دوّى صوت هائل، وانخسفت الأرض حول يوستار والرفاق، فتطاير الغبار الكثيف في الهواء حتى غطّى الرؤية.
شعر يوستار بشيء بارد وحاد يلامس وجنته، وسرعان ما انساب خيط رفيع من الدم كما لو أن سيفاً بالغ الدقة قد خدشه.
توترت أعصابه وكأن شيئاً ما على وشك أن يخترق عنقه من الخلف.
“هل ستظل تحدّق بي من هنا حتى تزهق أنفاس تلك الساحرة الحقيرة؟”
قالها الشيطان المتجسد في هيئة طفل ضاحكاً بخبث وهو يؤدي شقلبة في الهواء.
ألقى يوستار نظرة سريعة باتجاه موقع سينك
وحين لمح الظلام المتراكم في الفراغ بلا قاع يتماوج بضعف، ابتسم ابتسامة خفيفة متناسياً أنه في مواجهة.
“روبسكا.”
“نعم، سيدي يوستار.”
“استعد لـ الفخ سنقبض عليه.”
“ألن نتخلص منه؟”
“لو تسرعنا في القضاء عليه قبل أن تخرج الآنسة كريسـراد بسلام من داخل السينك فقد تحدث مشكلة، وذلك سيورطنا لذا، سنأسره أولاً، ثم بعد أن نضمن سلامة الآنسة كريسـراد، عندها سنتولى أمره.”
نظرت روبسكا إليه بنظرة غامضة للحظة، ثم رفع سيفه باستقامة ووجّه بصره نحو ذلك الشيطان الصغير الطائر.
“مفهوم، سيدي يوستار سأُعِدّ الأمر.”
***
نظرت لايلا إلى ليلين بعينين تائهتين تحملان معنى العجز عن الفهم هل كان ذلك مجرد وهم؟ في البداية بدا كضبابٍ سيتلاشى قريباً، لكنه الآن بدا أكثر وضوحاً.
كيف يمكن وصفه؟ كأن كثافته ازدادت… ولو ازداد وضوح شكله قليلاً فقط لظنّت أنه ليس شبحاً، بل إنسان حيٌّ يشاركها هذا المكان أو ربما بدا أقرب إلى تمثالٍ نُحت ليُشبه البشر.
قال ليلين : “لذلك، إن أردت أن تفهمي ذلك الشيء، فعليك أن تفهميني أولاً.”
أدركت لايلا ما كان يحاول قوله، لكنها لم تفهم أبداً لماذا يتوجّب عليها أن تفهم ذلك الشيطان الصغير.
بل، هل يمكن أصلاً اعتباره كائناً قابلاً للفهم؟ في العصور المظلمة، لطالما اتُّهِمت الساحرات بأنهن يستدعِين الشياطين ليقمن مهرجانات وسط الأوبئة والحروب والكوابيس لكن الحقيقة لم تكن كذلك.
أما أولئك الذين يظنون أن الشياطين كائنات تلبّي على الفور بضعة تعاويذ بشرية ركيكة فتظهر، فلم يكونوا سوى حمقى.
هزّت لايلا رأسها لم تكن ترغب في فهم ذلك لكن ليلين أصرّ بعناد
“إن لم تفعلي، فسوف تموتين هنا لا بدّ أن تري نواتي، حينها فقط ستجدين طريقة للتخلص منه.”
قالت لايلا بحده
“أليس بوسعك أن تخبرني فحسب؟ أليست ذكرياتك أنت؟”
ابتسم ليلين بمرارة
“أنتِ ساحرة، ومع ذلك لا تعلمين شيئاً.”
وفي تلك اللحظة اتخذ وجهه ملامح رجلٍ في المئة من عمره، فشعرت لايلا بخجلٍ مفاجئ بلا سبب واضح… ثم سرعان ما لاحظت الغضب والضغينة الطفولية التي تبعت ذلك الشعور، فارتبكت أليست هي نفسها من يتصرف كطفلة الآن؟
قال ليلين
“هذا السينك لي وحين متّ، كنت في العاشرة من عمري وكلما طالت إقامتك هنا، ازداد تأثيره عليك جسدك يذبل… لكن قلبك، وعقلك…”
أكملت لايلا ببطء
“ سيصبحان أكثر صِغَراً.”
“صحيح “
“ولهذا يجب أن تري نواتي قبل أن يحدث ذلك ما دمت هنا، فلن يختفي هذا المكان والأمر ذاته ينطبق على سميلكين ذلك الشيطان لا يستطيع أن يوجد من دوني لهذا حبسنا كلايْنا هنا، كي لا يكون هناك مفر.”
خرج من صدر لايلا تنهيدة مثقلة بالأسى.
“حسناً.”
ورأت وجه ليلين الأبيض المستدير، الشبيه بالجبس، يقترب منها أكثر فأكثر.
