كان يُوستار ــ الذي كان يعبث بأطراف شعره ــ يرمق لايلا بطرف عينه.
“أنا أيضًا لا أعرف.”
“ماذا قلت؟”
“حقًا أنا لا أعرف، أنا كذلك لا أعرف ما الذي أخذه مني مقابل ذلك، أو ما الذي سيأخذه لاحقًا لقد عرفتُ بوجوده لأول مرة عندما كنتُ في السابعة من عمري ولكن في ذلك الوقت… كيف أقول هذا… كان أشبه بصديقٍ خيالي لم يكن يظهر إلا لي، ولا يظهر إلا عندما لا يوجد أحد سواي وعندما صُنِعت تنتينيلّا، طالبني بأن أعطيه الأرواح التي أمسكتُ بهاروقال إنّه…”
توقّف قليلًا وابتلع ريقه الجاف وتماوج ظلّ الضوء في عينيه الخضراوين الشاحبتين، اللتين يُذكِّران بحقول الشعير في أوائل الربيع.
“قال إنّه بحاجة إلى طعام “
طعام ردّدت لايلا في قلبها الكلمة كما لو كانت تتبع كلمات يوستار طعام الشيطان.
“أتقصد أنّه لا يطلب أي شيء آخر غير ذلك؟ لم يحدُث أن… وقع لك أمر غريب في جسدك؟”
“لم يحدث، يا لايلا ولا مرة في البداية كنتُ مرتبكًا، لكن حين اعتدتُ الأمر أصبح باهتًا فكرة أن شيطانًا يجلس دائمًا على كتفي… إنه أشبه بسَلَماندر مزعج يتشبث بي بل وحتى ليس من ذلك النوع الذي أربيه بنفسي!”
ارتسمت على ملامح لايلا من جديد نظرة ذهول لا تُصدَّق أمام هذا التشبيه العجيب ويبدو أن يُوستار شعر بذلك أيضًا، فابتسم ابتسامة محرجة قليلًا قبل أن يزفر زفيرًا قصيرًا.
“والخَتْم؟”
“الختم؟”
رمشت لايلا بعينيها.
“عندما يُبرم أحدهم عقدًا مع شيطان يظهر ختم ما في موضعٍ من جسده”
ثم حدّقت فيه لحظة بنظرة مرتابة، قبل أن تعيد ترتيب جلستها وتنظر إليه مباشرة.
“لا تقل إنك لم تكن تعلم ذلك، يا يوستار ؟”
“بالطبع أعلم الختم… نعم، موجود.”
“وأين هو؟”
بدت على يُوستار لحظة ارتباك، كمن نسي فجأة ما كان سيفعله وبينما كانت شفتاه تتحركان دون صوت، بادرت لايلا
“أرِني إيّاه.”
“ماذا؟”
سأل يُوستار بذهول.
لكن لايلا كررت الكلام نفسه بملامح هادئة، بل تكاد تكون مطمئنة، وكأن الأمر لا يتطلب أي انفعال.
“أرِني الختم، يا يُوستار.”
حرّك يُستار لسانه داخل فمه باضطراب.
لم يكن يعرف كيف يجب أن يتصرف، إذ لم يسبق أن أوقعته لايلا في مأزق كهذا من قبل وظلّ غارقًا في التفكير طويلًا قبل أن يسأل أخيرًا
“ولماذا تريدين رؤيته، يا لايلا؟”
حدّقت لايلا في خصلات شعره الكريمية المتدفقة، ثم نظرت إلى ظاهر يده البيضاء وتذكرت كيف لامست يده خدّها — رغم أنّه كان شيطانًا — وكيف فعل ذلك.
شعرت بمعدتها تضطرب مرة أخرى بذلك الإحساس الغريب… ولإظهار أكبر قدر من الثقة، نظرت مباشرة إلى عيني يُوستار
“لأنّه ربما يكون بالإمكان فكّه.”
كان صوتها هادئًا لدرجة جعلته يبدو مخيفًا وغير قابل للتصديق نظر إليها يُوستار كأنها تحدّثت بلغة أجنبية يسمعها لأول مرة، ثم ضحك دون أن يقصد
“تقصدين ختمًا نشأ عن عقد مع شيطان؟”
وفي اللحظة التالية ندم على ضحكه فورًا، إذ رأى على وجه لايلا ظلًّا خفيفًا من الضيق والألم.
قال يُوستار مسرعًا
“لايلا، لم أقصد أبدًا الاستهانة بك.”
فأجابته على الفور، وقد اختفى ما ظهر من مشاعرها خلف قناع رقيق وصلب، لتعود ملامحها الهادئة المعتادة.
