كان صوت هيميرد الحادّ يشبه صوت شخصٍ مرهقٍ غاضب، أو كأنها فقدت قدرتها على كبح انفعالها بسبب تراكم التعب طبقةً فوق طبقة.
وفي الواقع، كانت كذلك حقاً فحتى اضطرارها إلى دخول القصر الملكي خفيةً كي لا يراها أولئك الذين يعادونها، كان بحدّ ذاته إهانة لا تُطاق.
تأملت لايلا هيميرد التي كانت تفرك ما بين حاجبيها بنظرةٍ ثابتة وبين حينٍ وآخر كانت تخرج أنفاساً غاضبة، فتبدو وكأنها تفكّر في الطريقة المناسبة لتأديب طفلٍ سكب الحليب.
الآن فقط سكبته فعلاً فكّرت لايلا لقد قلبتُ وعاء الحليب الذي كانت تحرص عليه أشدّ الحرص.
“ما الذي تنوين فعله باستخدام يوستار؟”
توقّفت أصابع هيميرد عن فرك جبينها فجأة ولو لم تتحلَّ بشيءٍ من الصبر، لربما هاجمت لايلا ولفّت يديها حول عنقها.
قالت بغضبٍ حاد
“ما الذي تقولينه؟”
“أنتم تقولون إنه لا ينبغي لي أن أبقى، وإنه لا يجوز أن تكون شريكة يوستار ساحرةً… أليس ذلك لأن كوني ساحرةً سيكون نقطة ضعفٍ له؟ ولماذا لا ينبغي أن تكون له نقطة ضعف؟ أليس لأنه ضروريٌّ لأمرٍ ما تريدين تحقيقه، يا سيدة الماركيزة؟ أنتِ تحتاجين إليه كاملاً، بلا أيّ خللٍ أو عيب… أليس كذلك؟”
شحب وجه هيمورد حتى أصبح أزرق.
“كيف تجرئين على قول ذلك؟!”
قالت بحدة، وقد بلغ بها الغضب حدّاً جعلها لا تدرك أن انفعالها هذا لم يزد لايلا إلا يقيناً بصحّة حدسها.
صرخت هيميرد من جديد
“كيف تجرئين على مثل هذا الاتهام! أتظنين أنني أستخدم سموّ الأمير لمصالحي الشخصية؟”
“ربما ليس لأجل مصالحك الشخصية.”
تلعثمت هيميرد في ارتباكٍ ظاهر، فلم تكن تتوقع من لايلا هذه البصيرة الحادّة، بل لم يخطر ببالها أصلاً أن تجرؤ على مواجهتها بهذا الشكل.
اضطرّت هيميرد إلى التماسك كي لا تهرب من نظرات لايلا التي كانت تبحر في عينيها بثباتٍ مزعج كانت هيميرد، التي طالما سيطرت على الحروب بحسابٍ دقيقٍ وتنفيذٍ جريء، تجد نفسها الآن في موقفٍ غايةٍ في الارتباك.
سألت لايلا بعد صمتٍ طويل
“هل وافق يوستار على خطّتك؟ هل هذا ما يريده هو أيضاً؟”
ارتجفت شفتا هيميرد.
“من الأفضل لك أن تتوقفي عن هذا التبجّح، أيتها الساحرة.”
نادتْها بـالساحرة ، لكنها شعرت في تلك اللحظة بعدم ارتياحٍ غامض، بل وخطر في خاطرها شعورٌ غريب بأنها تريد أن تنفجر بالبكاء وتتشبّث بلايلا طلباً للعون، فارتعبت من نفسها.
ما الذي يخطر ببالي الآن؟ أأنا طفلةٌ استيقظت من كابوسٍ وأجري إلى غرفة أمّي؟
لا، هذا مستحيل فكّرت هيميرد لن أفعل ذلك أبداً فشدّت قامتها أكثر وقالت بنبرةٍ حازمة
“هذا ليس من شأنك.”
شعرت لايلا بكل ما يختلج في داخلها من خوفٍ وضياع، رغم أنها لم تفهم كيف تستشعر تلك المشاعر، لكنها كانت تعلم يقيناً أنها صادرةٌ من هيميرد.
“هل تنوين الإطاحة بالملك وتنصيب يوستار مكانه؟”
في تلك اللحظة، بدا صوت لايلا لهيميرد وكأنه صرخة مدوّية، فارتعبت إلى حدّ أنها كادت تسقط أرضاً وهي تتراجع خطوةً إلى الوراء.
