ارتسمت على وجه الرجل فجأةً ملامح من الارتباك أمام جدّية لايلا، غير أنّ لايلا كانت تستطيع أن تدرك أنّه لا يتفوه بكلام فارغ.
لقد شعرتُ—كما لو كانت حيواناً يلتقط اهتزازات زلزال—بأنّ هذا الرجل يحمل همّاً عظيماً بالفعل.
“ذلك….”
شرعت لايلا في الكلام ثم أطبقت شفتيها فعندها قال الرجل
“دونوفان ذلك هو اسمي ناديني دونوفان واسم ابنتي هو أليس.”
هزّت لايلا رأسها لتُظهر أنّها فهمت.
“ما المشكلة التي تعانيها أليس؟”
تنهد دونوفان.
“لقد كانت منذ ولادتها ذات هيئة… مختلفة قليلاً عن الآخرين ستفهمين عندما تلقينها بعد قليل، فوجهها… لا، بل إنه قبيح للغاية كأنّها مصابة بحروق أمّا قلبها فطيب، طيب إلى حدٍّ لا يوصف لستُ أقول هذا لأنها ابنتي، بل لأنّها الحقيقة لكن بسبب وجهها تبقى دائماً منكمشة على نفسها، وهذا ما يؤلم قلبي….”
رمشت لايلا ببطء انعكست كتفا دونوفان المنكمشتان في عينيها الحمراوين، واستقرت نظرتها على أطراف أصابعه المرتجفة.
إنه يكذب هكذا فكرت لايلا.
لو كان كلام دونوفان صحيحاً لكان بالإمكان إيجاد طريقة باستخدام سينك.
لكن القلق المفاجئ الذي اجتاحها في اللحظة التي تحدّث فيها عن ابنته—ذلك الخوف الذي انساب على طول عمودها الفقري—كان ينذر بأمر أشدّ خطورة بكثير.
“إنت تكذب، أليس كذلك؟”
حدّق دونوفان في لايلا بذهول شفاهه اهتزّت لكنّه لم يستطع في النهاية أن ينكر شيئاً.
ولما ساد الصمت، أخذ يوسـتار يحدّق في دونوفان بنظرة جديدة مختلفة.
كان العثور على سينك الموجود في مكان ما بالقرب من هنا أمراً مهماً، ولكن إذا كان دونوفان يخفي شيئاً آخر كما قالت لايلا، فلا يمكن تجاوز الأمر ببساطة.
“السيد دونوفان.”
ارتجّف بصر دونوفان حين سمع صوت يوسـتار كان صوته منخفضاً، كصوت رجل غارق في التفكير، غير أنّ فيه هيبة لا يمكن مقاومتها.
“هل ما قالته زميلتي صحيح؟ هل تخفي شيئاً يتعلق بابنتك؟”
تنهد دونوفان تنهيده عميقه ، وقد تلاشت منه تماماً تلك النبرة الخشنة المتهوره التي كان يتحدث بها قبل قليل بدا وكأنّ الخوف نفسه أخذ يتسلل إلى قلبه.
تبادل يوسـتار ولايلا النظرات وكان حدسهما ينبئ بأن الأمر ليس هيّناً.
وبعد ترددٍ طويل، قال دونوفان بصعوبة
“إنها… عندما يحل الليل، تقوم بتصرفات غريبة.”
“تصرفات غريبة؟”
سأل يوسـتار بسرعة أطبق دونوفان شفتيه الداكنتين ثم عضّهما من الداخل، ومسح وجهه براحته بقوة.
“ لا أعلم كيف أصف الأمر في أحد الأيام، ارتدت جميع ثيابها بالمقلوب وركضت في الممر وفي يوم آخر، كانت تتأرجح من الدرابزين، مائلة جسدها كما لو كانت على وشك القفز وحدث أيضًا أن رأيتها تسير على أربع—أي مثل الكلب—تصعد وتنزل الدرج كالحيوان. ”
لم تعرف لايلا للحظة ما الذي ينبغي أن تقوله لكن لو كان ما يقوله صحيحاً، فلابد أنّ لدى أليس مشكلة حقيقية، مشكلة خطيرة جداً.
“وماذا فعلتَ أنت حين يحدث ذلك؟”
رفع دونوفان رأسه، وقد علت وجهه ملامح فزع.
كانت عيناه الغائرتان تُشبهان عيني مريض، وهذا ما جعل يوسـتار يتذكر أود للحظة—ذلك الرجل الذي يعاني من الكوابيس والهلوسات فلا يهنأ بنوم ليلة واحدة—وكأنّ حاله يشبه حال دونوفان.
