حدّقت لايلا بالطفلة طويلاً، ثم وقعت عيناها على الصورة الشخصية التي كان إطارها قد سقط على الأرض.
طفلةٌ أخرى هكذا فكّرت لايلا.
فالطفلة في الصورة كان طول شعرها مختلفاً بين الجانبين أطراف شعرها مقصوصة على نحوٍ غير متساوٍ، كما لو أنّ أحدهم قد قصّه بوحشية وإجبار.
الطفلة التي رأتها في الغابة كانت هي الطفلة ذاتها في الصورة ولكن……
“أنتِ…….”
تمتمت لايلا وهي تنظر إلى الطفلة ذات الضفيرتين، تتحرك شفتاها بتردد وكأنها لا تكاد تنفصل إحداهما عن الأخرى.
“ما اسمكِ؟”
“أتُراكِ مهتمّة باسمي؟” سألت الطفلة.
— إن معرفة اسم شيءٍ ما قد تكون في بعض الأحيان أمراً خطيراً يا لايلا.
استحضرت لايلا في ذهنها كلمات أمها القديمة، ثم أومأت برأسها.
لكن، هل هناك ما هو أخطر من حالتها الآن؟ وحيدة، ساقطة في مكان لا تعلم ما هو، بلا أحدٍ يرافقها.
لا، لا يمكن أن يكون هناك ما هو أسوأ من ذلك.
لكن لا بد أن أعرف هكذا حدّثت نفسها.
“نعم، اسمك.”
“أتسألين بصدق؟”
أومأت لايلا مجدداً ابتسمت الطفلة ابتسامة عريضة، وهزّت ضفيرتيها قليلًا قبل أن تقول:
“اسمي سِمَلْكِين.”
“سِمَلْكِين.”
ردّدت لايلا الاسم بصوتٍ خافت، وابتلعت ريقها، وقد شعرت بحلقها يشتعل ألماً، كأنّ قبضة أحدهم تسد مجرى تنفّسها.
قالت سِمَلْكِين:
“أنتِ ستكونين الطارد أولاً سأختبئ أنا، وعليكِ أن تبحثي عني.”
“ألستُ مطالَبةً بالعدّ؟”
“بالطبع! وعليكِ أن تعدّي بصوتٍ عالٍ جداً، حتى أستطيع أن أسمعكِ أينما كنت وإلا فأنتِ تكسرين القاعدة.”
كان صوت الطفلة مفعماً بالمرح على نحوٍ مرعب، كأنها ترجُو من كل قلبها أن تخرق لايلا القاعدة ولو فعلت، فمن يدري ما الذي قد تفعله هذه الطفلة حينها؟
أومأت لايلا قائلة:
“حسناً إلى أي رقمٍ يجب أن أعدّ؟”
“إلى اثنين وعشرين أتعرفين العدّ حتى اثنين وعشرين؟”
“نعم، أعرف.”
“جيد! إذن اعدّي! سأختبئ الآن! والباحثة يجب أن تعثر عليّ!”
ما إن أدارت لايلا ظهرها حتى ابتعدت ضحكات الطفلة سريعاً، وتلاشت خطواتها شيئاً فشيئاً، مع أنها لا تزال تسمعها متقطّعة.
“سبعة، ثمانية، تسعة.”
أغمضت لايلا عينيها بشدّة وبدأت تعدّ بوتيرة ثابتة، بصوتٍ مرتفع يكاد يكون أشبه بالصراخ.
حتى إنّ البيت العتيق اهتزّ كأنه يترنّح من شدّة صوتها خطر ببالها أن المنزل قد ينهار قبل أن تُنهي العدّ إلى اثنين وعشرين بل إنها أحسّت بالجدار الذي تستند إليه جبينها يرتجف.
فليكن فليتهدم فكّرت لايلا إذا انهار البيت، فلن تستطيع تلك الطفلة أن تلعب بعد الآن.
“واحد وعشرون، اثنان وعشرون.”
فتحت لايلا عينيها ببطء بعد أن أنهت العدّ، لتكتشف أنّ الصورة التي كانت ساقطة على الأرض قد عادت من تلقاء نفسها إلى مكانها على الجدار.
تماسكي تنفست لايلا بعمق لقد ولّى زمنُ أن تندهشي من أمورٍ كهذه، كإطارٍ يعود إلى مكانه وحده.
نعم، انتهى ذاك الزمن أنتِ قادرة على احتمال ما هو أعظم.
همس صوتٌ مألوف في رأسها بحيوية الصوت ذاته الذي كانت تسمعه أحياناً، ويزرع في نفسها الشعور بالذنب في أغلب الأحيان.
