“لا، ليس الأمر كذلك ليس دائمًا…… وإلا لما استطعتُ فعل أي شيء.”
تساءلت لايلا عمّا يعنيه ذلك، غير أنّها لم تكلف نفسها عناء السؤال.
وحده كون الـديستِبتر ليس دائمًا بقربه كان أمرًا مريحًا البارحة، كانت مستعجلة فلم تفكّر في الأمر، ولكن لو أنّه كان يراقبهما من مكانٍ ما أثناء نسخها ورسمها لعلامة إين…….
“لا تقلقي “
قال يوسْتار، وكأنّه يقرأ ما يدور في خلدها.
“لقد غادر مباشرةً ليلة أمس ولم يعد بعد.”
خرجت من شفتي لايلا زفيرٌ صغير.
أسرعت في تناول ما تبقّى من الطعام، ثم اغتسلت وغيّرت ثيابها بمساعدة ميل لفتت انتباه لايلا لمسةُ ميل على عنقها وكتفيها، إذ كانت حذرة بشكل غريب
“ميل، هل حدث شيء؟”
رفعت ميل بصرها إلى لايلا ثم التفتت قليلًا نحو قاعة الجلوس حيث يوجد يوسْتار، قبل أن تخفض صوتها
“أنا من ينبغي أن أسأل، سيدة كريسْرادرهل كنتِ بخير؟”
اتّسع اضطرابٌ على وجه لايلا.
“عمّ تتحدّثين؟”
رمشت ميل بضع مرّات، مترددة وكأنها لا تعرف من أين تبدأ
“البـارحة… سموّ الأمير… دخل فجأة إلى غرفة سيدة كريسْراد كما أنّه أمرني بالخروج والبقاء في الخارج… كان مختلفًا تمامًا عن سموّه المعتاد، فشعرت بالخوف.”
“آه، ذلك…….”
تحركت شفتا لايلا لتجيب، ثم توقّفت لم يكن بوسعها إخبار ميل بشأن ديستِبتر ولا أن تخبرها بأنها كادت تُخدع على يد شيطان…….
“لم يكن هناك شيء مهم فقط… ربّما أراد أن يتأكد أنّني بخير.”
لكن ميل ازدادت شكًّا بعد هذا الجواب.
ارتدت لايلا قميص الزي الرسمي على عجل، ثم ارتدت السترة الصدرية فالمعطف وبينما كانت تثبّت الشارة التي تميّز عناصر تِينْتينِلّا، قالت ميل، وهي تعدّل لها الحمالات، بنبرة يملؤها الأسف:
“لقد اصبحتِ لتوّكِ زوجة لسموّ الأمير… كان ينبغي أن تتلقّي تحايا السيّدات النبيلات، وأن تُظهرِي وجهكِ في البلاط الملكي، لكن ليس لديكِ وقت لذلك.”
“لا بأس, بل هذا أفضل لي.”
أجابت لايلا على الفور، لكن ميل لم تبدُ مقتنعة وهو أمرٌ طبيعي بالنسبة لفتاةٍ تتقاضى راتبًا من القصر الملكي منذ أن بلغت الخامسة عشرة.
“سأعود لاحقًا يا ميل.”
“سيدة كريسْراد.”
استدارت لايلا، كأنها تتساءل عن سبب مناداتها، فرأت ميل مترددة وهي تعبث قليلًا داخل كمّها، قبل أن تخرج شيئًا صغيرًا وقديمًا يشبه كيسًا صغيرًا، ووضعته في يد لايلا كان واضحًا أنّه شيء عتيق، إلا أنّ رائحته كانت لطيفة على نحو غريب.
“ما هذا؟”
“إنّه تعويذة أعطتني إيّاها جدّتي عندما جئتُ لأعمل في القصر كنت أحملها معي دائمًا، لكنني أظن أنّه من الأفضل أن تأخذيها أنتِ يا لايلا.”
رمشت لايلا مرتين بلا تعليق، ثمّ هزّت رأسها.
“إنه شيء ثمين لا يجوز أن تعطيه لشخص آخر احتفظي به.”
حاولت أن تعيد التعويذة إلى ميل، لكن ميل رفضت ودام شدٌّ وجذبٌ قصير بينهما؛ لايلا تحاول إعادتها، وميل تمتنع عن الأخذ.
“لايلا، هل انتهيتِ؟”
جاء صوت يوسْتار من الخارج على عجل فاغتنمت ميل الفرصة وانتزعت التعويذة من يد لايلا بسرعة، ثم دسّتها في الجيب الداخلي لمعطفها كأنّها تخبئ كنزًا.
“خذيها معكِ.”
بدت الحيرة على لايلا لحظة، ثم أحكمت ربط حذائها وكأنّها لا تملك خيارًا آخر.
“سأعيدها لكِ عندما أعود.”
