حاولت لايلا أن تتململ وتقاوم، لكن قوتها لم تكن كافية لتشكّل تهديدًا له بل إن حركتها بدت أشبه بما يجذبه نحوها لا ما يُبعده عنها.
انزلق جسدها فوق الوسائد الناعمة، وارتفعت يد يوستار التي كانت تمسك بركبتها إلى الأعلى لتضغط برفقٍ على معصمها.
انسابت خصلات شعره الطويلة على جانبي نظرها ومن خلال تلك الخصلات البيضاء اللامعة التي تشبه ستارًا نصف شفاف، تسلّل الضوء والظلام في خيوطٍ رفيعةٍ متشابكة شعرت لايلا فجأةً برغبةٍ في مدّ يدها لتلمس ذلك الضوء… وتلك الظلال معًا
ثم تردَّدت في رأسها يا لها من همساتٍ مرةً أخرى :ألم ترغبين حقًا بلمس الظلام أو ذلك الضوء الخافت، يا لايلا؟
ابتسم يوستار ابتسامةً خافتة.
لحظةً، ظنَّت لايلا أن الصوت الذي سمعتُه قبل قليل ربما كان صوته هل كان صوته سبب الشعور بالذنب والفراغ الذي انتابها كلما حاولت أن ترفضه أو تبتعد عنه؟
كيف يمكن ذلك؟
“لايلا.”
حين تردَّدت كلمةُ يوستار بصوتٍ منخفضٍ، لم تستطع لايلا أن تردّ، واكتفت بابتلاع ريق يابس ما زال طرف أصابع يده على خدِّها ناعمًا كالحرير المطروق، وفي الوقت نفسه باردًا كالنسيم الشمالي.
“إذا كنا نتظاهر بأننا زوجان، فلابد من بعض الملامسات على الأقل هكذا سنتجنَّب الأخطاء.”
“…أي أخطاء؟”
ابتسم يوستار ابتسامةً ثانية لوهلة، بدأ بؤبؤا عينه وكأنهما تُحرِّكان لونًا أحمرًا مشابهًا للون عينيها… لكن لا، ربما كان انعكاس ضوء المصباح ظل نور المصباح يتراقص، فظهَرت ملامح وجهه أكثر حدَّةً من العادة أنفٌ بارزٌ وشفاه رفيعة تحدُّها خطوطٌ مغرية.
“بأي خطأ تتحدث، يوستار؟”
“هذا ليس المهم.”
مدت يدُه لمسة على خَدِّ لايلا ثم احتضنَ عنقَها.
فارتفعت لايلا بصوتٍ يخرج منها كأنها تنهيدة من البرد، شعرَت بقشعريرةٍ تبدأ من أسفل عمودها الفقري. كان شعورًا مختلطًا: بردٌ وخوف، ومع ذلك استيقظ بداخلها شهوةٌ غريبةٌ لم تعرف عنها شيئًا من قبل.
“لا تغمضي عينيكِ، لايلا.”
أطاعت لايلا وفتحت عينيها لتنظر إليه شاهدت وجهه يقترب ببطء، وشفتيه كأنهما تنتظران أن تبتلعها.
تلامَسَت أنفاسُه — حتى نسيمها كان باردًا كالجليد — فشعرت قشعريرةٌ دقيقة على ذقنها قبل لحظة من التقاء الشفتين، لمع بؤبؤ عينه بالاحمرار مرةً أخرى.
لكن لم يكن ذلك من انعكاس الضوء هذه المرة.
“لا!”
صرخت لايلا ودفعتْه بقوة، ثم انسحبت إلى الجدار أحسَّت بألمٍ طفيفٍ في يدها، وبدأت أصواتٌ تلومها داخل رأسها.
مع ذلك لم تستسلم لايلا جمعت كلَّ قوتها كي لا تذعن لتلك الأصوات.
“أنت لست يوستار.”
نزلت لايلا إلى تحت السرير وتراجعت للخلف لامست بساقيها الحافرتين السجاد البارد حافيةً دون نعال.
