يوستار تقدّم إلى الأمام متلمسًا بأطراف أصابعه فوق الأرض المبتلّة المظلمة بدا وكأنه يُبتلع تدريجيًا داخل الظلمة.
تبعته لايلا بيأس كي لا تفقده، لكن كلما توغلوا أكثر في أعماق الغابة، تعاظمت داخلها رغبة شديدة في الفرار.
قالت لايلا بصوت خافت، وهي تحتمل الخوف محتضنة جسدها بذراعيها:
“هذا المكان… يوحي بشعور سيئ.”
ارتجف الخوف في صوتها، الذي كان دومًا متبلدًا غير أن يوستار أومأ برأسه بهدوء، كأنما كان الأمر متوقعًا.
“ربما لأن هناك سينك قريب من لا يعتاد الطاقة التي يبثّها السينك، يشعر بالخوف عادة لكن لا يجب أن تسمحي لنفسك بأن تبتلعيه لايلا، أنتِ تحديدًا لديك قابلية أكبر للتأثر بالسينك عيناك، أذناك… ودمك كساحرة، كلها طُعْم لذيذ بالنسبة له كأنك تينة ناضجة تقطر بالعسل، لو شئنا التشبيه.”
وفي اللحظة التي شعرت فيها لايلا بقشعريرة تسري على طول ظهرها، توقف يوستار عن الحركة كانت لايلا في قمة التوتر، حتى إن أبسط حركة منه كانت تثير رد فعل عنيفًا داخلها.
“ما الأمر؟ هل هناك شيء؟”
اعتدل يوستار بعد صمت قصير وقال:
“مات طفل في هذا المكان… وأمه كذلك.”
ثم ألقى نظرة دائرية على الغابة السوداء الخالية من أي ضوء، ونظر إلى وجه لايلا.
“إذا رأيتِ شيئًا، أخبريني، لايلا.”
“رأيت؟! لا أرى شيئًا الظلام دامس بالكاد أرى وجهك…”
وظهرت “هي” في تلك اللحظة بالضبط.
لم تستطع لايلا أن تدرك ما حدث على الفور، لم يكن في ذهنها سوى رغبة واحدة: الهروب من هذا المكان.
رغم أن يوستار كان يحميها بذراعه، إلا أن وجوده لم يعد يبعث على الطمأنينة كان قلبها يصخب بجنون، وعقلها يصرخ بتحذير مدوٍ أن عليها الفرار فورًا.
كان ذلك “شيئًا” على هيئة حفرة حفرة سوداء حالكة، كأنها طبقة أخرى من الظلمة فوق الظلام، أشبه بالغبار الذي نثره يوستار من قبل كانت سوداء إلى حد أنه يمكن تمييز حدودها بوضوح.
فهمت لايلا غريزيًا أن لتلك الحفرة قاعًا لا يُدرك وفي اللحظة التي أدركت فيها ذلك، كانت قد بدأت تتحرك بخطى نحوها أما التحذيرات التي كانت تصخب في رأسها، فقد توقفت فجأة.
“لايلا! تماسكي! لا تتواصلي مع السينك!”
تواصل؟ ماذا يقول؟ ومن هذا الرجل أصلاً؟
“هذا… حزين جدًا.” فكّرت لايلا. “يوجد شخص ما هناك… حزين جدًا…” ومع تكرار هذا التفكير، بدأت تشعر بالشفقة كان عليها أن تدخل وتساعد ذلك “الشخص” في الداخل…
— لايلا كريسيراد.
ارتعشت لايلا فجأة كما لو طُعنت بسكين، واتسعت عيناها.
لم تكن تعلم من ناداها للتو بدا وكأن يوستار هو من قال اسمها، لكن الصوت لم يكن له… أو بالأحرى، لم يكن “شخصًا” من تحدث، بل “شيئًا”.
بالتأكيد لم يكن إنسانًا.
تماسكت لايلا بصعوبة، واستدارت نحو يوستار.
“ذلك… هل هو السينك؟”
شدها يوستار برفق إلى صدره وأومأ برأسه.
“السينك هو ‘ظاهرة’، لكنه أيضًا كائن حي.”
“هل تعني أنه… حي؟”
“ليس كالبشر أو الكلاب أو القطط ممن يملكون لحمًا ودمًا… لكنه كيان حي على المستوى المفاهيم لذا، لا يجب أن تتواصلي معه بأي مشاعر ألم أخبرك من قبل؟ أنتِ بالنسبة للسينك كالتينة التي تقطر بالعسل سيفعل كل ما بوسعه ليبتلعك لا تسمحي لنفسك أن تشعري بأي شيء نحوه.”
“لكني لا أستطيع التحكُّم في ذلك… يحدث دون وعي مني…”
ابتسم يوستار بلطف كانت ابتسامته تهدف إلى طمأنتها.
“أعرف هذا ما يحدث لكل من يواجه السينك دون أي وسائل حماية لكن تذكّري كلامي طالما أنا إلى جانبك، لا يمكن لأي أحد أن يؤذيك لا سكان القرية، ولا حتى ‘السينك’ لايلا، حان الوقت الآن لنستخدم عينيك انظري جيدًا ماذا ترين؟”
لم تكن لايلا ترغب في الالتفات، لكن أدركت أن يوستار كان يتحكم بحركتها بلطف.
وما أدهشها هو أنها لم تشعر بأي انزعاج من ذلك.
عندها، لفت انتباهها شكل مختلط بين الرمادي والأبيض.
كان طفلًا.
كان صبيًا يجلس قرب حفرة السينك، ساقاه ممدودتان حوله كانت تتدحرج أشياء تشبه الكرات…
“لا… تلك ليست كرات…” فكرت لايلا.