كان المكان ضيقاً للغاية بحيث لا يسمح بالمزيد من الاقتراب، وكان الأمر غريباً لكن سرعان ما أدركت ما يحدث لم يكن ليلين يقترب… بل كان يدخل إليها كان يتغلغل ببطء في داخلها.
— “يا للطمأنينة…”
في اللحظة التي سمعت فيها لايلا كلمات ليلين الأخيرة التي يصعب فهمها، اضطربت رؤيتها ذهبت تتماوج كما لو كانت قد غاصت في الماء، ثم انفتح الفضاء فجأة كمن يمزق ستاراً أسود، فبانت صورة ليلين.
***
— ليلين!
لم تكن أمها في مزاج جيد اليوم فكّرت ليلين، ذات الأعوام الستة.
في الواقع، كانت أمها دائمًا كذلك إما أن تكون في مزاج سيئ، أو في مزاج سيء جدًا لا ثالث لهما.
في بعض الأحيان، كانت ليلين تشعر بالارتياح أكثر حين تكون أمها فقط في مزاج سيئ، فتشتم وتكشر وجهها كما تشاء لأن ابتسامتها كانت تعني شيئًا واحدًا فقط: أن عاصفةً هوجاء توشك أن تهب.
— ليلين!
ما إن سمعت صوت أمها فوق رأسها مباشرة، حتى ارتطم جسد ليلين الصغير بأرضية الخشب لم تكن الأرضية نظيفة منذ زمن، فخشونة الخشب خدشت خدها الطري وتركت فيه أثرًا دامٍ.
—” فتاة عديمة النفع! ألم أقل لكِ أن تشربي الحليب كله؟ ماذا تظنين أنكِ فاعلة بتركه حتى يتحول إلى قطعة جبنٍ ملعونة؟!”
— “لقد كان فاسدًا بالفعل يا أمي … لم أستطع أن أشربه أكثر.”
— “كان فاسداً بالفعل يا أمي؟ أوه، هكذا إذاً؟ لا تستطيعين شربه لأنه فاسد؟ وأنتِ التي لا تكسبين فلساً واحداً! أيتها التافهة! انهضي يا ملعونة!”
حاولت ليلين المقاومة، لكن قوتها لم تكن تضاهي قوة أمها.
احتك كعباها بدرج السلم، واصطدمت ساقاها النحيلتان، اللتان وهنهما الجوع، بحوافه ستُصاب بكدمات، لا شكرخدشت ذراع أمها وضربت يدها، ولكن دون جدوى.
— “قولي إنكِ آسفة!”
كان صوتٌ في داخلها يصرخ بيأس لكنها لم تفعل ليلين لم تكن طفلة تعتذر عن أمرٍ لم يكن خطأها.
— “أمي، أمي! لا! لا تفعلي، أمي!”
ما إن فُتح باب الخزانة حتى اتسعت عينا ليلين من الرعب كانت تكره الأماكن المظلمة.
حتى في الليل، إن لم يدخل ضوء القمر من النافذة، كانت تجد صعوبة في إغلاق عينيها فقد كانت تخشى أن يظهر شيء مخيف فجأةً ويلتهمها.
لكن أمها لم تكن تصغي إلى كلماتها على الإطلاق.
دفعتها إلى الداخل ثانيةً كأنها قطة تحاول الهرب
— “جربي الجوع هناك! سترين كيف ستلحسين حتى قطعة جبنٍ عفنة بامتنان! سأعلّمك كيف تتأدبين.”
بدأ الظلام يغزو عيني ليلين شيئًا فشيئًا… حاولت دفع الباب، لكن أمها لم تتحرك قيد أنملة سُمِع صوت المزلاج وهو يُقفل بين مقبضي الخزانة، وابتعدت خطواتها الثقيلة.
— “لا! افتحي! أنا خائفة! أمي!”
صرخت بأعلى صوتها حتى كادت حنجرتها تنفجر، لكن أمها لم تعد.
انكمشت ليلين وسط الرائحة المعتادة للغبار، وأغمضت عينيها بقوة.
لن أبكي.
فكرت ليلين.
ولن أقول إنني آسفة لن أفعل أنا لستُ جبانة.
لكن الكبار يحبّون الأطفال الجبناء.
لأنهم يطيعون الأوامر بسهولة.
لكنني لستُ كذلك.
تقلصت شفتا ليلين بإصرار.
لستُ جبانة سأخرج من هنا يومًا ما لن أموت هنا ولن أشرب الحليب الفاسد وسأتحرر من أمي.
***
كلّما سمعت ليلين ضحكة أمّها العصبية تتردّد من آخر الرواق، كانت تنكمش فوق سريرها وتغطي نفسها بالشرشف البالي.
منذ زواجها الثاني، لم تعد الأم تجبر ليلين على شرب الحليب الفاسد.
