في الوقت الذي كان فيه يوستار يسخّر كل وسيلة ممكنة لتحطيم الخزانة التي ابتلعت لايلا، كانت هناك فوضى أخرى تعصف بفرع أدياك حيث يوجد مارناك
وكان السبب في ذلك هو دايكوك فبعد أن تحدث مع مارناك واستعاد هدوءه – على ما بدا – لم تمضِ ساعة حتى أنهى حياته بيده.
قال روبسكا :
“من الأفضل ألّا تراه.”
فأجابه مارناك بنبرة حازمة:
“كفّ عن هذا الهراء يا روبسكا ، أنا المسؤول عن هذا الفرع.”
أدرك روبسكا أنه لا جدوى من ثنيه، فتراجع جانباً. وبينما كان مارناك يركض نحو الغرفة التي وُجد فيها دايكوك، متطايرٌ طرف ردائه الطويل خلفه، أفلتت من بين شفتيه أنّة مكتومة.
“يا إلهي…”
تمتم روبسكا في سرّه، متذمّراً: ألم أقل لك؟، لكنه لم ينطق بها.
كان منظر جثة دايكوك مروّعاً من الصعب تصديق أن إنساناً حياً يمكنه أن يفعل بجسده مثل ذلك… حتى من انعدمت فيه رغبة العيش، لا يمكنه أن يتجرأ على إيذاء نفسه بتلك الطريقة.
قال روبسكا وهو يطرق على الزجاج طرقاً حاداً:
“سيدي المدير!”
كان مارناك قد أغمض عينيه بعنف، غير قادر على احتمال المشهد البشع، ثم فتحهما نحو الداخل… فتجمد فمه من الذهول.
“ما الذي…؟”
جثة دايكوك كانت تتقلص شيئاً فشيئاً.
لا، لم تكن تتقلص، بل كانت تختفي مثل قلعة من رمال جافة مكدّسة تنهار تحت نفَس الريح، كان جسده يتفتت ويتناثر بسرعة لم تترك لهم فرصة للتدخل.
وفي النهاية، لم يبقَ في المكان الذي سقط فيه سوى قبضة صغيرة من الرمل، بينما كانت بركة الدم الدافئة اللزجة هي الشاهد الوحيد على أن تلك الجثة البشعة كانت هنا منذ لحظات.
قال مارناك:
“ روبسكا ”
“نعم، سيدي.”
“اجمع العيّنة… ما تبقى هناك، وخذها إلى أعضاء قسم الأبحاث أخبرهم أن يتحققوا من مكوناتها، وما إذا كان لها علاقة بـسينك وبأسرع وقت ممكن.”
“مفهوم.”
وحين روبسكا فتح الباب، انبعثت إلى الخارج رائحة الدم الثقيلة التي ملأت المكان.
حاول مارناك كبح الغثيان الذي يعتريه، ورفع رأسه ج صلاة قصيرة، راجياً أن تجد روح دايكوك الراحة، وأن لا يتعرض لمزيد من العذاب…
“مارناك!”
كان مارناك” يرفع دعاءه حين فوجئ ورفع رأسه لقد كان يوستار مظهره المعتاد، المرتب والمهندم، كأنه قد باعه في محل للخردة؛ فقد بدا في حالة يُرثى لها.
قال مارناك بلهفة وقلق وقد علت وجهه علامات الذهول:
“السيد يوستار! ما الذي حدث؟”
أجابه يوستار:
“استدعِ جميع العناصر القابلة للتجنيد فورًا.”
قال مارناك وقد ازدادت ملامحه قتامة:
“وماذا عن الآنسة كريسيراد؟”
رفع يوستار يده، وكأنه يطلب منه التوقف عن الكلام — أو ربما كان بحاجة لثوانٍ يلتقط فيها أنفاسه — فصمت مارناك
ابتلع يوستار أنفاسه التي وصلت إلى حنجرته، ثم رفع رأسه عيناه اللامعتان بلون أخضر فاتح كانتا تتوهجان غضبًا يكاد يُشعل النار.
قال بصوت مليء بالغضب والقلق:
“لقد اختفت لايلا لا، أظن أن الـسينك قد ابتلعها استدعِ العناصر فورًا حالًا!”
***
كانت لايلا قد فقدت وعيها لا تعلم كم من الوقت مضى وهي على تلك الحال، لكنها حين فتحت عينيها، كان جسدها بارداً إلى حد أن مفاصل أصابعها قد تيبست من شدة الجمود.
“أه…!”
ببطء، بدأت تثني أطراف أصابعها، ثم شدّت على راحة يدها، فامتدّ التوتر إلى معصمها، ثم إلى مرفقها وكتفها، حتى رفعت جسدها جالسة.
حين كانت لا تزال مستلقية، كانت تشعر ببرودة ورطوبة التراب على وجنتها، لكنها حين جلست وألقت نظرة حولها، وجدت نفسها داخل منزل لم تره من قبل في حياتها.
