دار الاثنان برؤوسهما نحو مصدر الصوت دون أن يرمشا، لكن لم يبدُ لهما شيء ولم يُسمع صوت الخشخشة مرة أخرى.
قال يوستار بهدوء، دون أن يُخفف من حذره:
“ربما كان حيواناً برياً صغيراً.”
لكن لايلا لم تُجبه بشيء كان يوستار يعلم أنها ترتجف وكان يعلم أيضاً أن ردّ فعلها هذا في مثل هذا الموقف لا يُنذر بالخير إطلاقاً.
“لايلا؟”
ناداها دون أن يصرف عينيه عن أنقاض البيت المخيف، والذي لم يتبقّ منه سوى نصفه.
“لايلا، استعيدي وعيك.”
ارتعشت لايلا فجأة وكأنها فُزعت، وكأنها عادت من عتبة الموت، وكان صوت استنشاقها للهواء مضطرباً.
“كان هناك شيء.”
قالت لايلا وما إن التفت إليها يوستار حتى هزّت رأسها فجأة.
“لا، كان هناك لكنه اختفى الآن.”
“ماذا كان هناك؟ سينك؟”
هزّت لايلا رأسها مجدداً أحست بدقات قلبها تتسارع كأن قلبها لم يكن ينبض في صدرها بل في كفها أجل، كان الأمر أشبه بامتلاكها قلباً نابضاً في يدها، وكانت النبضات تنتقل من أطراف أصابعها لتُرَج جسدها كله: دُق… دُق… دُق…
ابتلعت ريقها الجاف وتراجعت خطوة إلى الوراء.
“لم يكن سينك كان… شيئاً آخر لا أستطيع وصفه بدقة، لكنني متأكدة أنه كان الطارد .”
“هل رأيتِ شكله؟”
عندما طرح يوستار السؤال، تجعّدت ملامح لايلا كمن يُعاني من صداع، ثم أومأت برأسها بإيماءة غير مؤكدة.
“لم أرد أن أراه… لكنه ظهر فجأة كان طفلاً لا أعلم إن كان فتى أو فتاة لكنه لم يكن يبلغ العاشرة حتى أنا واثقة من ذلك.”
كانت لايلا تختنق من عجزها عن وصف ما رأته أرادت أن تقتلع لسانها، أن تضربه بالأرض، أن تمدّه وتجعل ملمسه ألين ثم تعيده إلى فمها، ظنّاً منها أن ذلك سيساعدها على الكلام.
لكنها — ولحسن الحظ — لم تكن بحاجة لذلك يوستار، رغم أنه لم يرَ ما رأته، أدرك من ردة فعلها الكثير.
أولاً، أن هناك سرّاً دفيناً في هذا المكان المهجور.
وثانياً، أن ما خرج من سينك ربما بات يجوب القرية بأكملها.
قال يوستار:
“لايلا، دعينا نغادر هذا المكان…”
قاطعت حديثه بسرعة:
“انتظر، يوستار هناك…”
فركت لايلا عينيها الحمراوين بكفّها، ثم بلّلت شفتيها اليابستين بلسانها.
“أريد أن أذهب إلى هناك.”
نظر إليها يوستار مطولاً.
“لا داعي لأن ترهقي نفسك، لايلا يمكننا العودة لاحقاً مع بقية الفريق، بعد أن نعرف المزيد عن هذا المكان.”
لكن لايلا كانت عنيدة قالت بصوت حازم لم يسمعه منها منذ مغادرتهما ليريكوس:
“لا.”
ثم تابعت:
“الآن لا يوجد شيء لقد اختفى لهذا، من الأفضل أن نذهب الآن.”
نظرت إليه بعينيها الحمراوين، وكأنها تسأله: “ألا يمكن؟” بل لم يكن ذلك سؤالاً؛ كان أشبه بتوسُّل.
رفع يوستار كتفيه بتنهيدة مستسلمة، ثم أعاد خصلة من شعره المتدلي خلف كتفه إلى ظهره بحركة بدت، على نحو غير متوقع، أنيقة لدرجة أن لايلا لم تستطع إلا أن تُبدي إعجابها.
قال:
“حسناً لكن تذكّري، عليك أن تبقي ملاصقة لي تماماً.”
ثم أخرج من حقيبة جلدية صغيرة صندوقاً صغيراً وناوله لها.
وما إن رأته لايلا، حتى عرفت ما هو وعرفت ما يحويه.
كان السلسال الرقيق الذي استخدمه يوستار سابقاً للإمساك بأشباح الأطفال في رزيكوس، وكذلك للإمساك بشبح جدّته في القصر الملكي.
قال:
“احتفظي به معك لا نعلم ما قد يحدث.”