لم تُظهر ميل قبولًا ولا رفضًا، بل اكتفت بابتسامة غامضة وحين خرجت لايلا إلى قاعة الجلوس، مدّ يوسْتار يده إليها إيذانًا بالانطلاق أما ميل، التي كانت تقف على بُعد خطوتين، فانحنت مودّعة.
“كونا بخير، سموّ الأمير… سيدة كريسْراد.”
***
حين دخل الاثنان إلى مقرّ سيرسيتا ، نهض غِالن توت، الذي كان يراجع شيئًا بانشغال، واقفًا ليستقبلهما.
“سموّ الأمير، لقد وصلتم.”
انحنى أولًا ليوسْتار، ثم تردّد قليلًا—وكأنّه يفكّر في اللقب المناسب—قبل أن ينحني باحترام للايلا أيضًا.
“سموّ السيّدة زوجة الأمير .”
“يمكنك مناداتي بلايلا أو بكريسْراد إن شئت.”
لم يُجب غالِن، بل نظر إلى وجه يوسْتار كانت نظرةً صامتة تسأل: هل هذا مقبول؟
“لستُ أنا من أصدر الأمر يا غالِن.”
أطلق غالِن صوتًا خافتًا: آه ثم نظر مجددًا إلى لايلا.
“عذرًا إذًا سأناديكِ بسيّدة كريسْراد.”
“شكرًا لك.”
ما إن أومأت لايلا إيماءة صغيرة حتى قال يوسْتار مباشرة
“من أين ورد البلاغ، يا غالِن؟”
“من الفرع الثالث لكن موقع حدوث الـسِينك يقع بعيدًا قليلًا عن الفرع الثالث.”
“هل لا بأس بالذهاب دون المرور بنقطة وسيطة؟”
“حسب الحسابات، هذا أفضل.”
“جيّد.”
تمتم يوسْتار لنفسه، ثم اتجه نحو البوابة ، ناوله أحد العناصر المنتظرين تقريرًا.
وبينما كان يضبط إحداثيات البوابة، أخذ يوسْتار يتفحّص سريعًا ما كُتب في التقرير وفي تلك الأثناء، أخذت لايلا بعض حبّات البرتقال لمنع دوار البوابة، ووضعتها في جيبها الجلدي، راجية ألا تضطر لأكلها.
“إنها قرية صغيرة… هِيلّوس؟ لم أسمع بهذا الاسم من قبل.”
“في الخريطة، لا تظهر إلا كنقطة صغيرة وقد أضيفت بالكاد إلى النسخ الحديثة من الخرائط.”
“هي ليست وحشًا؟”
“لا، ليست وحشًا لعلها ظاهرة روحية غير معروفة…….”
توقّف غالِن قليلًا ثم هزّ رأسه وقال بصراحة
“يبدو أنها من نوع الأرواح وهي تُحدث تأثيرًا جسديًا.”
“وما طبيعة هذا التأثير؟”
«يبدو أنه هلوسة.”
“هلوسة، إذًا.»
كرّر يوسْتار كلام غالِن وهو يطوي التقرير.
“جيّد. ما دامت ليست وحشًا، فسنذهب نحن الاثنين أولًا لكن احتياطًا، تواصل مع المدير جيمِيوس.”
“حاضر.”
وقفت لايلا على البوابة بعد يوسْتار مباشرة أخذت نفسًا عميقًا ثم أطلقته ببطء، والتوتّر ظاهر عليها.
ففي كل مرة ينتقلون فيها، تختلف طريقة النقل بين موقعٍ وآخر—فقد يغمرهم الماء، أو يتفتّت الجسد للحظات—فلم تعرف ماذا ينتظرها هذه المرة، فجعل قلبها يخفق بشدة.
“لا تتوتّري يا لايلا التوتر يزيد الدوار فالبوابة أيضًا أداة سحرية، وإذا اضطربت الطاقة تأثّر الجسد أكثر.”
“أظن أنني سأعتاد الأمر بعد عشر مرات أخرى.”
قالت لايلا بوجه جامد وكان يوسْتار وحده يعلم أنها تمزح.
ابتسم قليلًا، ثم أمسك يدها برفق.
“هل يخفّف هذا من توتّرك؟”
حدّقت لايلا للحظة في يدهما المتشابكتين دون جواب، ثم أدارت رأسها جانبًا شعرت بحرارة خفيفة ترتفع إلى وجنتيها، لكنها تجاهلتها قدر الإمكان ومع ذلك، فإن أسلوبه في المساندة، دون مبالغة أو ضغط، كان موضع تقدير.
“عشر ثوانٍ على الانتقال.”
قال غالِن وهو يتفقد الإحداثيات وما إن أنهى كلامه حتى شعرت لايلا وكأن الأرض تهوي فجأة تحت قدميها.
كان الأمر أشبه بالوقوف فوق مستنقع…… وكادت لايلا، من غير أن تشعر، أن تتشبّث بحافة البوابة لتتعلق بها.