“أنا… أنا لم أفعل شيئاً.”
حدّقت لايلا فيه بصمت كانت عيناها تحملان من المعاني ما يصعب على يوسـتار نفسه فهمه مزيجاً من اللوم والشفقة والغضب، ومشاعر لا حصر لها تتلاطم في داخلها.
“لم تفعل شيئاً.”
رددت لايلا كلمات دونوفان.
فغطّى دونوفان عينيه براحة يده وقطّب حاجبيه بدا وكأنه شهقه خفيفة، لكنه لم يكن يبكي لقد كان فقط يتخذ هيئة من على وشك البكاء.
“وماذا كنتُ… ماذا كنت أستطيع أن أفعل؟ إنها ابنتي الوحيدة، التي ربيتها بيدي منذ أن كانت ملفوفةً في لفائف القماش حاولتُ أن أسألها برفق عن سبب تصرفاتها الغريبة، لكنها في النهار لا تتذكر شيئًا! بل كانت تضحك قائلةً إنّه مجرد حلمٍ سيئ فماذا كنتُ لأفعل أكثر من ذلك؟ وعندما يحل الليل، لا يغمرني النوم ولا يغلق جفني، وأسمع أصواتًا غريبة في الخارج تجعل قلبي يخفق من الخوف، ولا أجرؤ حتى على فتح الباب. كأنّ… كأنّ …”
تعثرت كلماته وخف صوته فأنهى يوسـتار الجملة عنه
“كأنها ليست ابنتك، بل شيء آخر. أليس كذلك، سيد دونوفان؟”
ظل دونوفان صامتاً حتى لو كان كلام يوسـتار صحيحاً، بدا وكأنه لا يريد الاعتراف به.
وبينما كان يوسـتار يفكر بعمق، قالت لايلا
“علينا أن نرى بأنفسنا ما الذي يحدث لأليس لا يمكن إيجاد حل ما لم نعرف المشكلة.”
“هذا يعني… هذا يعني أنّكما ستساعدانني؟”
“فهذا ما وُجدت لأجله منظمة تِنتينيلّا.”
ثم نظرت لايلا إلى يوسـتار بطرف عينها، كأنها تطلب تأكيده.
ابتسم يوسـتار وهزّ رأسه موافقاً.
“بالطبع، سيد دونوفان كما قالت زميلتي الآنسة كريسْراد، فتنـتـيـنيلّا مؤسّسة وُجدت لخدمة كل مواطني سيرو مهمّتنا أن ننقذ من يمرون بتجارب غريبة وغير مفهومة من عذابهم.”
عندها انفجرت دموع دونوفان أخيراً، وأخذ يطأطئ رأسه حتى خصره وهو يشكرهما مراراً.
لكن يوسـتار هدّأه أولاً، فلكل شيءٍ ترتيب.
“علينا نحن الاثنين أن نقوم ببعض الأمور أولاً ولأن ما يحدث الآنسة أليس يقع في منتصف الليل، فسنعود قبل ذلك هناك أمر واحد نريد معرفته.”
هزّ دونوفان رأسه بسرعة.
“أي شيء… أي شيء تريدان معرفته.”
لمع بريق خفيف في العينين الخضراوين
“أين تحديداً في القرية ذلك المكان الذي يرى فيه الناس الهلوسات… أو يختفون؟”
***
تقلصت النظرات الموجهة إلى الشخصين الغريبين بعد أن ابتعدا عن الشارع الرئيسي للقرية، ولم تعد تلاحقهما إلا نادرًا.
كان بعض الأطفال الفضوليين يحاولون اللحاق بهما بخطوات خفية، لكن ما إن التفتت لايلا نحوهم لمجرد نظرة جانبية، حتى ضحكوا مع بعضهم البعض وتظاهروا بالهرب.
“يبدو أنني أصبحت كالأب للأوز الصغير، أليس كذلك؟”
قال يوسـتار نظرت إليه لايلا بدهشة، ثم أمالت بصرها نحو بعض الأطفال المتمسكين باللحاق بهما، قبل أن تعاود النظر إلى الأمام.
“هل يمكنك فعل شيء بشأن هؤلاء الأطفال الذين يواصلون تتبّعنا؟”
“أظن أنّ صغار الأوز لو رأت أمّها تحمل عصًا صغيرة، لهربت فورًا خوفًا من العقاب.”
علت على كلماته ابتسامة لطيفة صمتت لايلا لحظة، ثم نظرت إليه مجددًا.