“لا بأس في الحقيقة، كل ما أعرفه تعلمته من أمي فقط، ولم يسبق لي قطّ أن فككتُ ختمًا نشأ عن عقد بل إنها المرة الأولى التي أرى فيها شخصًا عقد اتفاقًا مع شيطان.”
سادت لحظة صمت كانت تبدو وكأنها تفكّر في الطريقة الأنسب لقول ما تريد ويُوستار ينتظر بهدوء، يشعر نحوها ببعض الأسف.
ثم تابعت
“سمعتُ أن كل عقد لا بد أن يحمل ثغرة ما فإذا تمكنّا من العثور عليها والإشارة إليها، يمكن تغيير العقد أو نقضه، وذلك وفقًا لقواعد العقد نفسه.”
“حقًا؟”
“إنه صحيح تتعلّم الساحرات تلك الحقيقة من أمهاتهم وربما يوجد من يعرفها حتى لو لم يكن ساحرًا كالسحرة مثلًا ولكنهم لا يُظهرون أبدًا أنهم يعرفون مثل تلك الأمور لأنّ…”
“لأنّ السحرة يحرّمون تحريمًا صارمًا عقدَ الاتفاقات مع الشياطين.”
رمشت لايلا كأنها تصدّق كلام يُرستار.
“في الحقيقة، إنّ شخصًا عاديًا لا يعرف شيئًا عن السحر يكاد يكون من المستحيل أن يستدعي شيطانًا أما زعيم تلك الجماعة التي تحدّثتَ عنها، فقد يكون ساحرًا طُرِد من بينهم يُوستار… والداك…”
توقّفت لايلا لحظة وهي تختار كلماتها، ثم قالت بصوت خالٍ من الانفعال
“لا اعلم إن كان يجب أن أقول إنهما كانا محظوظين… أم منحوسي الحظ.”
تحرّكت عينا يُوستار بهدوء بينما يطلق ضحكة قصيرة أخرى.
“لا أعلم … ربما الأمر نصفٌ بنصف كان من الجيد أنهما نجحا في استدعائه، لكن ما حدث بعد ذلك لم يكن حسنًا على أي حال، تلك قواعد العقد التي تُورَّث بين الساحرات… يمكن القول إنها سرّ من أسرار المهنة، ولا يمكن للعالم الخارجي معرفته.”
لايلا لم تضحك على مزاحه في الواقع، لم تبدُ مهتمة على الإطلاق… لقد كانت تحدّق في وجه يُوستار وجسده بعينٍ متفحّصة، تبحث بعناية عن مكان وجود الخَتْم.
— اسمعي جيدًا، يا لايلا إن استدعيتِ يومًا شيطانًا وأبرمتِ عقدًا معه، فتذكّري هذا جيدًا لا أحد يعرف أين سيُرسَم الختم على الجسد ويتغيّر حجم الختم أيضًا بحسب محتوى العقد فإن كان صغيرًا، يسهل إخفاؤه أما إن كان كبيرًا…
— سيعرف الجميع أنني ساحرة عقدت اتفاقًا مع شيطان، أليس كذلك يا أمي؟
— نعم، صحيح لكن إن كان لديك ختم بهذا الحجم… فربما أنتِ…
ما الذي قالتْه أمُّها بعد ذلك؟ حاولت لايلا أن تستعيد ما قيل، لكن دون جدوى.
شعرت مؤخرًا بأن ذكرياتها عن أمّها تتلاشى شيئًا فشيئًا… بل سريعًا جدًا مثل رمال تنساب في ساعة رملية.
هل سيأتي يومٌ تفتح فيه عينيها لتجد أن كل ذكرياتها عن أمها اختفت؟
“لايلا؟”
أعادها صوت يُوستار إلى الواقع فجأة.
“أرِني الختم يا يُوستار دعني أراه وأفسّره.”
“هل تستطيعين تفسيره فورًا؟”
حدّقت فيه لايلا بحدة، وكأن سؤاله غير منطقي.
بالطبع لا لو كان لديّ الكتاب الذي تركته أمي لكان الأمر أسهل… لكن ليس معي أي شيء الآن سأعتمد على ما أحفظه ريثما أستعيد ذلك الكتاب.”
“أي كتاب؟”
“إنه كتاب الساحرات كتاب لا تستطيع قراءته إلا الساحرات لكن هذا ليس المهم الآن أين الختم؟”
وإن تردد أو حاول المماطلة، فستندفع نحوه وتنزع ثيابه بالقوة هذا ما كان يبدو من عينيها.
ابتسم يُوستار ابتسامة حائرة لم يكن يشكّ في كلامها، لكنه لم يرغب أيضًا في كشف الختم بسهولة.
إنه أقرب إلى فضيحته الشخصية، فكّر في نفسه.
صحيح أن الأمر ليس خطأه، ولكنه… مع ذلك.