أما الآن، فقد أدركت لايلا تماماً أنّه لم يكن من نسج خيالها.
“ربما أكون قد بدأتُ في الجنون.”
تمتمت وهي تضع قدمها على أول درجة من السلم المؤدي إلى الطابق العلوي صرّت الدرجة صريراً مخيفاً، وكأنّ السلم كله على وشك الانهيار.
“حتى لو كنت مجنونة، لا يهم سأخرج من هنا.”
قالتها بحزمٍ لنفسها، ثم أسرعت في خطواتها.
***
“كان تفاعل الـسينك كما في المرة السابقة تماماً.”
هذا ما أبلغ به أحد الأفراد الذين كُلِّفوا بتمشيط المنطقة المحيطة بالـسينك وعاد لتقديم تقريره بأمرٍ من يوستار قال إن الظاهرة تكررت: ما إن يقترب إلى مسافة معينة حتى يختفي الـسينك، ثم ما إن يبتعد حتى يظهر مجدداً.
تبادل مارناك ويوستار نظرات قاتمة.
ألقى يوستار نظرة على الخريطة التي حُدد فيها موقع الـسينك، ثم سأل:
“ما شكل الـسينك؟ هل هو اعتيادي؟”
كأومأ الجندي برأسه مرتبكاً:
“نعم، يا سيدي يوستار.”
“هل أنت واثق؟ ألم تلاحظ شيئاً مختلفاً؟”
“مختلفاً؟ تعني…….”
“خزانة مثلاً خزانة قديمة.”
عندها تحوّلت أنظار الجميع فجأة نحو يوستار، وقد ارتسمت الدهشة على وجوههم.
قال الجندي بتردد:
“لم نرَ شيئاً من هذا القبيل الـسينك كان على هيئته المعهودة: حفرة سوداء حالكة، لا غير.”
تمتم يوستار:
“لكنه كان خزانةً بلا شك.”
ساد الصمت لبرهة أخذ يوستار يدور بقلق حول الطاولة، ثم قال بإصرار:
“لقد كان على هيئة خزانة وفي داخلها كان الـسينك، أو شيئاً يشبهه حد التطابق لقد ابتلعت لايلا، وما إن فعلت حتى اختفى أولئك الناس الذين ظهروا في الغابة كأنهم…….”
“كأنهم تناثروا كالذرات الرملية.”
أكمل مارناك كلامه.
فكرة ظهور سينك داخل خزانة قديمة كانت عسيرة على التصديق، لكن تحوّل المطاردين إلى ذرات رملية كان مفهوماً تماماً، فقد رآه بأم عينيه.
أومأ يوستار قائلاً:
“علينا أن نجد وسيلة للاقتراب من الـسينك فغياب لايلا يعني أن أحدنا مضطر لرؤية الـنواة من بيننا، من يملك أعلى رتبة بعد مارناك؟”
رفع روبسكا يده قائلاً:
“أنا، يا سيدي يوستار.”
“ألم تكن أنت المكلّف بقتال المخلوقات؟”
هزّ روبسكا كتفيه مبتسماً بخفة:
“بلى لكنني نجحت مرة واحدة في الاستحواذ وأعتقد أن الفضل في ذلك يعود إلى قدرتي الجسدية ليس إلا.”
“وما العواقب التي لحقت بك؟”
“عدا أنني قضيت شهراً كاملاً أعاني الكوابيس دون أن أغمض جفناً، وأستيقظ في منتصف الليل أبكي كالأطفال وأتزحلق تحت السرير لأختبئ؟ لا شيء آخر.”
خرجت تنهيدة متزامنة مع أنين خافت من الحاضرين ضغط يوستار بأصابعه على صدغيه بحدة.
كان روبسكا يتحدث وكأن الأمر عادي، لكن ما عاناه كان خطيراً بالفعل نجاحه في الاستحواذ لم يكن إلا محصلة قوة جسدية وعزيمة… وحظ ولا ضمان أنه سينجو إذا أعاد المحاولة.
قال مارناك:
“كان لدينا أفراد أكثر تمرساً على الاستحواذ لكن في الحادث الأخير بالمنطقة الغربية، حيث ظهرت عدة سينك، خسرنا الكثير منهم ومن الصعب تعويضهم الآن، لذا فنحن مضطرون…….”
“أعلم يا مارناك، وأتفهم.”
أجابه يوستار وهو يلوّح بيده لكن عينيه أظلمتا للحظة ظهور سينك في أماكن متعددة في آن واحد…… نعم، لقد تذكر ذلك التقرير.