ولم تعد تلقي إليها بالخبز المتعفن المليء بالعفن الأزرق والأسود، أو تغيب عن المنزل ليومين أو ثلاثة، ثم تعود لتُبدي خيبة أملها حين تفتح ليلين لها الباب.
لكن، هل هذا يعني أن الأم أصبحت لطيفة مع ليلين؟
كان من المؤكد أنه لا يمكن قول ذلك.
«أنا أكره هذا الرجل.»
كلّما سمعت صوت مانسون يتردّد عبر الجدران، كانت ترتجف.
كانت الأم تخرج إلى العمل كلّ يوم، لكن مانسون لم يكن كذلك.
في بعض الأحيان كان يغيب عن البيت لشهر ويعود بكيس من المال، ولكن ذلك لم يكن يحدث سوى مرتين أو ثلاث في السنة، أما بقية الوقت فكان يقضيه متسكعًا في المنزل بلا عمل.
كانت أم ليلين تعيل ابنتها ونفسها، والآن تعيل مانسون أيضًا، لكنها كانت على ما يبدو غير واعية تمامًا للوضع الذي آلت إليه.
كانت تتلقى كيس المال الذي يأتي به مانسون في بعض الأحيان وكأنه عربة مليئة بالذهب، ولم تكن تشتكي من استنزافه لطعام ومال المنزل طوال الأشهر التالية دون أن يحرّك ساكنًا.
ولم تكن تعطيه طعامًا فاسدًا كما كانت تفعل مع ليلين ، بل كانت بعد عودتها من العمل منهكةً تغلي الحساء الساخن وتقدمه له.
لم تكن الأم كذلك في البداية كانت ليلين تهمس لنفسها بهذا وهي تضمّ أصابعها وتبسطها تحت الغطاء.
عندما بدأت الأم تعيش مع مانسون، لم تمرّ ستة أشهر حتى راودت ليلين فكرة أن أمّها قد تموت في أيّ لحظة، عدة مرات.
كانت الأم امرأة ضخمة وقوية — ولهذا كانت قادرة على أن ترمي ليلين داخل خزانة الملابس — لكن مانسون كان بعرض ضعف كتفيها تقريبًا.
كانت يداه غليظتين كقطعة خبز، لكن لم تكونا ناعمتين، ولا دافئتين.
كلّما كانت الأم تتلو عليه تعاويذها — أي توبّخه لأنه لا يخرج للعمل — كانت تلك لحظة بداية سحر مانسون
كانت ليلين تؤمن بأن هناك وحشًا يختبئ تحت جسد مانسون الضخم، وحين تتلو الأم تعاويذها، كانت تعلم أن ظنّها صحيح.
كان الوحش يشقّ جلده ويخرج منه، فيُحطّم كلّ ما تصل إليه يداه ويقذف به.
وكان الشيء الذي يرغب الوحش بقذفِه بعيدًا أكثر من أي شيء آخر هو أم ليلين، فحين يمسك مانسون بأمّها من عنقها، كانت ليلين تهرع إلى غرفتها وتختبئ تحت السرير.
وحين يغادر الوحش بحثًا عن ضحية أخرى، كانت تنزل بهدوء إلى الطابق السفلي.
إن وجدت أمّها مغشيًّا عليها، كانت تمسح الدم من أنفها وتضع قطعة قماش مبللة على جبينها.
وإن لم تكن مغشيًّا عليها، كانت تعود إلى غرفتها خفية، وتظلّ تحت السرير حتى طلوع الصباح دون أن تتحرّك.
بعد تكرار ذلك عدّة مرات، توقفت الأم عن تلاوة تعاويذها التي توقظ الوحش في مانسون بدلاً من ذلك، بدا أنها أدركت أن عبادة الوحش أفضل بكثير.
ليلين كانت تعرف أن عليها أن تكون قادرة على الاختباء في أي مكان إن أرادت النجاة من هذا الوحش الذي قد يظهر في أي لحظة، ومن تلك الكاهنة المجنونة التي تقدّم له الحساء الطازج والخمر، إلا مكانًا واحدًا فقط — الخزانة.
لم يكن بإمكان ليلين الاختباء هناك.
— ليلين.
حين تكون أمّها خارج المنزل للعمل، كان مانسون يغرس جسده الضخم في الأريكة المهترئة ويحتسي الخمر.
وفي غياب أمها، كان على ليلين أن تقوم بدور الكاهنة بدلًا عنها، وكان أكثر ما تكرهه في تلك الأوقات هو نظرات مانسون الثاقبة نحوها.
أما حين ينادي اسمها، كما اليوم، فذلك أسوأ ما يمكن أن يحدث.
— ليلين!
صرخ مانسون ، وكانت ليلين تعرف أنه لم يعد بوسعها التظاهر بأنها لم تسمعه بسبب صوت غسل الصحون، فاستدارت برأسها نحوه.
— نعم، أبي.
— تعالي إلى هنا.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 45"