“هل ينبغي حقًا أن تريه؟ ماذا لو كان ختمي… على مؤخرتي مثلًا؟”
عقدت لايلا حاجبيها تحت جبينها الأبيض الناعم.
“سأراه على أي حال.”
قالت ذلك بحزم وهي ترفع ساقيها إلى أعلى السرير.
“هيا يا يُوستار انزع ثيابك.”
وبقدر حزمها، لم يعد أمام يُوستار سبيل للمقاومة.
لم يشأ أن يجرح مشاعرها برفضه مساعدتها، ولا كان من النوع الذي يتصنّع الجرأة ويخفي الحقيقة.
وفوق ذلك، شعر بالامتنان لإصرارها على بذل جهد لم تكن مضطرة لبذله من أجله… حتى أصبح قلبه دافئًا قليلًا.
“لم أكن أعلم أنك فتاة جريئة إلى هذا الحد.”
قالها مازحًا، ثم بدأ يفك أزرار قميصه.
تابعت لايلا النظر إلى أصابعه الطويلة وهي تتحرك بانسيابية مرّت في ذهنها أفكار كثيرة، لكنه كان يجهلها— ولحسن الحظ.
“لا تندهشي.”
فكّ الأزرار حتى النهاية، ثم نزع القميص بخفة نظرت لايلا للحظة بدهشة طفيفة، إذ كانت هذه أول مرة ترى فيها الجزء العلوي من جسد رجل كان مختلفًا تمامًا عن جسدها.
كان واسع الكتفين أكثر مما بدا حين كان يرتدي ملابسه، وعظامه وعضلاته متناسقة بقوة، مُشكّلة انطباعًا ساحقًا بالقوة.
الظلال الصغيرة التي تشكّلت في الأماكن التي لا يصلها الضوء كانت توحي بالغموض بدا لها أنه إن لمست تلك المناطق فستشعر بصلابة تشبه الحجر، ورائحة تشبه المطر الذي يسيل فوق الصخور.
راقبها يُوستار بهدوء وهي تحدّق في جسده العاري، ثم تنحنح قليلًا وأدار جسده ببطء.
كان الختم محفورًا على ظهره.
يبدأ من لوحي كتفيه، منبسطًا كأجنحة، ثم يمتدّ على طول عموده الفقري إلى أن يصل إلى أسفل الظهر.
وكان ينتهي تمامًا عند الموضع الذي تبدأ فيه حافة سرواله، عند أدنى نقطة يمكن أن يصل إليها تقريبًا.
غير أنّ الجزء الممتدّ من لوح كتفه الأيمن نحو منتصف ظهره كان مقطوعًا
بدا كأن شيئًا قَشَر الجلد بقسوة، ثم التئام الجرح على نحو غير منتظم كان السطح متعرّجًا وخشنًا.
اقتربت لايلا من ظهره، وقطّبت حاجبيها وهي تلمس بأطراف أصابعها الندبة وفي اللحظة نفسها، ارتجفت قبضة يُوستار الموضوعة على ركبتيه.
“لماذا هو هكذا؟”
أمال يُوستار رأسه وقال بلا مبالاة
“لا أعلم كان هكذا منذ البداية.”
“هكذا منذ البداية؟”
“كانت لديّ مرضعة اعتنت بي منذ ولادتي لكنها تركت العمل عندما تدهورت صحتها— كنت في الثالثة عشرة، أو الرابعة عشرة تقريبًا المهم أنها كانت الوحيدة التي تعرف جسدي جيدًا وقد قالت إن الختم كان تالفًا منذ اللحظة التي خرجت فيها حيًّا من ذلك الجحيم لكنها لم تعرف السبب.”
“وذلك الشيطان… قلتَ إن اسمه ديـسِبتر، صحيح؟ ألم تسأله؟”
“بالطبع سألته، لكنه لم يخبرني. والحقيقة أنّه من الصعب جدًّا التمييز بين ما يقوله وهو صادق وما يقوله وهو يكذب. فهو نفسه قال إنّه يتولّى مقام الكذب، ولذلك قد يكذب… أو قد يقول الحقيقة بطريقة تبدو كأنها كذب.”
انقبض حاجبا لايلا من جديد، وذهبت تتلمّس ظهره— أو بالأحرى الختم المخيف المنقوش عليه.
كان واضحًا أنه خَتْم وُضع من خلال عقد فقد أحسّت بقشعريرة غير مريحة لمجرد لمسه.
“…هذا يُدغدغ، يا لايلا.”
قال يُوستار بصوت صغير بعد أن صبر قدر استطاعته فرفعت لايلا يدها عن ظهره ابتعدت رائحة الحجر والمطر الباردة والدافئة معًا قليلًا.
التعليقات لهذا الفصل " 54"