جلس على السرير يوستار — أو ما بدا عليه — شفتاه منحنيتان في ابتسامة رقيقة.
كان وسيمًا لدرجة تغري المرء بالاندفاع واحتضانه على الفور، لكن لايلا كانت متيقنة أنه ليس يوستار السبب؟ عيناه.
عيون يوستار الحقيقية لونها أخضر فاتح يذكر بمروجٍ بعد المطر لكن عيون هذا الشخص، الذي يشبه يوستار فقط، لم تكن كذلك.
في البداية بدا وكأنها نفس الخضرة، ثم تحوّلت إلى سواد لوهلة… والآن أصبحتا رماديتين شاحبتين الجزءُ الذي ينبغي أن يكون بؤبؤًا كان يهتز كمجسَّة ذيل السمكة — شيء كان له وهجٌ جهنّمي ظنت لايلا أنها خدعة ضوئية، لكنها لم تكن كذلك.
“أفضل مما توقعت حادَّةٌ إلى حدٍّ ما متمردة ومستقلة ساحرة رائعة.”
اتسعت عينَا لايلا من الدهشة كان الصوت نفسه صوت يوستار، لكن ذلك ليس هو… وشعرت بمزيجٍ من الرهبة الشديدة وألفةٍ لا يمكن تفسيرها.
رفَعَ ذلك الكائنُ رأسَه أدركت لايلا الآن أن وجهه لم يكن يشبه يوستار إطلاقًا ولم يكن شبيهًا بأي وجه رأته في حياتها أيضًا.
كان رجلاً جميلًا بشكل مرعب، يحدق فيها بعيونٍ تَتَلاطَم فيها النيران.
“أنت تلهثين وراء يوستار، فلماذا رفضته؟”
هزَّت لايلا رأسها بشدة تمنت لو أنها لم تُظهر أي رد فعل من الأساس.
“من أنت؟ بحقّ السماء…”
“أنتِ تسألِينني من أكون؟ يا للخسارة لا بد أنكِ رأيتِني مراتٍ عدة وإن لم يكن كذلك، فكيف تجرئين على سؤالي من أنا بعد أن نظرت في عيني؟ يا لها من موهبةٍ بلا تعليم.”
قال ذلك ثم توقف بدا أنه يميل إلى شيءٍ كأنه يدرس فريسةً مثيرةً للاهتمام، مثل ثعبانٍ يفكِّر في طريقة قتل فريسته.
“حتى لو لم تكوني قد رأتِي شكلي الحقيقي، فقد رأيتِني من قبل كنتِ تتساءلين عني، وطرحتِ على يوستار أسئلةً لكنه لم يجبك هيا، أنا جئتُ الآن لأُعطيك الإجابة.”
لم تكد كلماته تنتهي حتى خَفَّ الضوء كله.
تبدَّد الضياء الذي يسطع هنا وهناك في حدائق القصر، فعمَّ الظلام وسط هذا الظلام الذي اقتحم المكان، وفي العتمة التي انقضّت فجأة، سمعت لايلا صوتًا يتهامس في أذنها، كأنه يضحك بسخريةٍ خافتة.
— أنا أُدعَى ديسِبتر ألتهم الأرواح التي قبضتَما عليها، روح يوستار وروحك أنتِ يا لايلا كريسلراد، إن موهبتك تسعدني إلى حدٍّ يجعلني أودّ أن أُحرِق هذا المكان بأسره من فرط البهجة
***
استيقظ يوستار فجأةً من نومه، مرتجفًا من بردٍ مشؤوم، فاعتدل في جلوسه مذعورًا.
شعر لوهلة وكأنه قد أُلقي عاريًا في وسط سهلٍ مغطّى بالثلوج، لكن ما إن سمع صوت الحطب يتقافز داخل الموقد حتى بدأ دفءٌ خفيفٌ يتسلل إلى جسده، كأن البرد الذي اجتاحه كان وهماً غير أن رائحةً نفّاذةً كريهة باغتت أنفه فجأة.