إلا أنّ يوسْتار شدّ على يدها بقوة قبل أن تفعل.
“لا تقلقي.”
قالها مجددًا.
“لا تخافي.”
«”بقي ثماني ثوانٍ ” قالها غالِن مجددًا، وكانت لايلا الآن تشعر وكأنها غاصت حتى قرب ركبتيها، وقد تسلّل إلى جسدها قشعريرة باردة.
كان الأمر أشبه بمستنقع حقيقي رطبًا، لزجًا، بل شعرت حتى كأن شيئًا يشبه أعشابًا متعفّنة طرية قد التفّ حول كاحليها…….
“ما نوع الرجل الذي هو عليه مدير جيمِيوس؟”
سألت لايلا بسرعة وهي تحاول ألّا تتشبّث بالبوابة لم تكن مهتمة حقًا بالإجابة.
كانت فقط تريد صرف ذهنها عن ما يحدث…… فقد وصل المستنقع البارد اللزج الآن إلى مستوى صدرها وهو يتماوج ببطء مبتلعًا إياها.
“إنه مدير الفرع الثالث، غيلونيك رجل جذّاب لكن من غير المرجّح أن نراه اليوم.”
“في أي… معنى هو جذّاب؟ لا، لحظة يوسْتار، أشعر وكأن شيئًا يشدّني من قدمي.”
“هممم، على الأغلب أنّ هناك ما يشدّك بالفعل، لكن لا تقلقي…… جيمِيوس من عائلة عسكرية للوهلة الأولى يبدو كأنه رجل وسيم، رزين، تملؤه مسحة من الحزن ولكن…….”
صدر صوت بوم
شعرت لايلا بطعم طين مرّ يملأ فمها، وندمت لأنها لم تأكل حبّة برتقال واحدة على الأقل
***
باسو، أقرب المقرّبين إلى الملك ورئيس خدمه، بدا وجهه مرهقًا للغاية بعد ليلة كاملة لم يغمض فيها جفنه.
وعلى الرغم من أنّه كان يتولّى عادةً أعمالاً هادئة لا تتطلّب جهداً كبيراً، فإنّ بنيته كانت قويّة بما يكفي لئلّا يُرهَق بسهولة كما يحدث الآن ولعلّه تقدّم به العمر، إذ بدا ظلّ داكن واضح تحت عينيه.
“سيدي باسو، لقد أحضرت الدواء.”
قال الطبيب الملكي الذي دخل بهدوء، خافضاً صوته ورغم أنّ صوته كان خافتاً بالكاد يُسمَع، فإنّ باسو قطّب حاجبيه مشيراً إليه أن يلتزم الصمت.
“لقد غفا جلالته أخيراً ابتعد الآن.”
“ولكن إن لم يتناول الدواء الآن، فسوف—”
“لا تجعلني أكرّر كلامي.”
استدار الطبيب بوجه يمتزج فيه القلق بالخوف وما إن خطا بضع خطوات حتى قال باسو
“اترك الدواء هنا.”
تبع ذلك صوت وضع الإناء، ثم فُتح الباب وأُغلق بهدوء ورغم أنّ باسو كان يدير ظهره، فإنّه استطاع أن يتخيّل بجلاء حركة الطبيب أمام عينيه.
هيئته المنحنية قليلاً، وخطواته السريعة المرتبكة فكل من يدخل إلى غرفة نوم أود يتحرّك بهذا الشكل المرتجف المذعور.
وكيف لا؟ فكّر باسو ملكٌ ينهار شيئًا فشيئًا بسبب مرض مجهول، ويتصرف بعنف واضطراب، ووجهه الذي صار شاحبًا كالجُمجمة يتلوّى أحيانًا قبل أن ينفجر فجأة ضاحكًا ضحكات تبدو كضحكات المجانين.
لكن الحال ليست كذلك الآن تمتم باسو في سرّه وهو يقترب من فراش أود.
رغم أنّ ستائر قبة السرير قد أُسدلت، فإنّ مجرد ظلال باهتة كانت كافية ليعلم أنّه غارق في نوم عميق.
أنفاسه المنتظمة، وحرارته التي انخفضت حتى بات جسده بارداً قليلاً كان باسو يعرف حالة أود دون حاجة إلى لمس أو تأكيد.
“جلالتك.”
همس باسو بصوت منخفض كان أود نائماً كالميّت لم يبقَ أي أثر لمشهد البارحة حين كان يسعل الدم ويقبض على صدره وهو يتلوّى ألماً.
“رجائي أن تبقى بصحّة حتى يحين ذلك اليوم.”
خرج أنين من فم أود، وكأن كابوسًا اقتحم نومه الهادئ كإبرة تخترق السكون، فانكمش جسده وارتسم القلق على حاجبيه وما إن انحدرت دمعة واحدة من عينيه، حتى سالت دمعة مماثلة من عينَي باسو
التعليقات لهذا الفصل " 56"