حينها كان منشغلاً بالبحث عن “ذات العين”، أي لايلا، في العاصمة وما وراء الغرب البعيد، فلم يكن بوسعه سوى مواساة فرع أديـاك من بعيد على خسائره.
سأل يوستار
“مارناك، حين ظهر الـسينك هناك، هل وقعت كارثة ما؟”
عادةً ما يظهر السينك كظاهرة مستقلة، لكنه أحياناً، إن كان مشبعاً بطاقة قوية، يتسبب بكوارث طبيعية متوسطة أو صغيرة وأحياناً بظهور مخلوقات.
أجاب مارناك
“نعم من أحد السينك الساحلية خرج المَـوْل إيتشينيس فأثار موجة تسونامي لم يكن ضخماً، لكن البيوت على سفوح التلال تضررت جميعاً.”
كان (إيتشينيس) وحشاً مائياً ضخماً على هيئة سمكة بلا قشور، وقد نبتت له ساقان شبيهتان بساقي البشر، يسبح في الماء ويركض على اليابسة مسبباً عواصف وأمواجاً عاتية وكان بمقدوره أن يقلب أعظم السفن كما لو كانت أوراقاً عائمة.
قال يوستار وهو يضرب الطاولة بقبضته
“هذا هو إذن!”
أخذ يفتش بين التقارير والملفات المتعلقة بالـسينك.
“بسبب موجة إيتشينيس انهارت البيوت وقُتل الناس لا بد أن أحد الموتى أنشأ هذا السينك وغالب الظن أنه كان طفلاً أين قائمة ضحايا تلك الحادثة؟ هل دُوِّنت؟”
“موجودة في الأرشيف، يا سيدي يوستار.”
أومأ يوستار، فأسرع الجندي بتشغيل جهازٍ غريب نصف دائري كان الأرشيف بدوره يعتمد على السحر لحفظ الوثائق تحسباً لضياعها.
قال يوستار
“ابحث عن إيتشينيس وموجة المد.”
“ستكون مضمنة مع حوادث الـسينك لحظة من فضلكم.”
أخذت أصابعه تنقر على اللوح الأسود الأملس، وصوت طنينٍ منخفض يتردّد مع كل لمسة – استجابة سحرية.
قال أخيراً “وجدتها.”
“اعرضها.”
عند جانب الأرشيف بدأ دخان شفاف يتماوج، ثم تشكّلت نافذة بلورية وما إن ظهرت صورة الطفل حتى تعرفه يوستار فوراً ذلك الشعر الغريب……
قال الجندي:
“من بين ضحايا التسونامي لم يكن هناك سوى طفل واحد اسمه ليلين دونوك، وعمره عشر سنوات.”
قطب مارناك حاجبيه
“عشر سنوات؟ لكنه يبدو أصغر بكثير.”
أومأ الجندي موافقاً، فقال يوستار بصوت خافت رزين
“ربما لم يتغذّ جيداً فلم ينمُ أو لعلّه كان مهملاً بلا رعاية انظروا إلى شعره المقصوص بتلك الهيئة، لا بد أن وراءه مأساة ما ، من الصعب أن يُترك رأس طفل في العاشرة بهذا الحال إن لم يكن متروكاً.”
سأل روبسكا
“لكن على التلال كانت هناك عائلات كثيرة، لماذا وحده مات؟”
سارع الجندي يبحث في وثائق أخرى وأظهرها للعيان
“حين أُطلق الإنذار بخروج إيتشينيس، هرع معظم الأهالي إلى الإخلاء، وحرص الآباء على أخذ أبنائهم أولاً لكن هذا الطفل…… ربما لم يكن له والدان، أو…….”
قاطعه يوستار ببرود
“بل كان له والدان، لكنهما هجراه.”
ساد الصمت المكان كان ذلك أسوأ احتمال، لكنه الأقرب إلى الواقع.
قال يوستار
“حسناً، نقسم أنفسنا إلى مجموعتين الأولى تتولى البحث في المنطقة وما جاورها عن والدي ليلين دونوك، إن كانا على قيد الحياة استعملوا كل وسائل الاتصال، وأريد تقريراً خلال ساعتين مارناك، أنت المسؤول.”
أومأ مارناك موافقاً ثم التفت يوستار إلى روبسكا وبقية المقاتلين
“أما المجموعة الثانية فستقترب من الـسينك حين قتلتم إيتشينيس، هل ترك شيئاً وراءه؟”
“قلبه ومخالبه.”
ابتسم يوستار باقتناع وهو يومئ برأسه
“لنستخدم القلب سيكون أحبّ إلى السينك.”
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 42"