ظلَّ يوستار واقفًا مكانه حتى بعد أن تأكد من خروج ميل من الغرفة.
كان يشك في أنها قد تعود خلسةً لتتجسس أو تستمع لما يدور في الداخل.
ولحسن الحظ، كانت ميل رامرأةً عاقلة وحين تأكد من أنها لن تتنصت أو تحاول النظر إلى ما يجري، فتح يوستار باب غرفة النوم دون حتى أن يطرق، ودخل.
قال صوتٌ غريب في الظلام
“من لدينا هنا؟”
كان ذلك الصوت فريدًا لا يشبه أي صوتٍ آخر — آسرًا ومغويًا، ومع ذلك يضطرب في أعماقه شيءٌ وحشيٌّ ووَقِح.
صوتٌ بدا في آنٍ واحد كزمجرةِ وحشٍ مفترسٍ وهمسةِ مغنٍّ أوبيراليٍّ ساحرة.
حدَّق يوستار في وجه ديسِبتر الذي كان يبتسم نحوه، ثم نقل بصره إلى لايلا
كانت لا تبدو مهدَّدة، لكن جسدها كان متصلبًا بالكامل، والذهول بادٍ عليها بوضوح.
قال يوستار بصوتٍ منخفضٍ فيه حدّةٌ غريبة
“هل أنتِ بخير، لايلا؟”
كان صوته لطيفًا، لكن شيئًا ما فيه بدا قاسيًا، كأنما يخفي حذرًا قاتلًا.
ومع ذلك، لم يكن سبب ذلك لايلا نفسها.
تنفست لايلا بعمقٍ طويلٍ، كما لو أنها خرجت للتوّ من أعماق الماء، ثم هزّت رأسها قائلةً بصوتٍ واهن
“أنا بخير.”
ضحك ديسِبتر فجأة بصوتٍ صاخبٍ مفعمٍ بالمرح
“بخير طبعًا! وما الذي يمكن أن تكون غير بخير؟ هل تظن أنني كنت سألتهم هذه الساحرة الصغيرة حيّة؟”
قال يوستار ببرودٍ قاتل
“إنه أمرٌ لا يُستبعَد منك.”
اتسعت ابتسامة ديسِبتر حتى تمزقت شفتاه في شكلٍ مشوَّهٍ كابتسامة مهرجٍ خُطّت بالألوان خطأ.
كان بريقٌ زيتيٌّ غريب يلمع على شفتيه، وشعره الأسود المنتصب يرفرف كألسنة النار.
قهقه ديسِبتر
“والآن وقد شرفنا الأمير بقدومه، ماذا سنفعل؟ من وجهة نظري، هذه الساحرة الصغيرة واقعةٌ في حبك حتى النخاع، يوستار هل أنسحب لأترك لكما المجال لتقضيا ليلتكما الأولى؟”
زمجر يوستار كفهدٍ هائج، كاشفًا عن أنيابه
“اختفِ فورًا.”
عند سماع كلماته، اشتعل شعر ديسِبتر أكثر وازداد طولًا، كأنما صُبَّ الزيت على النار.
ولاحظت لايلا أن النار لم تعد فقط في شعره، بل كانت تتأجج أيضًا في عينيه.
لكن ذلك لم يدم طويلًا.
في اللحظة التي أعاد فيها شفتيه الملتويتين إلى موضعهما الطبيعي، انسكب شعره الأسود المنتصب ليغطي وجنتيه، وبدا وجهه الخالي من أي دفءٍ إنساني كتمثالٍ من الجصّ، خطرًا وساحرًا في الوقت نفسه.
“حسنًا، سأرحل إذن أتمنى لكما ليلةً جميلة… أليس البشر يلمحون طرفًا من السماء حين يتّحدون؟”
صدر صوتٌ حادٌّ كصفير الهواء، لكن لايلا أدركت أنه لم يكن صوتًا سمعته، بل شعرت به.
وفي اللحظة نفسها، تصاعد خيطٌ رفيعٌ من دخانٍ أسود، واختفى ديسِبتر من أمام أعينهما كما لو كان وهمًا.
عندها فقط أطلقت لايلا أنفاسها المكبوتة، لكن ركبتيها خانتاها فسقطت أرضًا، وارتجفت أصابعها وهي تستند إلى السجادة.
حتى لسانها أحسّ بالبرودة، كأن الصقيع دبَّ فيه.
مد يوستار يده
“أمسكي بيدي، لايلا.”
لكنها هذه المرة صدّته بكل قوتها، ودفعته بعيدًا، ثم نهضت بصعوبةٍ وهي تتنفس بعنف.
صرخت بغضبٍ مكتوم
“ما الذي يحدث هنا؟!”