وفجأة، جفّ حلقها.
“تلك… عيون.”
همست لايلا:
“عيون أطفال موتى ما هذا بحق السماء…”
اقترب يوستار منها حتى كاد أن يضمها، ثم مدّ رأسه من فوق كتفها حرّك زينة العدسة التي يرتديها على عينه اليمنى قليلًا، ثم تنهد بصوت خافت.
“رائع الرؤية واضحة جدًا بهذا المستوى، أستطيع أن أرى ما ترينه أيضًا.”
وأثناء ما كان يتمتم بكلمات غير مفهومة، بدأ شبح الطفل يلتقط العيون من الأرض ويضعها في تجويف عينيه الفارغتين، ثم يخرجها مجددًا، مرارًا وتكرارًا.
كان مشهدًا مرعبًا لا ترغب لايلا في رؤيته حتى في كوابيسها، فارتجف جسدها، فقال يوستار:
“تابعي النظر انظري واسمعي جيدًا ماذا يقول؟”
“أراه، لكن لا أسمع شيئًا.”
“بل ستسمعين فقط أنصتي.”
بدأت لايلا تتنفس بسرعة ركزت على الطفل الذي كان يكرر إدخال العيون وإخراجها كانت تعرف أنه لا ينبغي التحديق طويلًا، لكن لم تستطع مقاومة ذلك وجود يوستار منحها قدرًا ضئيلًا من الشجاعة.
لم يمر سوى ثوانٍ، لكنها بدت للايلا وكأنها سنوات وفجأة، دوّى صوت غريب في أذنيها.
كان من الصعب وصفه بدا كصوت أوراق يابسة تتطاير في الريح وتتلامس، أو كأجنحة حشرات كثيرة ترفرف في مساحة ضيقة…
ذلك الصوت ازداد وضوحًا وقوة، حتى تمكنت أخيرًا من تمييز جملة واضحة من بين الضوضاء:
— هم الذين قتلوني قتلوني.
شعرت وكأن حجرًا سقط على جبهتها وفي نفس اللحظة، رأت ذكريات الطفل الذي خلق السينك.
“فين… اسمه فين.”
كان فين في الحادية عشرة من عمره، يعيش على أطراف القرية مع أمه التي كانت أحيانًا تذهب للعمل في القرى المجاورة حياته لم تكن سيئة… باستثناء كونه أعمى.
حين كان في السادسة، أصيب بحمى شديدة كادت تودي بحياته، لكنه نجا، وفقد بصره نتيجة لذلك بعد أن غرق في ظلام دائم، لم يعد يجرؤ على الخروج من المنزل.
عندما كانت والدته تخرج للعمل طوال اليوم، كانت تقفل الباب من الخارج.
فكان فين يقضي الليل والنهار في بيت مظلم كليًا لم يكن يرى سوى الظلام لكنه كان يشعر بحرارة الشمس من خلال النافذة ويعرف أن الوقت يمضي، مما كان يبعث في نفسه بعض الطمأنينة.
حتى جاء ذلك اليوم المشؤوم.
استيقظت والدته متأخرة بسبب التعب غادرت على عجل دون أن تغلق الباب بإحكام.
شعر فين أن الباب مفتوح، ولم يستطع مقاومة الفضول خرج متعثرًا…
رآه تومي، الفتى المتنمّر الذي كان يزعج الأطفال دائمًا.
— أنظروا! الأعمى قرر أن يتنزه!
كان تومي فتى شريرًا، وفين لم يكن يستطيع مقاومته اقتاده مع بعض الأطفال إلى الغابة، ثم تركوه وحيدًا يصرخ ويبكي، دون أن يعود أحد.
“لقد سقط من الجرف…”
قالت لايلا بشفاه مرتجفة.
واستدارت ببطء نحو الجرف الغارق في الظلام، فوق السينك تمامًا كانت الصخور الخشنة تبدو شرسة في الأسفل.
بعد يومين، وجدت الأم جثة ابنها ممزقة تنهشها الوحوش حضنته وهي تبكي، ثم ضربت رأسها بالصخر لتلحق به.
رماهم سكان القرية في الغابة دون حتى دفن، ثم عادوا إلى منازلهم ونسوا كل شيء.
ارتجف جسد لايلا من الألم والحزن ما شعر به فين من خوف لا يوصف اخترق جسدها كالإبر وقبل أن تصرخ، ربت يوستار على كتفها وقال:
“شكرًا، لايلا بفضلك استطعت أن أرى الحقيقة بوضوح سأتصرف الآن.”
وفي تلك اللحظة، وقف شبح فين، متوهجًا بالعدائية، ونظر إلى يوستار.
تعاظمت الطاقة المظلمة المنبعثة من السينك، حتى شعرت لايلا أنها ستُختنق، لكن يوستار كان هادئًا وكأنما يستمتع ببخار دافئ.
مدّ يده إلى الأمام، وعندها فتح فين جفنيه المغلقين.
خرجت من عينيه ثعبانان اندفعا نحو يوستار ليعضاه.
“أنت لا قاع لك… انظر تحت قدميك، انظر أين تقف!”
— أكرهكم! أكرهكم! أكرهكم!!
انفجر الصوت في السماء، واهتزت الأشجار والريح تعصف.
“انظر إلى ما تحت قدميك! انظر أين أنت!”
دوّى صوت انفجار مدوٍ، وامتصّ شبح فين داخل يد يوستار.
وكان قد تحوّل من هيئة بشرية إلى شكل ممدود بشع كقماش مشدود، يصرخ بدون أحشاء داخل بطنه.
وما إن تلاشى دوي الانفجار، حتى فقدت لايلا وعيها.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 5"