لكنّ المكان ظلّ ساكناً لم يُسمع أيُّ اضطرابٍ من الخدم في الخارج كان صوت لايلا منخفضاً جداً، بالكاد يسمعه من يقف أمامها.
اكتفت لايلا بهزّ رأسها كما لو أنها قرأت الجواب في وجه هيميرد، ثم تراجعت خطوتين
“إن كان الأمر كذلك، فلا داعي لأن تجهدي نفسك لطردي يا سيدة الماركيزة.”
“ماذا تعنين؟”
كان صوتها متوتّراً خالياً من الثبات، يشبه صوت سارقٍ ضُبط متلبساً لم تعد هيميرد تلك المرأة التي تسيطر على رجال البلاط الملكي وتُخضعهم لإرادتها، بل أصبحت الطفلة سوي الصغيرة التي استيقظت من كابوسها تبكي، ولا أحد يهدّئها سوى لايلا.
“لم أكن أريد هذا من الأساس لم آتِ إلى هنا لأشارك في أمرٍ كهذا لكن يوستار طلب مني أن أطيع إرادة الملك… جلالته.”
“سموّ الأمير؟ هذا… مستحيل…”
“اذهبي واسأليه بنفسكِ لكن كل ما قلته حقيقي ولن أكون زوجته الحقيقية أبداً لا أعرف ماذا يريد يوستار بالضبط، لكن عندما يحقّق ما يريد، سأرحل سأغادر إلى مكانٍ بعيدٍ جداً… حيث لا يستطيع أحد أن يجدني.”
إلى مكانٍ حرّ ابتلعت لايلا هذه الكلمات ولم تنطق بها، ثم نظرت إلى هيميرد .
الحرية… كلمةٌ تزداد بُعداً كلما اشتدّ شوقها إليها.
الحرية الحقيقية التي لم تذقها يوماً بدت كحلمٍ أسطوريٍّ من حكايات الأطفال؛ أحياناً تشعر أنها قريبة حتى تكاد تمسك بها، ثم تغمض عينيها لحظةً فإذا بالواقع الجامد يجتاحها كالموج ويجرف كل خيالها.
لكن يوستار… يستطيع أن يحققها لي فكّرت لايلا لن يخلف وعده.
كانت هيميرد تحدّق في لايلا بوجهٍ شاحبٍ كالورق الأبيض، ويداها ترتجفان وهما مقبوضتان تحت ثنايا فستانها.
“كيف لي أن أصدقك؟”
“سواء صدّقتِ أم لا، فلن يتغير شيء لكنني أعرف تمامًا من أكون أعرف نفسي أفضل منكِ، يا سيدة الماركيزة على الأقل أملك من الوعي ما يكفي لأدرك موقعي وحدودي.”
أحسّت هيميرد بالحرج للحظة، لكنها سرعان ما طردت هذا الإحساس بعيداً.
“سآمر ميل بأن ترفع إليّ تقارير مفصلة عنكِ لا مانع لديكِ، أليس كذلك؟”
ضحكت لايلا بسخرية خفيفة
“ومهما كان جوابي، ستفعلين ذلك على أي حال، أليس كذلك؟”
“صحيح وإن رفضت ميل، فسأكلف غيرها يجب أن تكوني تحت عينيّ حتى أشعر بالاطمئنان.”
“لا بأس افعلي ما تشائين قلتُ لكِ، سواء وثقتِ بي أم لا، فلن يتغير شيء… حتى يحين اليوم الأخير.”
حتى يحين اليوم الأخير.
تسلّل البرد إلى عمود الفقري لهيميرد حين سمعت تلك العبارة، إذ لم تستطع أن تفهم ما الذي تنتظره لايلا حقاً أو ترجوه.
“حسناً… سأحاول أن أصدقك أو على الأقل… أن أُظهر ذلك.”
أومأت لايلا برأسها ثم استدارت هيميرد مسرعة وخرجت من الغرفة بخطواتٍ متوترةٍ متعجلة ابتعد صدى خطواتها شيئاً فشيئاً، وانهارت لايلا على السرير كمن سقط مغشياً عليه.
كان الشاي قد برد تماماً، حدّقت لايلا مطولاً في قطعة الكعك الإسفنجي كاستيلا التي تفتّتت وجفّت رطوبتها، ثم أغلقت عينيها وبينما هي كذلك، غرقت في نومٍ عميقٍ كأنها أُغمي عليها.
***
— صرّ…
صدر صوت خافت من مكانٍ ما.
(ما هذا الصوت؟)
تساءلت لايلا وهي مغمضة العينين بدا لها أنّها سمعته من قبل، لكنّها لم تستطع أن تتذكّر أين.
