استدار يُوستار نحو لايلا بوجه يحمل شيئًا من الدهشة.
“الآن فورًا تقصدين؟”
“ما دُمنا قد تطرقنا للموضوع، فلنفعلهرهيا، استلقِ.”
هل كانت دائمًا بهذه الجرأة؟ خطر هذا السؤال في ذهن يُوستار للحظة وتحت وطأة حزم لايلا، انحنى مترددًا.
“لحظة فقط، لايلا لا تعنين أننا سننسخه كلّه الليلة، صحيح؟”
“بما أننا بدأنا، فلننتهِ منه’لماذا؟”
فتح يُوستار شفتيه بذهول
“لا أظن أن الأمر سيستغرق ساعة أو ساعتين فقط.”
كانت لايلا قد وجدت بعض الورق وقلمًا بعد أن قلبت الأدراج، ثم نظرت إليه نظرة مفادها أن هذا الكلام بديهي.
“بوسعك أن تنام.”
كان صوتها لا مباليًا إلى حد غريب.
فأطلق يُوستار ضحكة خافتة للمرة الثالثة، ثم استلقى على فراش لايلا، مثبتًا هيئته جيدًا وقد غاص أحد خدّيه في ساعده فيما التفت ينظر إليها بعينين نصف ناعستين.
“بينما تتعبين في رسم جسدي تحت هذا الضوء الخافت، تريدين مني أن أنام؟”
“أنا لا أرسم الجسد، بل أرسم الختم.”
“وفي كلتا الحالتين، ستظلين تنظرين إليّ لقد عقدتِ العزم على ألا تدعيني أنام.”
مال رأس لايلا إلى جانب واحد قليلًا وكان يُوستار يعلم أنها لم تفهم مغزى كلامه—ولا تُبدي حتى رغبة في فهمه—فسعل بخفوت وأسند جبينه إلى ساعده القوي.
«حسنًا، لايلا افعلي ما تشائين.”
صعدت لايلا إلى السرير وهي تحمل الورق والقلم كانت بحاجة إلى شيء صلب يساند الورقة وبعد أن ألقت نظرة حولها، نزعت الإطار المعلّق على الجدار ووضعته تحت الورقة.
“تلك اللوحة داخل الإطار ثمينة للغاية لو علم الرسّام بما تفعلين لغضب غضبًا شديدًا.”
“لا يهمني.”
ضحك يُوستار بخفة وقد بدا للحظة وكأنه مشوش المشاعر، ثم أعاد جبينه إلى موضعه ولم يلبث أن ساد المكان صوت احتكاك القلم بالورقة.
بين حين وآخر، كانت تُسمع أصوات طيور الوقواق من الغابة خلف حدائق القصر الملكي، إضافة إلى خفق أجنحة طيور كبيرة كالبومة أو الهُدْهُد وما عدا ذلك، لم يكن هناك أي صوت سكون تام.
وفجأة قال يُوستار، الذي ظل صامتًا كأنه نائم
“رأيتُ الخدم قبل قليل في طريقي إلى غرفتك.”
لم ترفع لايلا عينيها عن ظهره، واكتفت بانتظار كلامه التالي دون رد.
“يقولون إن حالة أخي ساءت فجأة.”
لم يتوقف صوت القلم وظلت لايلا صامتة… ولما حاول يُوستار الالتفات قليلًا
“مرض شقيقك لا يمكن الشفاء منه، أليس كذلك؟”
أجاب يُوستار وهو ينقر بأصابعه على الملاءة كطفل
“على الأرجح مرّ به أعداد كبير من الأطباء، لكن حالته كانت تسوء باستمرار كانت هناك فترات تحسن بسيطة، لكنها قصيرة جدًا.”
“ولا تعرفون ماهو المرض تحديدًا.”
هزّ رأسه صحيح
ثم استدار فجأة لينظر إلى لايلا فشهقت وهي ترفع القلم بسرعة.
“يُوستار!”
قالت لایلا بنبرة عتاب، فاكتفى يُوستار بأن أسند رأسه إلى يده مبتسمًا ابتسامة لطيفة.
“أظنني لم أشكرك عندما قلتِ إنك ستعدين لأخي صبغة علاجية.”
توقفت لايلا عن الحركة وحدّقت فيه بهدوء لم يكن يمزح، ولم يكن يتهكم أو يسخر منها وفجأة تذكّرت حين قابلت أود لأول مرة.
