على نحوٍ غير متوقع —لم تكن راغبة في وصفه كذلك، لكنه كان حقًّا غير متوقع— شعرت لايلا ببعض الجرح من كلام يوستار ثم ارتعبت في داخلها من كونها قد تأذت أصلًا.
“أتقصد أنك لا تمانع أن تُعامَل بتلك الطريقة؟”
قالت لايلا مجددًا، بنبرةٍ أكثر حدّة هذه المرة، وقد شعرت هي نفسها بتلك الحِدّة ويبدو أن يوستار أدرك أيضًا أن سلوكها لم يكن معتادًا، فعبس قليلًا متسائلًا بعينيه.
“لايلا، قلت لك من قبل هذا أمر لا يخصّني وحدي.”
“لمجرد أنه لا يخصّك وحدك لا يعني أنه أمرٌ عادل إن كان الجميع مضطرين لأن يعيشوا كالعبيد، فهل يعني ذلك أن وجود العبيد أمرٌ مبرَّر؟”
أطلق يوستار ضحكة خافتة ممزوجة بالمرارة كانت لايلا عادةً تشعر بالسكينة حين تراه يبتسم، لكن اليوم لم يكن كذلك.
حاولت جاهدًة كبح مشاعرها المتأججة، وفي الوقت ذاته تساءلت عن السبب الذي يجعلها غاضبة إلى هذا الحد.
“إنه استنتاج مبالغ فيه، يا لايلا.”
خُيِّل إليها أنها سمعت صوتًا حادًّا كصفيرٍ خفيف، لكنّها أدركت أنه مجرد وهم ومع ذلك، أحست كأن كلماته قد خدشت داخل صدرها بخطٍّ رفيعٍ حادٍّ كحلقةٍ معدنية صغيرة.
كان يوستار يستبعد لايلا تمامًا من هذه المسألة.
فمهما كان نوع المعاملة التي يتلقاها من ملك أود، سواءٌ أكان يُعامَل كحصانٍ مخصّص لخدمة المملكة، أم كأميرٍ عديم الفائدة لا يصلح إلا لزواجٍ سياسي مع ساحرةٍ ما، فكل ذلك شأنه وحده، لا شأن للايلا به.
أليس ذلك منطقيًّا؟ فكّرت لايلا أليس ما يفعله يوستار هو القرار العقلاني؟
نعم، كان كذلك غير أن ذلك بالذات هو ما جعلها أكثر غضبًا — كونه يستبعدها شخصيًّا عن حياته، وكأن من الطبيعي أن يفعل ذلك.
“حسنًا، فهمت.”
قالت لايلا وهي تحدّق في قاعة الاستقبال الفارغة بعينين خاليتين من التعبير، ثم نهضت من مقعدها تعثّرت قليلًا حين انحشرت أطراف فستانها في رجل الكرسي، فاهتزّ جسدها.
“احترسي!”
أمسك يوستار بذراعها بسرعة، فنظرت إليه لايلا بعينين امتزج فيهما الخجل بالاستياء، ثم سحبت طرف فستانها العالق بالكرسي بعصبية ونزلت إلى الأرض.
كان يوستار يبدو شديد الارتباك من تصرفها هذا.
وحين همّت بعبور القاعة نحو الباب، تبعها وأمسك بذراعها مجددًا توقفت لايلا، لكنها لم تلتفت إليه، وقد خرجت أنفاسها بصوتٍ متقطعٍ غاضب.
“لايلا، ما الأمر؟ لماذا غاضبة ؟”
“لستُ غاضبة.”
“لا تكذبي ، جسدك كلّه ينطق بالغضب الآن.”
عضّت لايلا شفتها إلى الداخل بقوة، وأطبقت أصابعها المرتجفة لتكوّن قبضةً متوترة، فارتجف كتفاها ظلت تدير وجهها بعنادٍ بعيدًا عنه، ثم انتزعت يدها من قبضته.
“غضبي لا يعني شيئًا ليوستار، فلا حاجة لأن تهتمّ به.”
وفي تلك اللحظة، رغبت لايلا أن تلتفت لترى ملامح وجهه كان عليها أن تراه…
رغم أنها كانت تعلم أنه من المستحيل أن يتأذّى من كلامٍ كهذا، إلا أنها خافت في داخلها من احتمالٍ ضعيف بأنه قد تأذّى فعلًا وفي الوقت نفسه، شعرت بالحنق على نفسها لأنها تفكّر بذلك الشكل المتناقض.
لكن يوستار لم ينبس ببنت شفة كان صمته ثقيلاً لا يُحتمل، فقبضت لايلا على أطراف فستانها بقوة وبدأت تمشي طَق، طَق…
تردّد صدى خطواتها عبر الممرّ، ومع ذلك لم يتبعها يوستار وفي منتصف الممرّ الفارغ، شعرت فجأةً بوخزٍ عميق من الوحدة كان إحساسًا لم تستطع تفسيره.
