس مطلقاً.
“ألا يمكن أن يكون يظهر ويختفي كما من قبل؟”
“ربما… لكنك قرأتِ التقرير، صحيح؟ لو حدث شيء كهذا لكانوا أرسلوا حملة تفتيش كبيرة إلى المنطقة فذلك ليس أمراً شائعاً.”
“وماذا لو اختفى طبيعياً؟”
“ملاحظة ذكية الأمر نادر جداً، لكنه ممكن لكن ألا ترين أنّ التوقيت مريب؟ لقد كان السينك موجوداً بوضوح حتى قبل ثلاثة أو أربعة أيام… ثم يختفي بالضبط في اللحظة التي نصل فيها؟”
لمسّت لايلا طرف أنفها وشفتيها تفكّر ملياً
“أرى أن نذهب إلى فينتوسْهيس”
فأومأ يوستار موافقاً
“نعم، لعلنا نجد هناك شيئاً مهما.”
عادا إلى حيث يقف اللوح الإرشادي، فرأيا شيخاً يجلس تحت شجرة التنوب.
كان ظهره محنيًّا، وكاحلاه النحيلان الظاهران أسفل سرواله المرفوع يشبهان عظاماً بارزة وكان لون بشرته داكناً، تغطيه بقع الشيخوخة، كأنه قضى حياته كلّها في العمل الشاق.
أضاق الشيخ عينيه المليئتين بالتجاعيد حين رأى الاثنين يخرجان من جهة هويرْهيس قال
“أأنتم أشباح؟ أم بشر؟”
ابتسم يوستار
“لحسن الحظ… نحن بشر.”
“لكن لماذا تخرجان من هناك إذن؟”
“جئنا للتحقيق في أمرٍ ما نحن فرسان تابعون لتينتينيلا وردتنا تقارير عن كثيرين واجهوا أموراً غريبة في هذه المنطقة، فجئنا لنبحث ونتقصّى.”
فجأة ارتسم على وجه الشيخ ابتسامة ساخرة باردة.
“أليست قرية غريبة؟ لقد اقترح الجميع هدم تلك الأماكن المقززة، لكن في النهاية لم يجرؤ أحد على الاقتراب كان الخوف من اللعنة يمنعهم.”
تبادلا يوستار ولايلا النظرات.
ومرت عبرهما همسات الريح القادمة من أسفل الجبل، تحمل سحرها لتبوح لهما بما لا يرغبان في معرفته من الرؤى.
وارتعشت الأغصان وأصدرت صوت خشخشة، فيما طوت الطيور أجنحتها واختبأت تحت ظل الأوراق.
اقترب يوستار خطوة نحو الشيخ وعلى الرغم من ضعفه الذي كان يُجبره للاتكاء على عصاه حتى وهو جالس، إلا أن نظره كان شرساً ثابتًا على يوستار.
“هل تعرف شيئاً عن القريتين، أيها السيد؟”
“وماذا ستفعلون بذلك إذن؟”
نظر إليه يوستار بجدية
“لا شيء، أيها السيد لن نؤذيك على الإطلاق لكن… إذا كان لديك علم بما يخص القريتين، هل يمكنك أن تخبرنا؟”
تبادل الشيخ نظراته مع الاثنين بعيون مليئة بالمعنى، كما لو كان مجرماً يتجنّب رجال الشرطة، متحفظاً وحذراً، متقدّماً في العمر ومحنكاً.
“ فينتوسْهيس و هويرْهيس هما أسماء القرى، وأيضاً أسماء العائلات آخر من حكم كل أسرة كان تورفن فينتوسْهيس وبيماير هوييرهيس.”
مدّ يده إلى ذقنه المليء بالتجاعيد، وفركه ببطء، ثم صمت طويلاً ربما استغرقه استرجاع الذكريات القديمة وقتاً، أو ربما غرق في التفكير وحده، لم يكن واضحاً.
“إذن، كل من عاش في تلك القرى كان من العائلة أو الأقارب؟”
ابتسم الشيخ ابتسامة خفيفة، وكأنّه يفكّر في نفسه، ثم ضرب الأرض بعصاه.
“بالضبط هاتان القريتان عبارة عن تجمعات عائلية قديمة جداً هيلروس… ربما كانت تلك القرية موجودة منذ زمن بعيد، قبل ظهور بينتوسهيس وهوييرهيس وقصور رؤساء العائلات تشبه قلاع الأمراء القدامى، ربما عاش فيها الأمراء فعلاً يوماً ما، وهم الذين كانوا يملكون الفلاحين ويستعبدونهم.”
وأثناء أن يوستار كان على وشك قول شيء، ضحك الشيخ بصوت أجش
“عند مفترق الطريق، هنا حيث نقف الآن، قيل إنّ اليوم الذي يلتقي فيه أهل القريتين هو اليوم الذي يشتري فيه الحارس الخمر.”
“ماذا يعني ذلك؟”
حدّق الشيخ في الاثنين بصمت.
“اليمين واليسار لا يمكن أن يتواجدا معًا إنهما يصرّان على السير في اتجاهين متعاكسين إلى الأبد هل فهمتِ ما أعنيه؟”
أخذت لايلا لحظة للتفكير، ثم أجابت
“كان بينهما خلاف شديد، أليس كذلك؟”
يوم شراء الحارس للخمر… هذا يعني أن الحارس كان يربح الكثير من المال فحين يلتقي أهل القريتين، كان لا بدّ أن يسقط شخص ما…
حدّق الشيخ في لايلا بدقة أكبر، ثم تابع الكلام
“أهل العائلتين لم يستطيعوا حتى احتمال مصادفة لقاء بعضهم البعض، فأقاموا قاعدة واحدة قاعدة غريبة جدًا… كانوا يتناوبون كل خمسة عشر يوماً على الخروج إلى قرية هيلروس، لشراء حاجاتهم أو لأمور أخرى في ذلك الوقت لم تكن هيلروس قرية منفصلة، بل كانت نوعًا من الأحياء التجارية.”
“وماذا بعد؟”
استغرق الشيخ بعض الوقت قبل أن يفتح فمه مجددًا زحفت نملة صغيرة ببطء تحت حذائه الجلدي المهترئ.
“حين التزموا بالقاعدة، كان الوضع هادئًا إلى حدّ ما لكن في هوييرهيس حدث أمر كسر فيه أحدهم القاعدة.”
في تلك اللحظة، ارتجف صوت الشيخ، الذي بدا طوال الوقت هادئاً، للمرة الأولى حاول يوستار تمرير يده على عصاه بإيماءة طمأنة، لكن الشيخ أزاح كتفه بعناد ورفض المساعدة.
“من، ولماذا خالف القاعدة؟”
ارتفع صدر الشيخ في نفس عميق، وظهر من نفسه رائحة عطر قديم تشبه مرهمًا متروكًا منذ زمن.
“امرأة من هوييرهيس تُدعى كاولي ولدت قبل أوانها، ولم يتمكّن الطفل المولود من التنفس بشكل طبيعي لذا كان عليهم الخروج من القرية لاستدعاء طبيب يعيش في الحي التجاري… لكن شبان فينتوسْهيس الذين كانوا يحرسون مفترق الطريق أوقفوهم ومنعوهم من المرور.”
التعليقات لهذا الفصل " 59"