ما الذي يجري…؟
هدوء… فكّرت لايلا يجب أن أتمالك نفسي لا مجال للارتباك الآن… وضعت يدها على صدرها بحذر، وشعرت بضربات قلبها ياللراحة، ما زلت حيّة لم أمُت.
إن كنت لا أزال على قيد الحياة، فلابد أن بمقدوري الخروج من هنا.
قبضت لايلا على قبضتها المتجمّدة من البرد ثم بسطتها وبعد أن كررت ذلك مرّات عدة، شعرت بالدفء يعود تدريجيًا إلى أطرافها.
“أنا وحدي.”
همست بصوت خافت، لكن رغم خفوته، شعرت أن جدران الغرفة كلها تردّد صدى كلماتها كأنها صرخة مدوية بل لعل الجدران نفسها كانت تهمس مرددة كلماتها، تقلدها…
“أنا وحدي ،يوستار غير موجود.”
هزت رأسها مرارًا ونفضت عن وجهها الخوف بضرب خديها براحتيها حين شعرت بوخزة ألم حاد، عاد إليها بعض الهدوء والاتزان.
“إذاً، عليّ أن أتصرف وحدي.”
لا يوستار هنا، ولا تمتلك سحرًا يمكن الاعتماد عليه… حتى جرعة تينكتر قوية كفاية لتفقدها وعيها لم تكن بحوزتها وفجأة، خطَر لها أن آخر مرة صنعت فيها واحدة بنفسها كانت منذ زمن بعيد، حتى كادت تنساها.
لو تمكنت من الخروج من هذا المكان سالمة —مهما كان هذا المكان— فإن أول ما ستفعله هو الحصول على قدر من الحديد وبعض الأعشاب لصنع تينكتر جديدة.
تخيلت نفسها تغمض عينيها وسط البخار العطري اللاذع، وشيئاً فشيئاً هدأت أنفاسها المتوترة.
أخذت تتفحّص المكان بحذر، وسرعان ما أدركت أنها في غرفة نوم شخص ما.
كان السرير بالكاد يتسع لشخصين بالغين، وإطاره من الحديد القديم وقد تهالك الفراش حتى بدا منخفضًا في وسطه، أما الغطاء فكان باهت اللون ومتسخ الأطراف.
بجانب السرير كان هناك منضدة صغيرة، وخزانة أدراج، وطاولة تزيين، وخزانة ملابس.
حين رأت الخزانة، شعرت لايلا بالخوف واعتقدت أنها هي ذاتها التي ابتلعتها، لكنها سرعان ما لاحظت اختلاف مادتها وزخارفها، وحتى مقبضها.
“مقبضها… كان دائرياً… ملتفاً… كحية تتلوى.”
فكّرت لايلا.
أما مقبض هذه الخزانة، فكان على شكل حلقة بسيطة يكاد يشبه قارع باب عادي.
ترددت للحظة، لكنها أمسكت بالمقبض وفتحت الخزانة دفعة واحدة.
أغمضت عينيها ظنًا أن شيئاً مرعباً سينقض عليها من الداخل، لكن ما واجهها لم يكن سوى غبار خانق ورائحة عتيقة وكريهة، وكأن المكان مغلق منذ عقود.
“ملابس…”
وجدت بداخلها بعض الملابس المعلقة كانت بالية هي الأخرى، لكنها بدت صالحة للارتداء على الأقل.
فستان مزين بزهرات الأقحوان الصغيرة، وآخر من الموسلين الأحمر الداكن، بدا أنه مخصص للمناسبات الخاصة، وكان مغلفًا بورق رقيق أما البقية فكانت ثيابًا عادية.
فتشت لايلا بين الملابس لكنها لم تجد شيئًا، فاستدارت نحو طاولة التزيين والمنضدة.
على الطاولة وُجد مشط قديم، وقد تشابكت بين أسنانه خصلات شعر كثيرة.
عدا ذلك، لم يكن هناك سوى قوارير زجاجية فارغة لعلها كانت تحتوي على عطور أو مستحضرات تجميل في وقت ما، وكانت تثير الحنين لمنظرها، أما الآن فلم تعد إلا نفايات منسية.
— طَق… طَق… طَق…
كانت لايلا تتأمل إحدى القوارير ذات الشكل الشبيه بالقرن، حين سمعَت صوتًا أفزعها فجأة، فقبضت على القارورة بقوة.
خطى أقدام! صاحت في سرها جفّ حلقها وشعرت كأن لسانها يلتصق بسقف فمها لقد كانت خطوات بالفعل… خفيفة ومتقاربة كأنها خطوات طفل يركض.
“هل من أحد هناك؟!”
قالتها بصوت مرتفع متعمدة، ثم خرجت من الغرفة.
لكن لم يجبها أحد ولا عادت تسمع أي خطوات.
“أنت! هيه!”
