ما إن خرجت لايلا من البوابة حتى قطّبت جبينها وفتحت فمها.
كان يخيل إليها وكأن طيناً لزجاً يملأ حلقها حتى عمقه، لكنها حين أخرجت لسانها لتتأكد لم تجد شيئاً.
“لماذا تكون البوابة دائماً هكذا؟”
تمتمت لايلا بتذمّر.
“ألا يمكنها أن تكتفي بنقلنا فحسب؟”
ابتسم يوستار ابتسامة خفيفة كمن يعتذر في الحقيقة لم يكن هو من صنع البوابة أصلاً، لذا لم يكن مضطراً للاعتذار…
لكنه كان يشعر ببعض المسؤولية على ما يبدو، فهو من أحضر لايلا إلى تينتينيلّا.
“السحرة فقط يحبّون صنع البوابات بهذه الطريقة الغريبة، ولا نستطيع فعل شيء حيال ذلك.”
“تجربة الغرق، وتجربة التحوّل إلى رمال على الشاطئ، والآن تجربة الوقوع في مستنقع لا أريد حتى أن أفكر في ما سيأتي لاحقاً.”
“لا تتخيلي مسبقاً إن فعلتِ فقد ترغبين بالهرب.”
لم يكن ذلك نصيحة مفيداً على الإطلاق، غير أن لايلا قررت أن من الأفضل لها اتباعه فليس يُستبعد أن يحدث أي شيء.
قد يكون أحد السحرة المجانين قد صنع وهماً يجعل الداخل يشعر وكأنه يُشوَى حيّاً بالنار ولو علمت بذلك مسبقاً لفضّلت أن تسير إلى وجهتها على أن تمر بالبوابة.
وبما أن هذه البوابة لم تكن موجودة في فرع رسمي، بل مجرد محطة عبور، فقد توقّف طنين الطاقة فيها فور نزولهما معاً.
نفضت لايلا بيدها حاشية زيّها الذي لم يلتصق به شيء، ثم ألقت نظرة نحو القرية الصغيرة الظاهرة أسفل التل.
“القرية تبدو غريبة الشكل.”
ولمّا أشارت لايلا إلى ذلك، رفع يوستار يده ليحجب الضوء عن عينيه، ثم ضيّق نظره وأومأ.
“صحيح لكن المكانين الواقعين في الأعلى… لم يعودا يستحقان أن يسمَّيا قرية منذ زمن طويل أليس كذلك؟”
القرية الواقعة مباشرة أسفل التل بدت منظراً مألوفاً يمكن رؤيته في أي مكان.
جدار خشبي يحيط بها على شكل دائري، وطريق المدخل يمتد يساراً ويميناً نحو الخارج غير أنّ المشكلة كانت الطريق الصغيرة المتجهة شمالاً، أي نحو سفح الجبل.
فقد انقسم الطريق إلى فرعين، أحدهما يتجه شرقاً والآخر غرباً، وفي نهايتهما بقايا قريتين صغيرتين كانتا موجودتين في الماضي.
لم تكن البيوت ولا المباني قد انهارت بالكامل، لكنها بدت باهتة بلون رمادي ضبابي بفعل الضباب، مما أضفى عليها جواً مخيفاً.
“هناك شيء ما…”
فتحت لايلا فمها بهدوء
“إنها تشبه… ريجيسكوس بعض الشيء ذلك الشعور نفسه.”
“تقصدين القرية في الأسفل؟”
هزّت لايلا رأسها.
“كلا، القرية في الأسفل لا مشكلة فيها.”
ثم رفعت إصبعها وأشارت إلى الخرابين البعيدين بالتناوب.
“المكانان هناك هما ما يشبه ذلك.”
كان يوستار يثق بحدس لايلا خصوصاً في مثل هذه المواقف… فإذا قالت إنهما يشبهان ريجيسكوس، فهذا يعني دون شك أنّ واحدة من تلك الخرابات قد شهدت حدوث سينك.
“قد يكون الأمر أقوى بسبب تأثير السينك لنبحث لنا أولاً عن مكان نقيم فيه، ثم نبدأ التحقيق وبحسب التقرير… يبدو أن هناك شائعات قديمة ذات صلة.”
“شائعات ذات صلة؟”
سألت لايلا، فناولها يوستار التقرير الذي كان يحمله عند خصره
“شائعات عن أشخاص يختفون… أو يضلّون طريقهم تحت تأثير هلوسات مستمرة.”
***
من أعلى التل لم يكن يبدو أنّ القرية بعيدة، غير أنّهما ما إن انعطفا إلى الطريق المتعرّج اللطيف حتى أدركا سريعاً أنّ ذلك لم يكن سوى خداعٍ للبصر.