قبضت على كفيها بإحكام وسألته مجددًا بصوتٍ أعلى
“قلتُ ما الذي يجري؟! ما هذا كلّه؟!”
“اهدئي، لايلا أنا…”
قاطعتْه بحدة
“أهدأ؟ كيف؟ لقد ظهر شيطان أمامي! ليس وهمًا ولا خداعًا، بل شيطانٌ حقيقي! والكارثة أنه كان معك طوال الوقت! لماذا لم تخبرني من قبل؟!”
قال يوستار بنبرةٍ منخفضة وهو يمد يديه نحوها
“انتظري… اجلسي قليلًا، من فضلك.”
أمسك بكتفيها وأجلسها على السرير رغم مقاومتها، ثم التفت نحو الباب.
“إلى أين تذهب الآن؟!”
أجاب بهدوءٍ متماسك وهو يدير رأسه إليها
“سأطلب من أحد الخدم أن يُحضِر لك كوب شاي أنتِ ترتجفين بشدّة، ويداكِ باردتان، وشفاهك زرقاء تبدين كمن خرج من ماءٍ متجمّد.”
“لا داعي أنت تعلم أن الشاي لن يغيّر شيئًا من هذا.”
تردّد يوستار لحظة، ممسكًا بمقبض الباب، ثم تنفّس بعمقٍ وعاد ليجلس بجانبها.
قال بهدوءٍ مائلٍ إلى الحذر
“اسمحي لي أن أجلس هنا.”
وما إن جلس إلى جوارها حتى كادت لايلا تبتعد عنه غريزيًا، لكنها أوقفت نفسها، وأسندت جبهتها إلى كفها محاوِلةً جمع أفكارها.
قالت بصوتٍ متعبٍ لكنها حازمة
“تحدث أريد أن أعرف كل شيء.”
رفع يوستار نظره إليها بهدوءٍ مستسلم، وساد بينهما صمتٌ ثقيلٌ تراكم كالغبار في الهواء.
ثم زفر أنفاسه أخيرًا
“حسنًا… كان لا بد أن يأتي هذا اليوم.”
مرّر أصابعه في شعره الطويل، فتداخل الضوء والظلّ على وجهه المتعب.
حولت لايلا بصرها بعيدًا للحظة، لكن يوستار لم يلحظ ذلك، منشغلًا بما سيقوله.
تابع قائلاً بصوتٍ عميق
“نعم، كان ذلك شيطانًا حقيقيًا — كما قلتِ لكنني لم أستدعه أقسم بذلك.”
صرخت لايلا بعدم تصديق
“هذا مستحيل! لا يمكن أن يظهر دون عقد!”
“لم يكن عقدًا، لايلا في حالتي… لم أُبرم اتفاقًا مع الشيطان بل استُخدمت في العقد نفسه.”
تجعد جبين لايلا في قلقٍ شديد
“ماذا تعني؟ يوستار، أهذا يعني…؟”
رفع يوستار عينيه الخضراوين وأجابها بنظرةٍ حزينةٍ باردة
“كان والداي هما من أرادا إبرام العقد مع ديسِبتر وأنا ……كنتُ الثمن بكلماتٍ أبسط — كنتُ القربان.”
***
لم تفهم لايلا كلامه على الفور.
بالطبع، لم يكن الأمر كذلك من الناحية النظرية فقد تعلمت من والدتها الكثير عن الشياطين، وكانت تعرف جيدًا ما المخاطر التي ترافق عقد اتفاقٍ معها.
“في العصور المظلمة، كانت الساحرات يستدعين الشياطين عبر تقديم الأطفال الرضع كقرابينٍ ليمارسن معهم الفاحشة.”
ضحك يوسـتار بصوتٍ خافت عند سماعه كلام لايلا.
“صحيح، كانت تلك خرافة مشهورة جدًا لكن في حالة والديّ… كانت حقيقة.”
هزّت لايلا رأسها نافية.
“لا أفهم… يوسـتار، والداك هما الملك السابق و…”
“والملكة، نعم، هذا صحيح ولكن، لايلا، هل تعلمين؟ أفراد العائلة المالكة هم أسهل فريسة للهرطقة والطوائف الضالة.”
هرطقة وطوائف ضالة — ما إن سمعت لايلا هاتين الكلمتين حتى شعرت بأن شعر ذراعها يقف منتصبًا.
في تاريخ مملكة سيروو كانت أبشع الأحداث التي جعلت الناس يعانون الكوابيس جميعها من صنع أمثال أولئك.
حتى محاكم التفتيش وصيد الساحرات في العصور المظلمة، كان من يقودها أولئك أنفسهم تجرّأوا على استخدام اسم الإله، ولكن كم منهم كان يملك إيمانًا حقيقيًا بالفعل؟
ارتجف جسد لايلا، فربّت يوسـتار على كتفها كما لو أنه يتفهم مشاعرها، ثم واصل كلامه.