فتحت لايلا الصندوق وأمسكت بالسلسلة بدا وكأنه لا قيمة له؛ رقيق جداً، حتى أن بعض أجزائه اسودّت بفعل الزمن أشبه بسلسلة قلادة رخيصة نُبشت من قبر قديم.
قالت:
“لا أعرف كيف أستخدم هذا.”
فردّ يوستار:
“لا بأس لا يحتاج إلى استخدام طاقتك السحرية هو من الأدوات السحرية التي تحوي طاقة بسيطة بداخلها وأنا احتفظت به طوال الوقت… سيكون نافعاً احتفظي به جيداً.”
ثم تقدم يوستار بحذر نحو الأنقاض.
وضعت لايلا الصندوق في حقيبتها الجلدية المثبّتة على زيّها، ثم قفزت بين شجيرات القراص والأشواك بخفة.
ما إن رأت أن الأشواك الحادة لم تُحدث أي خدش على زيّها، حتى ازدادت خطواتها جرأة.
انبعث من الأنقاض رائحة عفن، خليط من الخشب الميت والعفن والطحالب ورائحة أخرى خانقة، كأنها صادرة من تراب فاسد.
أخذ يوستار قبضة من التراب من تحت إحدى قواعد المنزل المهدم، ثم تركها تنساب من بين أصابعه كان التراب هشاً متفككاً، بلا أي حياة لن ينبت فيه شيء، على الأقل لعدة سنوات.
قالت لايلا:
“من هنا.”
سارت مع بقايا الجدار نحو الجزء الخلفي من الأنقاض.
وهناك، كان الخراب أكبر أشجار ميتة، وأثاث محطّم غُرس في الأرض بطريقة عشوائية، وكأن المكان شهد معركة فوضوية.
سألها يوستار:
“كان الطارد هنا؟”
أومأت لايلا برأسها.
“نعم كان هنا، بلا شك لكن الآن لا أشعر بشيء لا شيء سوى هذه الرائحة الكريهة.”
“ألا تستطيعين رؤية ما حدث هنا؟”
نظرت لايلا حولها، لكنها لم ترَ سوى ما هو ظاهر.
هل يمكن حقاً استقراء ذكريات أشياء لا حياة فيها؟ يوستار كان واثقاً من ذلك، لكن لايلا هزّت رأسها.
“لا، لا أرى شيئاً.”
أطلق يوستار صوتاً بالكاد يُسمع، بين تنهيدة وتأوّه، ثم تقدّم نحو ما كان ذات يوم الفناء الخلفي.
وما إن استدارت لايلا لتنظر إلى ظهره، حتى شعرت بذلك الإحساس المُرعب مجدداً: وكأن قلبها انتقل من صدرها إلى راحة يدها وقف شعر جسدها، من عنقها حتى خصرها.
كان هناك شيء خلفها.
شهقت لايلا، ثم استدارت بسرعة، وكادت أن تتعثر بقطعة خشب مغروسة في الأرض، لكنها لم تُعر ذلك اهتماماً.
“يوستار.”
كان تنفّسها متسارعاً صوتها بالكاد يُسمع، فربما لم يسمعه يوستار لانشغاله، أو لأن صوته كان خافتاً جداً.
“يوستار، انظر إلى هناك.”
عندما رفعت لايلا صوتها قليلاً، التفت يوستار أخيرًا برأسه نحوها وفي اللحظة التالية، اجتاحه نفس الشعور الذي اجتاح لايلا من قبل كان ذلك الشعور هو الخوف.
في الغابة التي لم يكن فيها أحد قبل لحظات، وبين الأشجار الميتة، كان هناك أناس واقفون كانوا جميعًا يبتسمون بوجوه ملؤها الألم، وأجسادهم ترتعش كما لو أرادوا الفرار، يضطربون ويهتزون.
لكن لم يكن أحدٌ منهم قادرًا على الحركة كانت أقدامهم كما لو أنها التصقت بالأرض، لا تتحرك ولا تهتز.
عرفت لايلا وجه أحدهم كانت امرأة يغطي نصف وجهها وشاح منزلق بشكل مائل.
وفجأة، أحسّت بملمس تفاحة ذابلة كانت قد سقطت من السلة التي كانت تحملها تلك المرأة كان الإحساس حقيقياً لدرجة أنها ظنت لوهلة أن التفاحة في يدها الآن.
قالت بصوت مرتجف حاولت أن تثبّته:
“تلك المرأة…”
وأشارت بإصبعها إلى مئزر المرأة كانت هناك طبعة طين على شكل كف صغيرة ما تزال واضحة تمامًا، لم تتلطخ ولم تُمحَ.
“هي التي اصطدمت بالأطفال قبل قليل.”
نظر يوستار مجددًا إلى المرأة التي أشارت إليها لايلا كانت تبتسم بابتسامة لا تُرى إلا في الكوابيس، وكانت تحرّك أصابعها بتشنّج أشبه بدمية ذات زنبرك معطّل تهتزّ بحركات غير طبيعية.