كانت لايلا تنظر إلى القرية التي غدت كأنّها أبعد مما كانت عليه عند انطلاقهما، فقالت بغير اكتراث
“لقد أحسنتُ صنعاً باتّباع نصيحتك.”
“ماذا تعنين؟”
“أعني أنّني أحسنتُ صنعاً بتناول فطور الصباح.”
وحين رمش يرستار وبادر بالضحك، تابعت ليلا حديثها
“أنا جادّة ففي العادة لا أتناول الفطور إطلاقاً.”
“لا يُعقل هل هناك من لا يتناول فطور الصباح؟ أتقصدين أنّك كنتِ هكذا حتى قبل القدوم إلى القصر الملكي؟”
هزّت لايلا رأسها.
“كانت أمّي تقول إنّ تناول الطعام في الصباح يجعل المرء غير قادر على التركيز طوال اليوم وكانت تقول إنّ الجسد ينبغي أن يكون خفيفاً في الصباح لتُستعمل القدرة السحرية على نحوٍ جيّد.”
ثم رمقت يوستار بطرف عينها
“مضحك، أليس كذلك؟ أن تقول الساحرة مثل هذا الكلام.”
هزّ يوستار كتفيه.
“لا أراه مضحكاً على الإطلاق فالساحرة إنسانة مثل غيرها.”
اتّسعت عينا لايلا وهي تحدّق في يوستار مليًّا، كأنّها لم تتوقّع منه مثل هذا الجواب.
“لِمَ تنظرين إليّ بتلك الطريقة؟”
أطبقت لايلا شفتيها قليلاً وكأنّ الكلام اختنق في حلقها، ثم هزّت كتفيها بطريقة تُحاكي فعله.
غير أنّها لم تكن معتادة على فعل ذلك، فبدت حركتها غير متقنة، مما جعل يوستار يضحك بخفوت مرة أخرى.
“هل تُحاكينني الآن يا لايلا “
“كلا ماذا تقول؟”
“تتظاهرين بعدم المعرفة.”
“لم أكن أقلّدك.”
قالت لايلا بنبرة متدلّلة بعض الشيء، ثم أسرعت بخطاها.
فارتسمت على شفتي يوستار الذي تبعها، ابتسامة أكثر وضوحاً.
ضاق طرفا عيني يوستار وهو يتأمّل خصلات شعرها السوداء المتأرجحة بين عنقها وكتفيها، وفي نظره مسحةُ سرور.
في الليلة الماضية، استيقظ من سباتٍ خفيف في اللحظة نفسها التي أنهت فيها لايلا رسم الدائرة وبدأت تغفو.
سمعها تهمس بكلمات خافتة: استيقظ… ،ورآها تفقد وعيها وتستسلم للنوم قبل أن يتمكّن حتى من الردّ عليها.
أطفأ بعض الشموع التي كانت حوله ، ثم جذب جسدها النائم برفق، وضمّه إليه بحذر وهو يطوي كتفيه وبعد أن سحب الشرشف وغطّاها به جيداً، ظلّ يصغي إلى أنفاسها الهادئة حتى تسلّل النعاس إليه من جديد ولعلّ السبب كان العطر؛ فعبير الأكاسيا — غير المناسب لهذا الفصل من السنة — بقي عالقاً بوضوح عند طرف أنفه، ينساب من عنقها الأبيض الرقيق
‘لنمشِ معاً، يا لايلا.”
قالها ممازحاً، فاستدارت لايلا نحوه بسرعة.
وخطر بباله أنّ زيّها الرسمي الضيّق عليها، وياقتها المرتفعة حتى أسفل ذقنها، يليقان تماماً بوجهها الصغير الشاحب.
“أنتَ من يماطل في المشي يا يوستار.”
“أهكذا ترين؟”
” نعم.”
ابتسم يوستار ابتسامة خفيفة، وخطا خطوتين سريعتين حتى لحق بها على الفور.
وعندما دخلا مشارف القرية، شعرت لايلا للحظة ببرودة غريبة، لكنها اختفت سريعاً كان الشعور شبيهاً بنسمة شتوية تمرّ بخفّة على عنقها، شعورٌ ما إن تلتفت بحثاً عن مصدره حتى يتلاشى.
وربّما لقلّة مرور المسافرين بهذا المكان، أخذ الناس يرمقون الغريبين بنظرات فضول وهم يتهامسون لكنّ أجواء القرية كانت أكثر حيوية مما تخيّلا، ورأيا أطفالاً يركضون ويلعبون معاً.
“ترى، هل يوجد هنا نُزُل؟”
سألت لايلا بنبرة يعلوها القلق، فأصدر يوستار صوت تفكير، وأخذ يلتفت حوله.