***
“ما نوع الرجل الذي يكون عليه الملك؟”
سألت لايلا فجأة بعد أن ظلت ممددة على السرير لفترة طويلة، حتى إنّ ميل كادت تُسقط إبريق الشاي من يدها دهشةً.
“سيدتي كريسلايد، عليكِ أن تخاطبيه بلقب جلالة الملك.”
“لكن لا أحد هنا ليسمعني.”
“أنا أسمعك، سيدتي.”
أطبقت لايلا شفتيها بصمت كانت قد تخلّت عن فستان الحفل الفاخر وكل ما ارتدته من حُليّ لأجل المراسم، ولم ترتدِ سوى ثوبٍ بسيطٍ أشبه بملابس النوم، ومع ذلك، بدت في عيني ميل أجمل من أي وقتٍ مضى.
تنهدت لايلا بعمق
“حسنًا، إذًا… كيف هو جلالة الملك؟”
مالت ميل رأسها قليلًا وهي تصبّ الشاي.
“سؤال من هذا النوع صعب قليلًا يا سيدتي أتقصدين من الناحية السياسية؟”
“لا، ليس ذلك السياسة…”
كادت تقول لا تهمّني، لكنها توقفت في منتصف الجملة ومن تعبير وجه ميل، أدركت أنها أحسنت صنعًا إذ لم تُكملها.
“ربما أقصد من الناحية الشخصية؟”
“لا أجرؤ على التحدث عن شخصية جلالته، سيدتي كريسلايد.”
“يمكنك أن تعبّري عن رأيك فقط، كما ترينه أنتِ.”
كانت ميل تودّ لو أن لايلا اكتفت بشرب الشاي مع قطعةٍ من الكعك لتستريح، لكنها بدت مصرّة على سماع الجواب، ولن تهدأ حتى تسمعه.
لم ترَ ميل لايلا بتلك الدرجة من العناد من قبل، والأدهى أن الموضوع كان الملك نفسه، مما جعلها تتساءل بقلقٍ عمّا جرى.
“هل قال جلالته شيئًا أزعجكِ يا سيدتي كريسلايد؟”
أغمضت لايلا عينيها ببطء، ثم فتحتهما مطلقةً تنهيدة قصيرة وهي تلمس طرف الكعكة بأطراف أصابعها.
“لا، لم يقل لي شيئًا.”
“إذن لا أفهم سبب فضولكِ هذا يا سيدتي.”
“لكنه قال شيئًا… ليوستار، سمو الأمير لو كنتُ أنا من سمع تلك الكلمات، لما كنتُ لأحتملها ومع ذلك، تصرّف الأمير وكأن الأمر لا يعنيه.”
ارتسمت على وجه ميل علامة تفكيرٍ عميق، لكنها سرعان ما هزت رأسها
“جلالته شخص نبيل من الناحية الأخلاقية والسياسية على حدّ سواء إنه مريض هذه الأيام، ولم يعد كما كان، لكنّ جميع النبلاء الكبار والوزراء القدماء يعرفون أنه كان رجلًا ذكيًّا ولطيفًا إلى أقصى حد.”
ذكي ولطيف…؟
ضحكت لايلا ضحكة قصيرة ساخرة بالكاد تُسمع.
ربما كان ذكيًّا، لكنها لم تستطع أن تتخيله لطيفًا بل على العكس، بدت كلمة اللطف أبعد ما تكون عن ملك أود لم تستطع حتى أن تتخيله يحبّ أحدًا بصدق، ولا حتى شقيقه يوستار.
في تلك اللحظة، ارتفع ضجيجٌ من جهة غرفة الجلوس خارج غرفة النوم وقبل أن تلتفت لايلا لترى ما يحدث، أسرعت ميل إلى الخارج لتتحقق من الأمر غير أنّ التي عادت لم تكن ميل.
“الـ…ـماركيزة؟”
قالت لايلا مذهولة وهي تنهض من سريرها على الفور.
الشخص الذي اقتحم غرفتها دون سابق إنذار كانت الماركيزة هيميرد.
كان الغضب واضحًا على وجهها، وكأنها تبذل جهدًا كبيرًا لكبحه، ومع ذلك ظلّت أناقتها لا تشوبها شائبة كانت ترتدي فستانًا رسميًا متقنًا يحيط خصرها حزامٌ عريض، على عكس لايلا التي كانت ترتدي ثوبًا بسيطًا ومريحًا.
“هل تنوين البقاء هنا؟”
نظرت لايلا حولها إلى الغرفة التي بدأت لتوّها تشعر بأنها غرفتها حقًّا
“أتقصدين إن كنتُ سأبقى في هذا المكان؟”
“نعم أعني في القصر الملكي هل ستبقين في القصر؟”
تأملت لايلا الماركيزة بصمتٍ للحظة دون أن تجيب.