عندما صرخت مرة أخرى، سُمِع فجأة من خلفها صوت ضحكة خافتة: “ههه…”
ارتعد جسدها قشعريرة، فاستدارت لايلا بسرعة لكنها ترنّحت وارتطم خصرها بدرابزين الدرج خلفها لم يكن هناك أحد لم يكن سوى جدار فارغ تتدلّى عليه لوحة رخيصة معلّقة بشكل مائل.
داخل الإطار، كانت هناك صورة لطفل بحجم أكبر قليلًا من كف اليد… من الواضح أنها لم تكن مرسومة بريشة رسام محترف كانت مرسومة بإتقان لا بأس به، لكن آثار قلم الرصاص كانت مشوشة ومبقّعة في بعض المواضع.
شعر الطفل كان قصيرًا من جهة، وطويلًا من الجهة الأخرى.
لذلك لم يكن من السهل تحديد إن كان صبيًا أم فتاة وملامحه كانت غامضة بالمثل كان الطفل يبدو غارقًا في التفكير، كما لو أنه يرى شيئًا ممتعًا، وعيناه كانتا تتجهان نحو اليسار.
صرخت لايلا وهي تحدّق في الصورة بثبات:
“كفى عبثًا! لعبة الغميضة هذه انتهت!”
اهتزّ البيت الخالي بصوتها وسمعت صوت صرير الدرج، لكنه كان فقط لأنها كانت ترتكز على الدرابزين بقوة.
أشعر بضيق في صدري… فكرت لايلا أغمضت عينيها بقوة ثم فتحتهما ببطء، ورفعت يديها عن الدرابزين بحذر وعندما اعتدلت في وقفتها، شعرت بألم في خصرها من الاصطدام السابق.
في تلك اللحظة، رأت لايلا شيئًا غريبًا: الصورة أمامها بدأت تظلم تدريجيًا من أحد الزوايا، كأن ظلًا يزحف فوقها كانت تتغيّر ألوانها بسرعة، كما لو أنها تتعفّن.
ركضت لايلا نحو الحائط بجنون وكأنها فقدت عقلها، وأمسكت بالإطار بقوة هزّته بعنف حتى سقط من مكانه بصوت مكتوم.
“توقّف! كفى! لماذا تفعل هذا بي؟! أظهر نفسك! دعني أخرج من هنا!”
— لا، لا يمكن… لأنك أنت “المطارِد”.
شهقت لايلا من الذهول وأسقطت الإطار من يدها.
في تلك اللحظة، دار وجه الطفل في الصورة بشكل غير طبيعي ظهر مؤخر رأسه، وهو أمر لا ينبغي أن يكون ممكنًا في لوحة، ثم عاد الوجه إلى مكانه، لكن هذه المرة كانت عيناه تحدّقان مباشرة في لايلا، بعد أن كانتا تنظران إلى مكان بعيد.
— طالما أصبحتِ أنتِ “المطارِد”… يجب أن تجدنيني أنتِ من عليه أن يجدني هذه هي القاعدة، أليس كذلك؟
“قاعدة؟ ههه.”
صرخت لايلا وهي تلهث كان الصوت يحيط بها من كل مكان: من الفراغ، من جانبها، من خلفها، من أمامها… من كل الاتجاهات شدّت شفتيها بصمت، ثم رفعت رأسها عاليًا.
“أي قاعدة؟! أنت تلعب كما يحلو لك دون أي قانون! إذا كنت تريد اللعب، فلتكن اللعبة عادلة! التزم بالقواعد أولًا أنت!”
— إذا التزمتُ بالقواعد… هل ستستمرين في اللعب معي؟
استنشقت لايلا ببطء “تواصلين”… كم كانت تدرك عمق هذه الكلمة
لا يجوز أن يُقال لكائنٍ سحري كلمات مثل “استمر”، “إلى الأبد”، أو “حتماً””سأواصل”.. كم من القصص كانت تعرفها عن بشر تعساء انتهى بهم الأمر في شقاء أبدي لأنهم لم يدركوا هذه الحقيقة البسيطة.
لكن الآن، لم يكن أمامها خيار آخر.
“…حسنًا، موافقة إذا التزمتَ بالقواعد، سألعب معك وأتبعها.”
— رائع.
ضغطت لايلا على شفتيها لتكتم صرخة، لكن أنيناً غريباً تسلل من حلقها كانت تحدّق في الطفل الذي ظهر أمامها، ثم تراجعت خطوة إلى الوراء
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب من بيلادونا، التي كانت تجلس ساكنة على السرير. وأمسك ذقنها بلمسةٍ خشنةٍ ورفع رأسها للأعلى. “كيف أجعلك تتحدّثين؟” “….” نظر إلى عينيها المرتجفتين، ركل لسانه وأرخى قبضته على ذقنها واستدار....مواصلة القراءة →
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب...
التعليقات لهذا الفصل " 41"