“الطائفة التي غسلت أدمغة والديّ كانت خبيثة جدًا، أو هكذا سمعت على الأقل فكل ما أعرفه عنهم هو ما حُكي لي، لأنني لم أرَ وجهيهما إلا في لوحةٍ صغيرة.”
قالت لايلا بصوتٍ مرتجف
“أولئك الأشخاص… ما الذي أرادوه حين استخدموك كقربان؟ ماذا كانوا يحاولون أن يحصلوا عليه؟”
كان يوسـتار يدرك تمامًا خوفها، لكنه لم يستطع منع نفسه من الابتسام بسخرية قبل أن يجيب.
ضحك ضحكة قصيرة جوفاء
“أرادوا جسدًا لا يشيخ ولا يموت على الأقل هذا ما أعرفه.”
زفرت لايلا بأنفاسٍ مرتعشة.
“هذا…”
“أمنية سخيفة، أليس كذلك؟ أن يعقد أحدهم اتفاقًا مع شيطان فلا يشيخ ولا يموت؟ مستحيل طبعًا ألا توافقين؟ فالثمن الأكبر والأهم في عقدٍ كهذا هو روح الإنسان ولكن لانتزاع الروح، يجب أن تُستنزف طاقة الجسد الحيوية أولًا… كان والداي، رغم كونهما ملكًا وملكة يحكمان البلاد، غبيين إلى درجة لم يتمكنا معها من إدراك ذلك.”
توقف يوسـتار قليلًا عن الكلام، ثم أضاف بنبرةٍ تحمل شيئًا من الدعابة
“ربما كانا ذكيين في البداية، من يدري.”
“إن كانا قد استخدماك كقربان، يوسـتار… فكيف… كيف نجوت؟”
رفع يوسـتار كتفيه، ثم أعاد شعره المتساقط إلى الخلف وقال بهدوء
“لا أعلم على وجه الدقة من يعلم؟ ربما أخطأوا في تلاوة التعويذة، أو كان هناك خلل في الدائرة السحرية، أو ربما أغضبوا ديـسِبتَر نفسه على أية حال، لم أصبح القربان، بل المضيف، وتحول كل من في ذلك المكان إلى قرابين بدلًا مني — أبي، أمي، زعيم الطائفة، وأتباعه، كل من كان حاضرًا هناك.”
سمعت أن المشهد كان مروّعًا بحق فبعض الخدم الذين رأوه للمرة الأولى فقدوا عقولهم تمامًا، والممرات امتلأت بتقيؤات وصراخ أولئك الذين تجرؤوا على النظر داخل الغرفة.
حاولت لايلا أن تمنع نفسها من تخيل ذلك المشهد الفظيع، فتنفّست بعمق محاولة تهدئة نفسها.
“إذن، يوسـتار… إن أصبحتَ مضيفًا لتلك الروح الشيطانية، فهل يعني ذلك…”
ماذا عليها أن تسأل؟ تشوّشت أفكار لايلا تمامًا كانت القصة صادمة إلى حدٍّ جعلها غير قادرة حتى على صياغة جملةٍ سليمة.
ابتلعت ريقها بصعوبة، ومسّت حلقها الجاف ثم سعلت بخفوت قبل أن تهمس:
“هل يعني ذلك أنك… لا تشيخ ولا تموت؟”
مدّ يوسـتار ساقيه وتثاءب قليلًا، وكأنه كان يتوقع هذا السؤال مسبقًا.
“من يدري؟ لست متأكدًا حتى الآن، كبرت بمعدلٍ طبيعي، وهرمت كغيري من الناس ولو كنت لا أشيخ ولا أموت، ألن أظل ملفوفًا باللفافة حتى الآن؟ بالطبع أعلم أن الخلود لا يعمل بتلك الطريقة، لكنها في النهاية مجرد قصص قديمة لا يوجد كائن حيّ لا يشيخ ولا يموت لذا لا سبيل للتحقق من ذلك ، صحيح أن جروحي تلتئم أسرع من غيري، لكنني لست أحمقًا لأخاطر بحياتي فقط لأتأكد إن كنت أموت أم لا.”
تسلل إلى صوته ضحكٌ خافت في نهاية الجملة شعرت لايلا بالدهشة من هدوئه، لكنها في الوقت نفسه رأت أن هذا أفضل من أن يكون حادّ النظرات كما في السابق.
“حتى لو كنتَ مضيفًا، فالاتفاق قد أُبرم بالفعل بينك وبين ذلك الشيطان… الاتفاق قائم، أليس كذلك يا يوسـتار؟ ما الثمن الذي دفعته؟ ماذا وعدته أن تمنحه؟”
التعليقات لهذا الفصل " 53"