“هل تقول إنني أنا الأم؟”
“وإذا لم تكن أنتِ، فمن تكون؟ ألا يعجبك أن تكوني الأم؟”
من يحب أن يصبح أمًا لأوز؟ شعرت لايلا بالإحراج حين جمعت حاجبيها في خط واحد، ثم توقفت فجأة عن المشي نظر إليها يوسـتار بدهشة.
حين استدارت لايلا بسرعة، تجمد الأطفال المشاكسون الذين كانوا يلاحقونها، وهم يبتلعون ريقهم من شدة الخوف.
الشعر الأسود والعينان الحمراوان… كانت ملامحها مطابقة تمامًا لتلك التي تظهر في القصص عن الساحرة، فأصابت الأطفال رهبة مفاجئة.
التقت لايلا عيون كل واحد من الأطفال الخمسة أو الستة، وقالت بصوت غامض
“إذا استمررتِ في ملاحقتنا ، سأحوّلُكم إلى صغار أوز قبيحين.”
ساد صمت قصير… ثم عطس أحد الأطفال بقوة.
كأنّ ذلك كان الإشارة، فصرخ الأطفال جميعًا وركضوا في كل اتجاه سقط بعضهم على الطريق الترابي وبكوا بحرقة، فيما انزلق آخرون بين الأعشاب ليختبئوا.
تنهدت لايلا بازدراء، وأدارت ظهرها بفخر، بينما أغمض يوسـتار عينيه واضعًا يديه على جانبي فمه، يختنق بالضحك.
أخيرًا، لم يتمالك يوسـتار نفسه وانفجر ضاحكًا، وهز رأسه.
“ليس هذا بالضبط ما أعنيه… حسنًا، ربما قليلًا… لكن قولك إنك ستحولينهم إلى صغار أوز قبيحين، هو تهديد لطيف جدًا لساحرة.”
“لو كان تهديدي أكثر وحشية، لربما جاء آباؤهم ليحرقوني.”
“لطالما تقولين ذلك… لكن لا أحد يستطيع أن يمسّك بالنار، حتى شعلة صغيرة لن تجرؤ على الاقتراب منك، فلا تقلقي.”
ابتسمت لايلا داخليًا، وشعرت بدهشة غريبة؛ لم تشعر من قبل بهذا الدفء والارتياح لمجرد سماع كلمات كهذه لم يكن هناك صوت داخلي يزرع فيها شعورًا بالذنب أو التزامًا وهميًا، بل كان قلبها يفيض بسعادة صافية، مجرد استجابة صادقة لكلمات يوسـتار، لأول مرة في حياتها
سارا جنبًا إلى جنب في صمت لحظة، حتى وصلا إلى مدخل الطريق الضيق الذي لاحظته لايلا من على التل.
ومن بين الأغصان الكثيفة، أدركت أن القريتين المتداعيتين اللتين تظهران هناك تفوح منهما رائحة متشابهة للغاية، تنبئ بالخراب والوحشة.
“هناك رائحة.”
همست لايلا.
لم يكن الأمر مجرد رائحة يمكن إدراكها، بل شعر يوسـتار بسرعة أنها تشير إلى شيء آخر: كانت رائحة الفراغ والموت بلا عدد، رائحة الأشباح.
“هناك لافتة هناك.”
قال يوسـتار.
كانت نصف متعفنة ومخفية بين الأشجار، لكنهما تمكنّا من رؤية علامتين تشير إلى طريقين متفرعين.
مسحا الطحالب والعفن عن اللافتتين بيديهما، وقرآ النصوص المنقوشة عليهما.
“فينتوسْهيس.”
قرأ يوسـتار اللافتة اليسرى أولًا، ثم قرأت لايلا اللافتة اليمنى
“هويرْهيس.”
“يعني جهة اليسار واليمين، أليس كذلك؟”
“صحيح ، لا أعلم إذا كانت هذه أسماء القرى أم مجرد إشارات للاتجاه.”
ترددت لايلا لحظة، ثم هزّت يدها برفق وأزالت شارة من سترتها كانت دبوسًا صغيرًا مزينًا بشارة مسطحة تشبه الفضة.
“إذا ظهر الوجه الأمامي، نذهب إلى فينتوسْهيس، وإذا ظهر الجانب الخلفي بالدبوس، نذهب إلى هويرْهيس.”
“كما تقول القاعدة الكلاسيكية: الأسلوب الأقدم هو الأفضل هيا، أرمِ.”
نقرت لايلا بأصابعها، فصدر صوت تينغ ، ودارت الشارة في الهواء بسرعة.
التعليقات لهذا الفصل " 58"