— صرّ… صرير…
كان جسدها ثقيلاً كقطعة قطنٍ مشبّعة بالماء، فلم تستطع أن تتحرك قيد أنملة حاولت، وهي مغمضة العينين، أن تتبع مصدر الصوت.
(من عند قدميّ؟) …
لا، بل بدا أقرب من ذلك كأنّه يتحرك شيئاً فشيئاً… من عند قدميها إلى الأعلى، ثم إلى الأعلى أكثر فأكثر…
— صرّ…
ارتجفت جفون لايلا ارتجافاً خفيفاً.
الصوت كان الآن عند رأسها مباشرة، ولم يعد يتحرك بعد ذلك بقي ثابتاً في مكانه.
(كرسي هزّاز…)
خطر لها فجأة، كما لو أن شعاعاً من الضوء قد اخترق ظلمة حفرةٍ مظلمة كان ذلك صوت الكرسي الهزّاز الذي في بيتها، كرسيّ أمّها الذي كان يتحرك ببطء إلى الأمام والخلف.
(لكن… هذا ليس منزلي.)
(ولِمَ لا أستطيع تحريك جسدي؟)
تسلّل أنينٌ خافت من شفتي لايلا كان جسدها، الذي أحسّت به ثقيلاً كقطنٍ منقوعٍ في الماء، قد أصبح الآن كقطعة صخرٍ صلبة استمر الصوت المزعج في الصرير، ملازماً لرأسها.
ارتعش جسدها الممدود على السرير ذهبت تدير نظرها في أرجاء الغرفة، ثم حرّكت أصابعها التي كانت تشدّ الملاءة.
ظنّت أنّ مفاصلها المتصلّبة ستنكسر من شدّة التجمّد، لكن… لم يحدث ذلك تحرّكت أصابعها بسهولة كانت تشعر بإرهاقٍ يكاد يطيح بوعيها، لكن لم يكن تحريك جسدها أمراً صعباً.
“لايلا، هل أنتِ بخير؟”
(يوستار …)
فكّرت لايلا، وقد سمعت صوته قريباً منها التفتت، فرأت وجهه مضاءً بضوءٍ دافئ.
“يوستار؟”
“هل أنتِ بخير؟ كنتِ تبدين كأنك ترين كابوساً.”
رمشت لايلا بعينيها، مذهولةً، ثم اعتدلت ببطء، وأخذت تنظر حولها.
“ما بكِ؟”
سأل يوستار.
عندما أدركت لايلا أنّها ما زالت داخل غرفتها، اجتاحها الارتباك.
كان الظلام يغمر الخارج خلف النافذة، وكلّ ما لم يبلغه ضوء المصباح كان مغموراً بظلالٍ كثيفةٍ كالمستنقع بدا واضحاً أنّ الليل قد حلّ بينما كانت نائمة.
قالت لايلا بصوتٍ منخفض
“هل… هل الظلام في الخارج حقيقي؟ هل أتى الليل فعلاً؟”
“نعم، يبدو أنّك كنتِ مرهقة جداً لقد نمتِ طويلاً دون أن تستيقظي حتى.”
(مرهقة، حقاً…)
فكّرت لايلا.
(زارتني هيميرد، وقبل ذلك كان عليّ أن أمدّ يدي لعددٍ لا يُحصى من الغرباء الذين لم أعرف أسماءهم ولا وجوههم… حتى تجمّدت أصابعي من البرد.)
حدّقت لايلا في يوستار بعينين متسعتين.
(إن كان الوقت ليلاً وهذا مكاني… فما الذي يفعله هنا؟)
“… نعم، كنت متعبة جداً.”
ما إن أجابت، حتى ابتسم يوستار بلطف كانت ابتسامته هادئة كما عهدتها دائماً مدّ يده ووضع راحته على جبينها، كأنه يتفقد حرارتها.
“لا بدّ أنّك كنتِ كذلك حتى أنا شعرت بالإرهاق، فكيف بكِ أنتِ؟”
كانت راحة يده باردةً منعشة، فشعرت لايلا بالراحة من ملامسته.
وما إن أغمضت عينيها دون وعي، حتى ضحك يوستار بخفوتٍ لطيفٍ يبعث الطمأنينة، ثم وضع يده على خدّها برفق ثم انزلقت أصابعه الملساء المنسّقة لتلامس طرف أذنها، ثم لتمسّ بحذرٍ المنطقة القريبة من شفتيها
التعليقات لهذا الفصل " 51"