قال:
“هل ترين ذلك، لايلا؟ جميعهم… جميعهم يحملون نفس بصمة اليد.”
تحرّك بصر لايلا من اليسار إلى اليمين، ثم من اليمين إلى اليسار.
كان محقًا كل من كان يقف في الصف كان يحمل بصمة يد طينية واضحة على جسده أماكن البصمات اختلفت، لكن وضوحها كان جلياً حتى من مسافة بعيدة والأهم من ذلك، أنها كانت جميعًا متطابقة.
قالت لايلا:
“يبدو أن تلك هي علامة “الطارد”.”
أومأ يوستار موافقًا فعادة، من يُمسك به الطارد يصبح هو الطارد التالي، لكن هؤلاء كانوا كما لو أنهم يظلون مُطاردين إلى ما لا نهاية، مثل ذلك الرجل الذي رأوه في المقرّ إن كان الأمر كذلك…
“الطارد أتى.”
همس صوتٌ من مكانٍ ما وعندما التفت يوستار ولايلا إلى مصدر الصوت، جاء نفس الهمس من الجهة المقابلة.
“الطارد أتى.”
“الطارد قد وجدنا.”
“الطارد عثر علينا.”
بدأت الهمسات تتصاعد، وتتحول إلى طنين متداخل مزعج سحب يوستار سيفه من غمده، فيما قبضت لايلا على الصندوق داخل حقيبتها بقوة.
أصدرت الأشجار الميتة أصوات احتكاك جافة وكان الناس يبتسمون الآن بتعبيرات أكثر رعباً؛ شفاههم انقلبت إلى الأعلى، كاشفة عن أسنانهم بالكامل، وحتى حناجرهم الداكنة كانت مرئية بوضوح كأنها ثقوب سوداء مفتوحة.
قال أحدهم:
“أنتِ الآن الطارد.”
فجأة، ظهرت خزانة قديمة صغيرة وسط الغابة—كما لو أنّها كانت موجودة منذ البداية، تقف بهدوء غريبٍ يخلو من أيّ تفسير منطقي.
قبل أن يدركا ما يحدث، فُتحت أبواب الخزانة ببطء شديد، كأنّها تستجيب لصوتٍ خفيّ يدعوها.
داخلها، رأيا طفلاً غريب الشكل؛ شعره غير متوازن—أحد جانبيه قصير، والآخر طويل فوضوي كان الجسم معلقًا بطريقة شاذة داخل الخزانة، حيث كانت أطرافه الأربع تضغط على الأرضية بعنف ضحك بصرير كالأعصاب المكسورة، بصوتٍ قاسٍ يجعلك تشعر بأن شيئًا بداخل صدرك يتكوّن من خوفٍ صارخ.
قال بصوتٍ باردٍ:
«اِبحث عني.»
ثم، فجأةً ودون سابق إنذار، انقطع صوت الضحك سقط جسد الطفل بشكلٍ مروع، غاص في الأرض كما لو ابتلعته حفرةٌ لا نهاية لها
وفي تلك اللحظة بالذات
شعرت لايلا بأن شيئًا مرعبًا وغير مرئيٍّ التفّ حول جسدها بقسوة خافتة.
صرخت:
“يوستار!”
اندفع نحوها محاولة التشبّث بيدها ، لكن يدها زلقت كأنها مصنوعة من زيت اختفت قبل أن يتمكن من الإمساك بها.
“لايلا!”
مع هذا الصراخ، أُغلقت أبواب الخزانة فجأةً بصوتٍ مدوّ كأنما قطعة خشب ضخمة تنهار.
ثم بدأ أولئك الواقفون في الغابة، واحداً تلو الآخر، يختفون كانوا ينهارون كما تنهار دمى مصنوعة من الرمل، فلا يُسمع سوى صوت تساقطهم الخافت.
“لايلا! تبا! لايلا!”
حاول يوستار فتح باب الخزانة، ركله، جذبه، لكنه لم يتحرك رفع سيفه محاولًا تدمير المقبض، لكن الخزانة اختفت من أمامه في طرفة عين.
سقط طرف السيف اللامع على الأرض الترابية بوقعٍ خافت.
و خرج من فم يُوستار شتيمة، وهو يتلفّت حوله بوجه يكسوه الإحباط متأملًا الخراب الخالي.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب من بيلادونا، التي كانت تجلس ساكنة على السرير. وأمسك ذقنها بلمسةٍ خشنةٍ ورفع رأسها للأعلى. “كيف أجعلك تتحدّثين؟” “….” نظر إلى عينيها المرتجفتين، ركل لسانه وأرخى قبضته على ذقنها واستدار....مواصلة القراءة →
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب...
التعليقات لهذا الفصل " 40"