“لابدّ أنّ هناك مكاناً ما للمبيت وإن لم يكن نزلاً، فغرفة فارغة، أو ربما…”
“هذا هو النُّزُل يا فتى.”
لمّا دوّى صوتٌ مفاجئ من الجهة اليمنى، التفت يوستار ولايلا في اللحظة نفسها.
كان رجلٌ في منتصف العمر أو أكبر بقليل جاثياً أمام مبنى متهالك من طابقين، ممسكاً بسيجارته الطويلة بين شفتيه.
رسم يوستار ابتسامةً ودودة واتّخذ ملامح مهذّبة
“أرى… لم نعرف أنّه نُزُل لعدم وجود لافتة.”
نهض الرجل الذي كان يحدّق بهما مطوّلاً، ثم نفض رماد سيجارته بتنهد خفيف.
“لا نعلّق لافتة لأنّ عدد الزبائن لا يكفي أصلاًرلكن بما أنّكما وقعتما بين يديّ، فستقيمان هنا.”
ابتسم الرجل ابتسامة عريضة، فكشف عن أسنان صفراء، وقد فقد سنّاً من أنيابه، وكان جانب عينه اليمنى يرتجف قليلاً حين يبتسم؛ ومع ذلك، لم يَبْدُ شكله منفّراً على نحوٍ غريب.
التفت يوستار نحو لايلا وسألها
“ماذا ترين يا لايلا ؟هل نفعل ما يقوله هذا الرجل؟ أم نبحث أكثر؟”
لكنّ الرجل قاطع الحديث وهو يلوّح بيده نافياً
“لا جدوى من البحث! لا يوجد نُزُل آخر هنا! وإن لم تقوما بالمبيت عندي، فستنامان في الإسطبل وما رأيكما في النوم فوق قشّ تنبعث منه رائحة روث الخيل؟ من الأفضل بكثير أن تناما على سريرٍ قديم مع غطاءٍ حقيقي، أليس كذلك؟ خصوصاً وأنكما من فرسان تينتينيلّا المحترمين.”
عند سماع ذلك، تبادل يوستار ولايلا نظرةً واحدة، فارتبك الرجل لوهلة تحت وقع نظراتهما المفاجئة، ثم نظر إلى لايلا بقلق غريب.
“آه… ألستما كذلك؟”
“بلى، هذا صحيح.”
ثم نظرت إلى يوستار
“لنمكث هنا لا بأس لدي”
أشار الرجل إليهما مطمئناً بالدخول.
وحين دخلا إلى الداخل، اتّضح أنّ المكان ليس نُزُلاً بالمعنى المعروف، بل مجرد منزلٍ عاديّ تم تحويله إلى طابقين ورغم ذلك، كان مقسّماً بما يكفي ليتمكّنا من الإقامة فيه لثلاثة أو أربعة أيام دون مشكلة.
“ابنتي ستعود بعد قليل، ويمكنكما تناول العشاء معنا فالفطور يكون عند السابعة، والغداء عند الظهر، والعشاء عند السادسة أستطيع أن أعدّ الطعام بنفسي، لكني أظن أنكما لن ترغبا كثيراً في تذوّقه.”
استدار يوستار قبل لايلا ، ثم التفتت لايلا أيضاً تماماً نحو الرجل.
كان الرجل يحدّق مباشرة في وجهها
“عيناكِ غريبتا اللون تجعلاني أتذكّر حكاية كانت جدّتي ترويها لي وأنا صغير.”
لاذت ليلا بالصمت لحظة
“ربما كانت حكاية عن ساحرة، أليس كذلك؟”
“وكيف عرفتِ؟”
“لأنني أنا تلك الساحرة.”
اتّسعت عينا الرجل دهشة واستدارت لايلا لتصعد الدرج مجدداً، ثم توقّفت والتفتت نحوه قائلة
“إذا كان وجود ساحرة في منزلك يسبّب لك الضيق، فـ…”
“لا، لا، لم أقصد هذا أبداً المسألة ليست كذلك…”
حكّ الرجل رأسه وقد بدا عليه الارتباك ونظر يوستار ولايلا أحدهما إلى الآخر، غير فاهمين تصرفه الغريب.
ثم أخذ الرجل يلتفت إليهما مراقباً ردّ فعلهما قبل أن يقول
“إنما… إنما سألتُ لأنني تساءلتُ إن كان بإمكانكِ مساعدتي في أمرٍ يتعلق بابنتي، إذا كنتِ ساحرة حقاً أعلم أنّ الأمر قد لا يكون ممكناً… لكنّ قلبي يؤلمني كأبٍ لا يستطيع أن يفعل لها شيئاً.”
نزلت لايلا درجة واحدة من الدرج بعدما كانت قد صعدت خمس درجات.
التعليقات لهذا الفصل " 57"