كان مريضًا إلى درجةٍ بدا معها موته وشيكًا… خدّاه غائران، وعظام وجهه بارزة تجعل منظره أقرب إلى هيكل عظمي يتحرك… ولم تستطع أن تصدّق، في تلك اللحظة تحديدًا، أن هذا الرجل كان شقيق يُوستار.
“استلقِ مجددًا.”
أطاعها يُوستار دون تردد، وتناثرت خصلات شعره الطويل فوق ظهره. مرّت لايلا بأطراف أصابعها لتسوي الشعر برفق، وما إن لمستها حرارة جسده حتى اجتاحها شعور غريب بالطمأنينة.
“الآن ابقَ ثابتًا.”
“حاضر يا سيّدتي.”
قال يُوستار مداعبًا وهو يضحك بخفوت، ثم نظر إليها بطرف عينه كان يتوقع أن تتجاهله كعادتها، لكن المفاجأة أنها حدّقت فيه وقد ظهر عليها الارتباك.
“لستُ زوجتك، يا يُوستار.”
بدا صوت لایلا صارمًا إلى درجةٍ اقتربت من الجدية المتصلّبة.
لكن يُوستار ظن فقط أنه أغضبها، ولم يخطر بباله إطلاقًا أنها قالت ما قالت لتخمد الأفكار والخيالات التي كانت تتشعب داخلها.
“كنت أمزح فقط آسف.”
ما إن همس باعتذاره حتى ارتخت كتفا لایلا اللتان كانتا مشدودتين.
“لم أغضب.”
“حقًا؟ لأنني كنت أظن أنّ…”
“فقط ابقَ ساكنًا.”
وعاد صوت القلم يملأ الغرفة.
كان طرف الريشة يخدش الورقة بلطف كأنه يمسحها تمسحًا، ثم ينزلق فوق الحبر الرطب في خطوط رشيقة يمكن تخيلها بوضوح واختلط مع ذلك صوت تنفّس لايلا الخفيف، … وصوت الوقواق من عمق الغابة.
وسقط يُوستار في النوم دون أن يشعر وما قبل أن يستسلم لثِقل النعاس، كانت آخر فكرة خطرت له هي تلك اللمسة الخافتة التي شعر بها من أطراف أصابع لایلا.
***
كان صوتٌ ما يواصل إصدار طقطقة خفيفة في مكانٍ ما لم يكن صوت طرقٍ على الباب… ولا كان صوت عقارب ساعة تتحرّك.
كان أخفّ من طرق الباب ، وأثقل من صوت الساعة على أيّ حال، ظلّ ذلك الصوت يتردّد قرب أذن لايلا، يزعج عليها نومها وعيها الغارق في سباتٍ ثقيل.
“أمم…”
وحين حاولت لايلا أن تسحب الملاءة فوق رأسها وهي تنكمش في فراشها، دوّى الصوت الطقّي مجددًا، وتبعته أنفاسٌ دافئة لامست أذنها.
“استيقظي يا لايلا لقد تأخّرنا.”
انتزعت هذه الكلمات ما تبقّى من النوم عن عقلها انتفضت لايلا جالسةً كما لو كانت قد سقطت في مستنقع طين.
ولم تكد تتحرّك حتى شعرت بألمٍ خفيف في كتفها اليمنى وحين تأوّهت بخفوت وهي تمسك كتفها، شعرت بأصابع قويّة ولكن لطيفة تمسّد رقبتها وعضلة كتفها.
“كنتِ نائمةً وأنتِ متكوّرة على نفسك طبيعي أن يؤلمك كتفك.”
لم يكن هناك حاجة لسؤال من يكون كان يوستار، وقد ارتدى قميصًا—غير الذي كان يرتديه البارحة—وسروالًا من زيّ تينتينيلّا الرسمي وكانت حمّالات الجلد تتدلّى فوق ساعديه القويّين.
حدّقت فيه لايلا لحظة دون أن تستوعب ما يجري، ثم ذهبت تتفحّص الغرفة كان الرسم الذي قضت الليل كلّه في نقله موضوعًا بعناية فوق درجٍ إلى جانب السرير، وهو أوّل ما وقع بصرها عليه.
وبعد لحظة تفكيرٍ عادت إليها ذاكرتُها ببطء، فاتّسعت عيناها بصمت حين أدركت مصدر صوت الطقطقة لقد كان يوستار يصدره بلسانه قرب أذنها.
التعليقات لهذا الفصل " 55"