إنها رائحة الكبريت.
كانت النار المشتعلة في الموقد تبعث رائحةً أشبه برائحة العفن، فأحس باشمئزازٍ حادٍّ كضربة برق.
اندفع يوستار خارج السرير من غير أن يرتدي رداؤه حتى، وخرج من الغرفة رأى الخدم يهرعون في الممرات ووجوههم شاحبة من الفزع.
قال أحدهم وهو يوشك أن يصطدم بيوستار
“صاحب السمو الأمير!”
انحنى الخادم على عجلٍ، فوقع بصر يوستار على الأقمشة التي كان يحملها في ذراعيه كانت ملطخة ببقعٍ داكنةٍ من الدم.
“الأطباء الملكيون في الداخل الآن، يا سموّ الأمير.”
هبط قلب يوستار في صدره، ليس فقط قلقًا على أخيه الملك، بل بسبب شعورٍ آخر لم يستطع تفسيره ألقى نظرةً بطيئة على أرجاء غرفته المظلمة، وكأن فيها من يختبئ في الظلال.
قال الخادم متلعثمًا
“إذًا، سموّ الأمير، أستأذن في الانصراف، فالوقت لا يسمح بالتأخير.”
انحنى الخادم مراتٍ متتالية ثم أسرع مبتعدًا حاملاً الأقمشة الملطخة كان واضحًا أنه ذاهبٌ ليحرقها سرًّا، حتى لا تنتشر الشائعات في القصر بأن الملك قد تقيأ دمًا فجأة.
استحضر يوستار وجهَ أخيه المريض، ثم بدأ يمشي بخطواتٍ سريعةٍ وثابتة.
لكن وجهته لم تكن جناح الملك.
تجاوز الخدم الذين كانوا يتحركون بهدوءٍ وقلقٍ في الممرات، ومضى يكاد يعدو حتى وصل أمام غرفة لايلا.
ما إن فتح الجنود الواقفون عند الباب الطريق له حتى ارتعبت ميل التي كانت جالسة في غرفة الجلوس وقد غلبها النعاس، فهبت واقفةً مذعورة رؤية يوستار في منتصف الليل، بملامحه الباردة وتلك الهالة القاسية، أرعبتها.
“صاحب السموّ الأمير، ما الذي أتى بك؟”
قالت ميل بخوفٍ ظاهر.
“أين لايلا؟”
التفتت ميل نحو باب غرفة النوم المغلق بإحكام، ثم خفَضت صوتها
“السيدة كريسلراد لم تتناول العشاء، ونامت باكرًا.”
قال يوستار دون تردّد
“سأدخل لأراها قليلاً.”
تجمد وجه ميل للحظةٍ وبدت عليها الحيرة.
كانت في سرّها تظن يوستار رجلاً قاسيًا لأنه لم يزر لايلا حتى تلك الليلة فقد فكّرت أن مهما كانت لايلا ساحرة، فهي زوجته رسميًا، ومن الطبيعي أن يقضي معها ليلة الزفاف.
فلو شاع أن يوستار لم يقترب منها حتى في الليلة الأولى، فكيف سيكون وضعها في القصر لاحقًا؟
لكن حين أعلن فجأةً رغبته في رؤيتها، لم تشعر ميل بالارتياح بل بالخوف فثمة توترٌ غريبٌ ينبعث من يوستار هذه الليلة.
قالت على عجل وهي تحاول منعه
“سموك… لحظةً فقط دعني أدخل أولاً لأوقظ السيدة كريسلراد.”
غير أن يوستار لم يُبدِ أي نية للتوقف أو الانتظار بل نظر إليها نظرةً حادةً ثابتة وقال بصوتٍ باردٍ
“لا حاجة لذلك واخرجي من هنا قدر الامكان ، ومهما سمعتِ من أصواتٍ في الداخل، لا تفتحي الباب حتى أخرج بنفسي.”
التعليقات لهذا الفصل " 52"