كانت تعرف السبب وراء مجيئها.
كانت تعرف أنها تعلم بزواجها من يوستار، ورغم ذلك استمرت في مخاطبتها بازدراء، واقتحمت المكان بغضبٍ مكتوم وسؤالٍ فظّ كل ذلك كان يعكس بوضوح غرضها الحقيقي — الغيظ الذي تغلي به.
“لا أملك خيارًا آخر يا سيدتي الماركيزة في الوقت الراهن، نعم… و سأبقى لبعض الوقت على الأقل.”
انعوجت شفتا هيميرد قليلًا، كما لو أنها حاولت السخرية، لكن يبدو أن التوتر —أو ربما الغضب— حال دون أن تتمكن حتى من ذلك.
“هل تحملين مشاعر نحو سمو الأمير؟”
في تلك اللحظة، نظرت لايلا إلى قطعة الكعك التي تفتّت طرفها قليلًا.
لم تعرف لماذا لفتت انتباهها فجأة، ربما لأنها شعرت أن الجزء المكسور منها يشبهها هي نفسها — شيئًا غير كامل، لا ينسجم تمامًا مع محيطه…
لكن الغريب أنها لم ترَ نفسها وحدها في ذلك التفتّت، بل رأت أيضًا وجه الماركيزة هيميرد.
شعرت أن هذه المرأة أيضًا متشققة من الداخل، إما منذ زمنٍ بعيد أو مؤخرًا فقط.
مهما يكن، فقد كانتا مختلفتين تمامًا، ومع ذلك متشابهتين في جانبٍ ما أحست لايلا بشيءٍ يشبه الشفقة تجاهها.
إلا أن الوقت كان قد فات على أي محاولةٍ للتراجع.
“أليست الماركيزة هي من تحمل مشاعر نحو سمو الأمير، لا أنا؟”
لم تكن نبرة لايلا هجومية، ولم يكن في صوتها أي أثرٍ للسخرية، بل كان سؤالها نقيًّا وصريحًا فحسب — وذلك بالضبط ما جعل الماركيزة تزداد غضبًا.
شحب لون وجه هيميرد حتى مال إلى الزرقة، ثم أطلقت أنفاسها بعنف.
“نعم، هذا صحيح لقد أحببته بصمتٍ لما يقارب عشر سنوات إنه أعزّ عليّ من أي إنسانٍ آخر، هو الوحيد الذي لا يمكن أن أبدله بشيء.”
قالت لايلا بهدوء
“ولهذا تغضبين مني؟”
عندها نظرت هيميرد إليها بنظرةٍ امتزج فيها الحزن والحنق.
“هل تصدقين إن قلتُ لك إنني لا أتحدث بدافع الطبقة أو النسب؟”
لم تجب لايلا، وكان صمتها بحد ذاته نفيًا.
تابعت هيميرد كلامها
“سمو الأمير بحاجةٍ إلى شريكة، وهذا أمرٌ يعلمه الجميع لكن…”
توقفت لبرهة، تحدّق في لايلا بصمتٍ ثقيل، ثم تدلّت كتفاها كأنما فقدت قوتها.
“لا أستطيع أن أقف مكتوفة اليدين وأرى ساحرةً تصبح شريكةً له.”
حقًا؟ فكرت لايلا هل هذا كل ما في الأمر؟
“وماذا لو كنتُ ساحرةً وُلدت في أسرةٍ نبيلة؟ هل كان ذلك سيُرضيكِ؟”
تصلبت نظرات هيميرد، وبدت عيناها حادّتين كالنصل.
“سواء صدقتِ أم لا، لستُ أعارض ارتباطكِ به بسبب طبقتكِ أو أصلكِ لا تظنيني تافهة إلى هذا الحد لو أراد سمو الأمير أي سيدةٍ أخرى، لتمنّيت له السعادة من قلبي لكنكِ أنتِ… لا وجودكِ سيُعيقه إن أصبحتِ شريكته، فستكونين عائقًا له.”
قالت لايلا ببرودٍ امتزج بالدهشة
“لا أفهم.”
وكان وجهها في تلك اللحظة يحمل ملامح مختلطة — بين الحيرة، والاستغراب، والظلم المكبوت.
“الذي احتاج إليّ هو يوستار، لا العكس.”
هزّت هيميرد رأسها وقالت بحدةٍ يملؤها الأسى
“أنتِ لا تفهمين، يا آنسة لايلا الأمر لا يتعلق بـتينتينيلا فحسب بل بما هو أهمّ وأعقد بكثير لن تفهمي، ولن يمكنكِ أن تفهمي لكن يجب أن تدركي شيئًا واحدًا — لا يمكنكِ أن تبقي لا يجوز أن تكون شريكةُ سمو الأمير ساحرةً.”
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 50"